الشيخوخة، هي المرحلة العمرية التي تبدأ فيها الوظائف العقلية والحسية للانسان في التدهور بصورة أكثر وضوحًا مما كانت عليه في الفترات السابقة من العمر. وفي تلك المرحلة يحتاج الإنسان إلى رعاية إنسانية وطبية أكثر، وتلك سنة الله في خلقه، قال تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(الروم:٥٤).
والشيخوخة، مرحلة من مراحل العمر تبدأ من سنِّ الخمسين فما فوق. وفي العصر الحديث بدأت المجتمعات الإنسانية تنظر باهتمام إلى كبار السن واحتياجاتهم، خاصة بعد زيادة عدد المسنين نتيجة زيادة متوسطات عمر الإنسان. فتمَّ سَن القوانين واللوائح التي تنظم حقوق المسنين وتطالب بها، وتقرر لهم الحماية والحق في العيش بكرامه.
حيث يُحتفل يوم ١٥ يونيو من كل عام، كـ”يوم عالمي للتوعية ضد تعنيف المسنين” منذ اعتماده رسميًّا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام ٢٠١١م. ففي هذا اليوم من كل عام، يعبر العالم بأسره عن معارضته للمعاناة التي تقع على الجيل الأكبر سنًّا.
والثابت تاريخيًّا أن الإسلام دين الرحمة له السبق في هذا الميدان منذ بداية ظهوره. فلقد أمرنا الإسلام أن نَبَرَّ والدينا ونرعاهما، وأن نحفظ كرامتهما، وأن نهتم بهما امتثالاً لقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)(الإسراء:٢٣-٢٤).
إن رعاية المسنين في الإسلام تستهدف فتح أبواب المشاركة الإيجابية للمسنين في الحياة العامة ما داموا قادرين على ذلك، أما إذا عجزوا فمن الطبيعي أن تقوم الأسرة برعايتهم؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن مِن إجلال الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِم” (رواه أبو داود)، أي إن من تبجيل الله وتعظيمه وأداءِ حقه، تعظيمَ وتوقيرَ الشيخ الكبير في السن.
من هنا ينطلق منهج رعاية المسنين في الإسلام من منهج سامق، بعيد عن التميز بين فئات المسنين على أساس الجنس أو اللون أو الدين.. فالإسلام لا يقر قواعد الرعاية للمسنين من منطلق عنصري أو عرقي، والمسلم يرحم الناس كافة، والأطفال كافة والمسنين كافة، بعُجَرهم وبُجَرهم، مسلمهم وغير مسلمهم.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا آنفًا- صور الرعاية بالمسنين في قوله: “إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلِم، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيهِ والجافي عنه، وإكرامَ ذي السلطانِ المقسِطِ” (رواه أبو داود)؛ فجمع الرسول صلى الله عليه وسلم بين المسن وحامل القران والسلطان، وقدم المسن وكأنه يقول وقِّرْ المسن كما توقر السلطان والرئيس والحاكم، وعظِّمْ المسن كما تعظم حامل القرآن الحاذق. وتحت لفظ “إكرام ذي الشيبة المسلم” تأتي كل صور الرعاية والإكرام للمسنين، كالرعاية الصحية، والرعاية النفسية، والرعاية الاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من صور العناية التي ينادي بها المجتمع الدولي الآن.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر النماذج العملية البسيطة فيما يتعلق بجوانب الذوقيات الاجتماعية العامة حينما قال: “يُسلِّم الصغيرُ على الكبيرِ، والمارُّ على القاعدِ، والقليلُ على الكثيرِ” (رواه البخاري)؛ فالبند الأول في “الإتيكيت الإسلامي” الوارد في الحديث، هو مبادرة الصغير بالتسليم على الكبير وتوقيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: “أمرني جبريلُ أن أُكبِّرَ” (رواه الطبراني)، وهذه قاعدة عامة في الإسلام بأن يقدم الكبير والمسن في وجوه الإكرام والتشريف عامة. كما أمر صلى الله عليه وسلم بتقديم المسن في الإمامة، ففي الصحيح من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم” (رواه البخاري).
وفي الفرائض أجاز الإسلام للمسن أن يفطر في نهار رمضان -ويطعم- إذا شقَّ عليه الصيام، وأن يصلي جالسًا إذا شق عليه القيام، وأن يصلي راقدًا إذا شقَّ عليه الجلوس. ورخص للمسن أن يرسل من يحج عنه إن لم يستطع أن يقوم بأداء شعار وأركان الحج، وهكذا.
وفي إشارة أخرى إلى أساس أخلاقي آخر من أسس اهتمام الإسلام ورعايته للمسنين، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أصحابه وقائدي جيوشه بقوله: “انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً ولا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تعلوا، وأصلحوا وأحسنوا، فإن الله يحب المحسنين” (رواه الترمذي).
والإسلام يؤكد أن المكان الأنسب والبيئة الأفضل لرعاية المسنين يتمثلان في الأسرة، اعتبارًا لقيمة تواجد كبار السن في الأسرة، سواء بالنسبة للمسنين أنفسهم أو بالنسبة لأعضاء أسرهم، وكذلك لما ينطوي عليه هذا التوجه من معان مستمدة من أوامر الإسلام بالإحسان بالوالدين وبرِّهما، إحساسًا لهما بالتراحم والتعاطف، واعتبارًا لقيمة وجود كبار السن في الأسر كأساس لمناخ نفسي وجداني إيجابي، وتدريب لأعضاء الأسرة أبناءً وأحفادًا على السمو الوجداني، وترقية المشاعر الإنسانية النبيلة، من خلال تفاعل أعضاء الأسرة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا” (رواه الترمذي)، وفي الحديث وردت لفظة “يوقِّر كبيرنا” ولم يقلْ صلى الله عليه وسلم “يوقِّر الكبير” ليقرر أن الاعتداء على الكبير بالقول أو الفعل أو الإشارة، هو اعتداء على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نسب المسنَّ إليه وانتسب إليه، بقوله “كبيرنا”.
والإسلام يحرم كل أنواع العنف والإساءة إلى المسنِّ بكافة أنواعها، واستبدالها بكل أنواع اللين والعطف الذي يميز المجتمع المسلم المترابط. وهكذا أخذ الشرع الإسلامي السمح على كاهله مهمة الرعاية للمسنين، والتخفيف عليهم.
وختامًا، يمكن أن نجمل رعاية الإسلام للمسنين في عدة نقاط هي:
– مسؤولية المجتمع بكامله عن شيوخه ومسنِّيه، علمًا بأن رعاية المسنين واجب عيني على الأنظمة والحكومات والشعوب، ويتمدد الواجب إلى حشد الجهود الفردية والجماعية والرسمية وغير الرسمية لرعاية المسنين.
– الرعاية الكاملة والشاملة للمسن صحيًّا ونفسيًّا وعقليًّا واجتماعيًّا، وغيرها من صور العناية، وقد جمعها اللفظ النبوي في جملته: “إكرام ذي الشيبة”.
– توقير المسنين في المعاملات الاجتماعية اليومية المختلفة.
– تقديم المسنين في وجوه الإكرام عامة كالإمامة والطعام والشراب.
– التخفيف عن المسنين في الأحكام الشرعية، ومراعاة الفتوى الشرعية لهم.
(*) باحث في التراث العربي والإسلامي / مصر.