النوستالجيا الحنين إلى الماضي

دائمًا يبقى لدى الإنسان الشوق والحنين إلى ماضيه، وذكرياته وأحلامه، لذا لم يكن غريبًا أن يصف الشعراء والأدباء تلك الحالة ويوثقوها بأشعارهم، إذ يقول الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في مطلع معلقته، باكيًا على الأطلال ومستوقفًا أصحابه: “قِفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”، أما المتنبي فيقول واصفًا شوقه وحنينه:

ما الشوقُ مُقتنعًا مِنّي بِذا الكَمَد      حتى أكـــونَ بلا قلــبٍ ولا كَـبِـــد

ويقول محمود درويش: “الحنين وجع لا يحنّ إلى وجع؛ وجع البحث عن فرح سابق لكنه وجع صحي، لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل وعاطفيون. الحنين ندبة في القلب وبصمةُ بلدٍ على جسد”. ويصف أحمد خالد توفيق تلك الحالة بقوله: “هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجنّ من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان”.

ولكن ما هو الحنين إلى الماضي؟ وما أسبابه؟ وكيف تأثر الأدباء والشعراء والفنانون به ووصفوه في أعمالهم؟ وما فوائده؟

طبيعة النوستالجيا

يعود مصطلح “النوستالجيا” أو الحنين إلى الماضي، إلى المصطلح اليوناني القديم “Nostalgia” الذي يعني “ألم الشوق”. وقد كان للحنين في الماضي أوجه معروفة الملامح؛ فهناك الحنين إلى الوطن الذي يعيشه المغتربون والتجار الذين يغادرون بيتهم أو بلدهم لزمن غير محدود، وكذلك الحنين إلى الحبيب والأهل والخلان وأطلال سكناهم.. وأيضًا الحنين إلى زمن الصبا وعنفوان الحياة، والحنين إلى زمن الشهرة والنجاح. وهذا النوع الأخير يحمل الكثير من عذوبة المشاعر والذكريات الجميلة، التي ألهمت الفنانين وتغنّى بها الشعراء في قصائدهم، والأدباء في رواياتهم، والموسيقيون في روائع ألحانهم.

ويتحول الحنين أحيانًا إلى حالة مرضية مزمنة أو مستعصية، لها طابع رومانسي في مخيلة صاحبها، وذلك -تحديدًا- حين يصبح مصطبغًا ومقترنًا بغاية في حد ذاتها، فإن كان الحنين هنا إلى الوطن أو إلى الأحباء.. فإن العودة أو اللقاء ينفيان وجع الحنين، وسرعان ما يستبدله صاحبه بحالة أخرى تخدم الغاية نفسها. وتشبه هذه الحالة عوارض من يستعذب لعب دور الضحية فيرفض الخروج من إطارها. ومن يسمح لمشاعـر الحنين في الهيمنة على تفكيره، والاستحواذ على مساحة أكثر من هامشها الطبيعي، يبدأ بالانفصال عن واقـــع الحياة ليعيش في عالم وهمي افتراضي، مع فقدان التفاعل مع المحيط وبالتالي الرغبة في الحياة، لتتفاقم حالته وتتحول إلى اكتئاب مرضي.

وأكدت دراسات عديدة، أن الحنين مرتبط بستة أنواع من المشاعر، وهي الحنان والانزعاج والعزلة والفقدان والخوف والصفاء. وتشكل فيما بينها خليطاً من المشاعر الإيجابية والسلبية. وتتفاوت حدة مشاعر الحنين -مثل الخوف والفرح- بين شخص وآخر تبعًا لظروف الحياة والعمر ونفسية الإنسان. فمشاعر الحنين عند الإنسان المادي أو المستقر عاطفيًّا واقتصاديًّا، تكون أقل قوة وتأثيرًا مقارنة بنظيره المتقدم في العمر أو المغترب أو غير المستقر.

ويتم استثمار حالة الحنين في سوق التجارة وصناعة الإعلانات، حيث يتم -بين الحين والآخر- إعادة إنتاج ما كان رائجًا في زمن مضى، من الأزياء والموسيقى والسينما والسيارات، ليشكل الحنين -بهذا- دافعًا لدى نسبة كبيرة نحو اقتناء صورة تجسد ماضيهم. وتبقى مشاعر الحنين لدى الإنسان في حالة سبات أو كمون، حتى يواجه مؤثرات خارجية توقظها دون إرادة منه. ومن أبرز هذه المؤثرات، الموسيقى والعطور والاحتفالات المرتبطة بالشعائر الدينية.

النوستالجيا والأدب

يعود مصطلح الحنين إلى الأساطير الإغريقية القديمة، إلى البطل “أوديسيوس” أحد أشهر المحاربين الذين شاركوا في حصار مدينة “طروادة” في حرب طويلة، وكان صاحب فكرة الحصان الخشبي الذي اختبأ في بطنه الجنود حتى دخلوا مدينة “طروادة” واستولوا عليها وذبحوا أهلها. لذلك حلت عليه لعنة عرافة المدينة بأن يتيه في البحر بلا مستقر، وقد حدث ذلك عندما حاول العودة إلى بلدته “إيثاكا”، حيث ضاع في البحر المتوسط بين أمواجه وجزره لعشر سنوات كاملة، يدخل سلسلة  من المغامرات ويقابل وحوشًا أسطورية، ولكنه يتغلب على كل ذلك بدافع من حنينه الذي لا يهدأ من أجل الوصول إلى “إيثاكا”، ويسترد عرشه وزوجته وابنه.

وآمن قدماء المصريين بالبعث، واخترعوا الأساطير التي تتكلم عن العالم الآخر والحياة بعد الموت، واهتموا بالتحنيط حتى لا يفنى الجسد ويبقى الإنسان على هيئته التي كان يعيش بها قبل الموت.. ففي القبر المغلق لا يجد الميت -بعد عودته إلى الحياة- مناصًا من العيش في دوامة لا تنتهي من الحنين، إنه يتذكر حياته السابقة بكل ما فيها من أفراح وأتراح.

وتبدو ظاهرة النوستالجيا في الأدب العالمي بشكل واضح، ففي العادة يعتمد الكاتب على تجربته الذاتية، خاصة في أعماله المبكرة قبل أن يصبح محترفًا، والتجربة مركبة يختلط فيها الماضي بالحاضر.. ولعل أشهر نموذج لذلك هو رواية “بحثًا عن الزمن الضائع” للأديب الفرنسي “مارسيل بروست”، وهي ملحمة طويلة يستحضر الكاتب فيها ذكريات طفولته، ويربطها بالإشارات الموجودة في الحاضر، فكل تصرف يقوم به أو مشاعر يحس بها، يعود في جزء منه إلى أحداث الطفولة.. إنها رواية الحنين الأولى بحثًا عن زمن الطفولة الذي يهمله الآخرون، رغم أنه هو الذي يبني شخصية الإنسان في المستقبل.

وكان الحنين إلى الديار والأم والحبيبة، وإلى الأصدقاء والأمكنة، منبع إلهام عدد كبير من الشعراء والأدباء العرب، ويتجلى هذا الحنين في العصر الجاهلي في شعر امرئ القيس الذي يعد أشهر من بكى على الأطلال وذكرى الديار، حيث يقول في مطلع معلقته الشهيرة:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

                                        بسِقْط اللِّوى بين الدَّخول فحَوْملِ

ولم يفت أمير الشعراء أحمد شوقي أن يصف حالة شوقه وحنينه إلى الوطن في شعره:

اختلافُ النهار والليل يُنسي

                                       اُذكُرا ليَ الصِّبا وأيامَ أُنسي

وأغنى أدباء المهجر المكتبة العربية بروائع الأعمال والقصائد التي تفردت بقيمتها وجماليتها اللغوية والفكرية، ذلك كما في أدب جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وغيرهما.

وفي الأدب العربي عديد من الأعمال، ومن أشهرها رواية “الأيام” لـ”طه حسين” الذي يروي فيها أحداث طفولته بإحدى القرى الفقيرة في صعيد مصر، ويستعيد بأسى وحزن كيف أنَّ آخر لون يتذكره كان اللون الأحمر.. فقد أصيب وهو صغير بحمى “الحصبة”، وألبسه أهله ثوبًا أحمر اللون، اعتقادًا منهم بأن هذا اللون سيجعله يبرؤ من هذا  المرض، لكنه يصاب في النهاية بالعمى. وبالطبع، هي رواية حزينة ولكن هذه الإعاقة لم توقفه، ودفعه التحدي لأن يكون عميدًا للأدب العربي.

النوستالجيا والفن

لعل أشهر الأفلام التي حملت الاسم نفسه، هو فيلم “نوستالجيا” للمخرج الروسي “أندريه تاركوفسكي” الذي يطلق عليه “شاعر السينما”.. مخرج روسي يرحل إلى إيطاليا بحثًا عن موسيقار مات مغمورًا هناك، وتتداخل الأحداث المعاصرة مع وقائع الماضي، التي تتكشف مع مواصلة البحث، ولا يستطيع التفريق بين ما يحدث له في واقع البحث وما يحمله داخله من ذكريات.. وقد حصل هذا الفيلم على عديد من الجوائز، ويعدُّ واحدًا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما. وقدم المخرج الأميركي “جورج لوكاس” في بدايات دخوله صناعة السينما، فيلم “أميريكان غرافيتي”، الذي شكل ظاهرة مختلفة من الحنين بين الشباب لدى عرضه في عام 1973م. وتمثلت تلك الظاهرة في حنين الشباب المراهق في السبعينيات إلى زمن الخمسينيات من القرن الماضي، الذي لا تملكه ذاكرتهم لتنتشر ثقافة جديدة تعيد زمن تلك المرحلة.

وعلى المستوى العربي شاعت أفلام الحنين، ومنها فيلم “إسكندرية ليه”، الذي يستعرض فيه مخرجُه يوسف شاهين جانبًا من شبابه المبكر، حين كان يحلم بالسفر إلى “هوليوود” ليتعلم إخراج الأفلام. وعلى نفس المنوال صنع أسامة فوزي فيلم “بحب السينما” ليتحدث عن الأفلام التي شكلت وجدانه ودفعته لعشق السينما.. أفلام كثيرة يروي فيها صناع السينما تجاربهم الذاتية، وكلها حققت نجاحًا كبيرًا لأنها مست وترًا حساسًا في نفوس المشاهدين، فالحنين للماضي هو لغة مشتركة بين البشر.

فوائد النوستالجيا

النوستالجيا كما يعرِّفها علماء النفس، آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، وهي تكسر حالة الشعور بالملل أو الوقوع في أسر الوحدة، خاصة عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي واللحظات السعيدة الدافئة، الأمر الذي يساعده على الاستمرار في حياته. فالنوستالجيا هي إحدى السبل الناجحة التي تحد من الاكتئاب ولو بشكل مؤقت؛ فالشعور بالوحدة يدفع المرء إلى العودة إلى اللحظات السعيدة في الماضي، وهذا بدوره يسهم في تعزيز الثقة الاجتماعية لدى الشخص، ويولد نوعًا من المشاعر الأفضل.

وتؤكد الدراسات الحديثة أن الحنين ليس مجرد استغراق في الماضي، وقد كشف التشخيص بواسطة أجهزة المسح الدماغي أن هناك جزءًًا في المخ يختص بهذه الذكريات، لذلك فإنها يمكن أن تكون مصدرًا للإلهام وبث مشاعر الراحة في النفس البشرية. ويمكن أن تساعد الذين يعانون من لحظات عصيبة في حياتهم المهنية على اجتياز هذه اللحظات، بل تحفيزهم على تأدية أعمالهم بشكل أفضل عندما يتخلصون من ضغوط الحياة الحديثة، فيمكن للفرد العودة إلى فترة يختارها عن قصد، كـمشاهدة فيلم قديم أو رؤية مسرحية، أو قراءة كتاب قديم.

وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة “سري” في لندن عام 2017م، أن للنوستالجيا فوائد صحية رغم ما يسببه الحنين إلى الماضي من ألم، ومنها شحن الدماغ بطاقة إيجابية لأنه يثير العواطف بشدة، وتحقيق الشعور بالانتماء والرضا النفسي، وزيادة رغبة الفرد في الاستمرار بالعيش وخوض تجارب جديدة.. كما أن الماضي بالنسبة للإنسان يمده بالشعور بالأمان والراحة النفسية، تمامًا كالشعور الذي يحققه التأمل أو رياضة اليوجا، فضلاً عن أن الحنين للماضي يثير الإلهام وتعزيز التفكير الإبداعي والتفاؤل.

أيضًا إن الحنين للماضي، يجعل الناس أكثر دفئًا بالمعنى الحرفي. فقد وجدت دراسة علمية تم نشرها في عام 2012م، أن الاستماع إلى موسيقى الحنين إلى الماضي، تسبب في ارتفاع درجة الحرارة المحيطة للمشاركين.

أما بالنسبة لكبار السن، فغالبًا ما تؤدي استعادة الماضي إلى الشعور بمشاعر إيجابية، لأنها تذكر الفرد بمكامن قوته القديمة وتمحو عنه وهن الشيخوخة. يقول الدكتور “كلاي روتلدج” عالم النفس الاجتماعي في جامعة ولاية “نورث داكوتا”: “إن الحنين إلى الماضي أو النوستالجيا، يمكن أن يعزز من المزاج، والتفكير الإيجابي، واحترام الذات، ومشاعر الترابط الاجتماعي، والتفاؤل بشأن المستقبل”. النوستالجيا إذن، ليست حزنًا على الماضي، بل قد تكون دافعًا لاستمرار الحياة ومواجهة المستقبل.

(*) كلية التربية، جامعة الإسكندرية / مصر.

المراجع

(1) النوستالجيا حنين وألم، إبراهيم المليفي، مجلة العربي، العدد:٧٧١ (٢٠٢٣م).

(٢) ويكبيديا (2023م)، الحنين، https://ar.wikipedia.org

(٣) الحنين.. عناق الوهم، رشا المالح، صحيفة البيان، الإمارات العربية المتحدة (٢٠١٢م).