على مر التاريخ بمختلف جوانبه تتوالى الكثير من الأحداث، ودومًا تمر علينا السنون وهي حبلى بالأخبار والتجارب، وكذلك النوائب التي تعلمنا الكثير من المهارات، وتثقلنا بالخبرات المختلفة التي يجب ألا تمر علينا دون استخلاص الدروس والعبر.

يقع على عاتق الكتَّاب والمثقفين تدوين كل تلك الأخبار والتجارب والتطور الثقافي الذي لا ينقطع، بل يجب أيضًا تفنيدها والحديث عنها سردًا ونقدًا على مر التاريخ والأزمان، لتظل كل تلك التفاصيل حاضرة أمام أعين الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل. وبالتأكيد فإن الكلمة هي النواة والأساس لكل ذلك؛ الكلمة التي نكتبها وندونها على صفحات الكتب والمجلات والصحف، وحتى تلك الأحرف الإلكترونية التي تُؤَرْشِفها المواقع العملاقة وصفحات الإنترنت المختلفة.. الكلمة هي النور المشع الذي يبقى على مر الأزمان ليضيء للأجيال القادمة طريقها نحو الرشاد، ويمدها بعصارة خبرات الأجيال التي سبقتها.. الكلمة التي نكتبها لنوثق بها ما تعلمناه في حياتنا وما قرأناه سلفًا مسطورًا على صفحات التراث الذي دونه من سبقونا في مختلف المصادر.

قد يتغير كل شيء أو يزول إلا الكلمة، وربما تنطفئ كل المشاعل إلا تلك التي وقودها الكلمة الراسخة في باطن الأرض، كجذور الأشجار العملاقة التي تقف ثابتة فوق جذوعها شامخة على مر العصور، بل تكاد هاماتها تلامس عنان السماء.

فالكلمة أمانة ومسؤولية عظيمة، فقد قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)(الإسراء:٥٣). وهذا يؤكد على أهمية اختيار الكلمات الطيبة التي تبني ولا تهدم، والتي تعزِّز الأخوة والمحبة بين الناس.

وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ثقل الكلمة وعواقبها في الحديث الشريف: “إن العبدَ لَيتكلم بالكلمة مِن رضوانِ الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبدَ لَيتكلم بالكلمة من سخَط الله لا يُلقي لها بالاً يَهوي بها في جهنم” (رواه البخاري)، فالكلمة الطيبة صدقة، والكلمة السيئة قد تُورد صاحبها المهالك.

هناك من الكلمات ما هو غَث يتلاشى بتلاشي ضوء النهار الذي كُتبت فيه، فلا يبقى ولا يطول أثره ولا يسمن العقل أو يغني الروح.. وعلى الجانب الآخر هناك من تلك الكلمات الثمين الذي يصير وقودًا للنفوس العملاقة، لتنطلق نحو الأمام بلا توقف أو حياد عن هدفها الواضح والغالي الذي تسعى إليه.

إن الكلمة هي مفتاح كل شيء، وقد تكون هي المنجم الذي يحوي الكثير من الكنوز، وقد تكون الكهف الذي يخبئ في باطنه جحور الحيّات وغيوم الظلام، وقد برع الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي حين وصف الكلمة بتلك الأبيات فقال:

أتعرفُ ما معنى الكلمة؟

مفتاحُ الجنة في كلمة

ودخولُ النار على كلمة

وقضاءُ الله هو كلمة

الكلمةُ نور

وبعضُ الكلمات قبور

الكلمةُ نور ودليل تتبعه الأمة

الكلمةُ لو تعرف حرمة.. زاد مزخور

وبعضُ الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري

الكلمةُ فرقان ما بين نبي وبغي

بالكلمة تنكشف الغمة

عيسى ما كان سوى كلمة

أضاء الدنيا بالكلمات

وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم

الكلمةُ زلزلت الظالم

الكلمةُ حصن الحرية

إن الكلمة مسؤولية

وشرف الرجل هو الكلمة

إن مسؤولية الكلمة ثِقل عظيم يقع على عاتق كل من يدوِّن بقلمه أحرفًا وكلمات على وجوه مختلف الصفحات، التي تقرأ سطورها القلوب والنفوس التواقة للمعرفة، لذا فالكلمة -حقًّا- هي التي تبقى على مر الزمان محفورة في العقول والقلوب والنفوس معًا.

الكلمة تغير نفوسًا وتبني عقولاً وتفتح قلوبًا وتشيد آفاقًا، قد تكون الكلمة شجرة مثمرة تشبع بثمارها بطون من يلتجئون إليها، أو جمرة متقدة تحرق بنارها كل من اقترب منها، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ # وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)(إبراهيم:٢٤-٢٦). فكلمة الحق والبناء والكلمة الطيبة، جذورها ممتدة في باطن الأرض وفروعها تلامس عنان السماء، أما كلمة السوء والهدم فهي هاوية مضمحلة لا محالة مهما علت أو انتفشت فمصيرها النسيان.

لذا فإن كلمة المثقف والكاتب تقع في مقام آخر عن غيره، لأن أهميتها تكمن في الدَّور المهم والرائد للكاتب والمثقف في بناء المجتمع ونهضته. فالكاتب والمثقف يعمل على دعم الهوية لدى مجتمعه، مع مراعاة الفروقات الثقافية والبيئية للأحداث والأفكار والأشخاص، فما يصلح لمجتمع قد لا يصلح في مجتمع آخر.

كما أن المثقف لديه القدرة بشكل أكبر على التفرقة بين الحضارة الأصلية والحضارة المقلدة.. فالذي يتناول الكلمة بالقراءة والكتابة يعرف جيدًا أن الحضارة الحقيقية ليست بمجرد الراديو والتلفزيون أو المظاهر البراقة والكلمات الرنانة، إنما يعلم ويدون الكاتب بكلماته، أن الحضارة نتاج الأرض الصالحة، والبذرة الطيبة تكبر وتترعرع برعايتها وبنائها بسواعد أبنائها. فالمثقف والكاتب يقع على عاتقه الوقوف في الصفوف الأولى للمجتمع الراقي والمتقدم، بل هو بكلماته من يحمل النبراس ليضيء للجميع طريقهم نحو الأمام.

كذلك تقع مسؤولية الكلمة -في المقام الأكبر- على عاتق الكتاب والمثقفين الذين يمسكون بزمام نشر الوعي وبناء الإنسان وتنمية المجتمع ودعم القيم والأخلاق. وفي زمننا هذا -حيث تتسارع الأحداث وتتعدد وسائل الإعلام- يزداد وزن الكلمة وتأثيرها في النفوس والعقول. فالكلمة الصادقة تعلي من شأن الأمم وتنير الدروب، والكلمة الزائفة تضل وتفرق. لذا، يجب على الكتاب والمثقفين أن يتحملوا مسؤولية الكلمة بكل جدية وأمانة، وأن يكونوا قدوة في الصدق والإخلاص، وأن يسهموا في نشر الوعي والمعرفة النافعة التي تبنى عليها الحضارات.

وكمثال واقعي على مسؤولية الكلمة وأهميتها، نسلط الضوء على “مجلة حراء” التي نشرت بين صفحاتها كنوزًا ثقافية ومعرفية عملاقة على مدار سنوات طويلة؛ تلك الكنوز التي أثرت الثقافة العربية بكاملها وتربى عليها أجيال من القراء والمثقفين المتلهفين للمعرفة على مدى عقود من الزمان، وبقيت في ذاكرة الثقافة العربية نورًا يضيء الطريق للقادمين من بعيد.

لذا فـ”حراء” وما على شاكلتها من مصادر الثقافة التي لم تنضب قط، هي أكبر الضمانات التي تسجل بالكلمات المرسومة بين دفتيها التراث العربي الثقافي والعلمي، ليبقى حاضرًا في القلوب والعقول والسطور مهما مرت السنوات أو تعاقبت الأجيال.

ومن هنا، تأتي أمانة الكلمة في الإسلام جزءًا لا يتجزأ من مسؤولية الإنسان تجاه نفسه ومجتمعه وأمته، فهي تحمل في طياتها البناء أو الهدم، النور أو الظلام، وتعد من أعظم الأمانات التي يجب أن يحافظ عليها الإنسان، ويحاسِب نفسه عليها قبل أن يحاسَب. فلنجعل من كلماتنا جسورًا للتواصل والتفاهم، ولنبتعد عن كل ما يفرق ويشتت، ولنكن دعاة للخير والسلام والمحبة في كل ما نقول ونكتب. 

(*) كاتب وأديب مصري.