لا شك أننا جميعًا نلمس التقدم العلمي الكبير، وإنجازاته السريعة، بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة تتربع التكنولوجيا على عرشها، خاصة الحاسوب الذي يعتبر أداة أساسية لا غنى عنها في كافة المجتمعات على اختلاف تقدمها الاقتصادي والاجتماعي مع قدوم القرن الحادي والعشرين.
وبذلك أصبح الاتصال المباشر وغير المباشر بين دول العالم وثقافاته ضرورة لا بد منها لتبادل الخبرات العلمية والتكنولوجية، وفي ظل العولمة فإن أي دولة لن تستطيع العيش في عزلة من هذه التطورات، الأمر الذي يؤكد الحاجة لتعلم لغة أجنبية، خاصة اللغة كثيرة الانتقال والمرتبطة بهذا التقدم، مثل الإنجليزية، تيسر للفرد والمجتمع سبل التفاهم مع العالم وتساعده على الاندماج فيه والاستفادة من إنجازاته وكذلك المساهمة في زيادة مبتكراته، وذلك إلى جانب تعلم أداة الاتصال الأساسية الممثلة في اللغة الأم.
بيد أن كثيرًا من دول العالم بدأ يتجاذبها اتجاهان بينهما تعارض إلى حد كبير، يتمثل الاتجاه الأول في ضرورة الأخذ بمظاهر التقدم الحضاري وما يشتمل عليه من تعليم أفراد المجتمع لغة أجنبية أو أكثر لاقتناعها بأن الانغلاق عن العالم غير مجد في ظل العولمة، وأن تعلم الفرد لغة أخرى بجانب لغته الأصلية هو السبيل الأمثل لتوسيع مداركه وإثراء تجاربه.
أما الاتجاه الثاني فإنه يرى أن تدريس لغة أجنبية في التعليم العام، خاصة في المرحلة الأساسية سيؤدي إلى تفتيت الثقافة والهوية القومية والمتمثلة باللغة الأم، ويؤكد هذا الاتجاه أن اللغة الأجنبية لا تدرس من فراغ، فهي ليست مفردات وتراكيب نحوية فحسب، وإنما هي وعاء لثقافات وعادات وقيم للناطقين بها، وما يترتب على ذلك من تأثير على وجدان المتعلم.
وفي عالمنا العربي، بدأ الحوار حول تدريس اللغة الأجنبية في العديد من الندوات التربوية وفي الأوساط العلمية ولدى المهتمين بتعليم اللغات الأجنبية في الجامعات والمؤسسات التعليمية المماثلة، ويستطيع المتتبع لهذا الحوار أن يتبين الاتجاهين المشار إليهما آنفًا، إذ يدعو القائلون بالاتجاه الأول إلى التوسع في تعليم اللغة الأجنبية وإدخالها في المرحلة الأساسية، بل وفي مرحلة رياض الأطفال، في حين يدعو الاتجاه الآخر إلى إلغاء تدريسها في هذه المرحلة أو تأجيل إدخالها إلى السنوات الأخيرة من المرحلة الأساسية.
وعلى الرغم من تعارض الاتجاهين المذكورين وصعوبة الأخذ بواحد منهما دون الآخر، فمن الملاحظ أن تعليم اللغة الأجنبية في المرحلة الأساسية أضحى أكثر انتشارًا سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة.
تعليم لغة الضاد لأهل الأقليات
لقد ازداد الاهتمام العالمي في العقود القليلة الماضية بتعليم الصغار لغة أجنبية غير اللغة الأم، وكان ذلك واضحًا في المجتمعات المتعددة ثقافيًّا ولغويًّا، مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وذلك من أجل توحيد اللغة والثقافة وتحقيق مبادئ الديمقراطية وتكافؤ الفرص التعليمية. وقد صاحب تلك الجهود محاولات لحل بعض المشكلات الناجمة عن تعليم أبناء الأقليات، حيث استعانت تلك المجتمعات ببرامج تربوية خاصة أو تنويع البرامج التدريسية، بهدف التعامل تعليميًّا مع أبناء جماعات الأقليات، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
التعليم ثنائي اللغة حيث يتعلم التلميذ لغتين في نفس الوقت بشـرط أن يزداد ما يقدم إليه باللغة الإنجليزية تدريجيًّا على حساب ما يقدم إليه بلغته الأم، وذلك بهدف تمكينه من اللغة الإنجليزية، لكي تحل محل لغته الأولى تدريجيًّا.
برنامـج غمر أو انغماس التلميذ، حيث يتم تعليم الطفل باللغة الإنجليزية منذ البداية مع إهمال لغته الأولى. وهذا النموذج أكثر انتشارًا في بعض مناطق كندا.
تعليم اللغة الثانية: هنا يتعلم الأطفال لغتهم الأولى ثم يلتحقون في جزء من يومهم الدراسي ببرامج تعليم اللغة الإنجليزية. وهذا البرنامج يشجع انتشار اللغة الإنجليزية بطريق غير مباشرة من خلال المدارس ووسائل الإعلام. ويلقى هذا النموذج تشجيعًا من الولايات المتحدة أيضًا.
وتعتبر اللغة الثانية لغة إضافية يلجأ إليها المجتمع لتعدد اللغات فيه، أو لوجود أكثر من لغة في أقاليمه، حين يجد أفراد إقليم ما صعوبة بالغة في فهم إخوانهم من إقليم آخر كما هو الحال في الهند ونيجيريا مثلاً. وتستخدم اللغة الثانية كلغة رسمية في دواوين الحكومة وفي التعليم والتجارة وفي المناسبات الرسمية التي تجمع كل الأقاليم، وهي ضرورة من ضروريات الحياة والتفاهم الاجتماعي. وتعتبر الإنجليزية رائدة في هذا المضمار إذ إنها تستخدم كلغة ثانية في هذه البلدان بسبب الإرث الاستعماري
بالنسبة للدول العربية التي يختلف نظامها التعليمي الرسمي عن النماذج الثلاثة السابقة، فإن النموذج المتبع في نظامها التعليمي هو نموذج تعليم اللغة غير العربية باعتبارها لغة أجنبية، وهي اللغة التي نتعلمها لقراءة المراجع الأجنبية، ولكي نفهم الاتجاهات السائدة وحضارة وأدب هذا المجتمع الذي نتعلم لغته، أو لكي نخاطب أهله ونتفاهم معهم وننقل عنهم ما وصلوا إليه من تقدم وتكنولوجيا، أو لكي نتعلم علمًا معينًا لا يكتب إلا بهذه اللغة مثل علوم الطب والهندسة، وقد نتعلم لغة أجنبية لأغراض خاصة كالسياحة والتجارة والصناعة… إلخ.
تصدي الجامعات لنشر لغة الضاد
ولنضرب مثلاً على ذلك مما شاهدناه بأنفسنا، فقد عقدت عدة دورات تدريبية في اللغة العربية وتعليمها للأجانب، بمركز اللغة العربية بجامعة القاهرة، ويتولى إدارته عالم لغة ومجمعي معروف، من خلال هذه الإدارة انطلق فريق من أعضاء هيئة التدريس ليؤدوا دورًا قوميًّا عربيًّا شديد التميز في تعليم الطلاب الأجانب اللغة العربية من خلال محاضرات عامة للأساتذة الكبار في شتى مجالات الفكر العربي والإسلامي.
وينهض على الإعداد لها، مدرسون متخصصون، ثم يقومون بالتدريب اللغوي عليها، وإلى جوارها مجموعات حوار ومناقشات ودراسات أخرى تبدأ من العامية المصرية وتنتهي إلى تنمية مفردات الفصحى وتحليل تراكيبها، تعقبها محاضرات تتناول التعريف بالثقافة العربية، وتاريخ الحضارة الإسلامية وعلوم اللغة العربية، إلى جانب ما توفره لهم الخارجية المصرية من زيارات للأماكن السياحية الكبرى في مصر، التي تحكي فصولاً من تاريخها العريق.
والشاهد هنا هو ذلك الدور البارز الذي تنهض به الخارجية المصرية ماثلاً في دور السيد السفير أشرف زعزع أمين عام الصندوق وعضو مجلس إدارة مركز اللغة العربية الذي دأب على إرسال هذه الدورات ومتابعتها منذ حضور أعضائها إلى مصر وحتى سفرهم منها، وساعده في ذلك رجال يعملون لصالح اللغة العربية، ويتولون الإشراف الإداري على هذه الدورات منذ بدايتها وحتى نهايتها.
وينطلق الدارسون منذ اليوم الأول ينهلون من اللغة ومصادرها على أيدي أساتذة أمناء يجب أن يشار إليهم في تبني هذا الدور القومي العربي، وهم قانعون بأن يظلوا جنودًا مجهولين يقومون على حراسة اللغة ونشر تراثها في عصر العولمة وزحام الثقافات، وقد تم ختام دورة منذ أيام في وزارة الخارجية المصرية لطلاب من تاتارستان وعددهم تسعة عشر متدربًا كان مطلبهم الوحيد في نهاية الدورة أنهم يريدون العودة إلى مصر لتعقد لهم دورات مماثلة، يُلمُّون فيها المزيد من الثقافة العربية التي لم يكونوا يعرفون حدودها من قبل.
والحق أن الخارجية المصرية قد أسهمت – كما تسهم جميع وزارات الخارجية العربية دون ضجة إعلامية – في تخريج مئات الدورات في مجالات متعددة، وتخصصات متباينة، وكان نصيب اللغة العربية منها أكبر عدد من الدورات التي أتت ثمارًا طيبة بات لإغفالها ضربًا من الإغفال لبعد حضاري ملموس تشرف به، وقد علمت مئات من الدارسين أصبحوا في بلادهم سفراء للغة العربية والفكر الإسلامي، وهم يحلمون أن يظفروا ويطلعوا على المزيد.
لقد كانت بعض جامعات تلك الدول ترسل أحيانًا مشرفًا عربيًّا مع الدورة، يرافق طلابها إلى أن يعودوا إلى بلادهم، وهكذا كثر عدد المتدربين، وعدد المشرفين، وتنوعت جامعاتهم بين جامعات أرمينيا وجمهورية جورجيا، وأوكرانيا، وجامعة كييف، وجمهورية بوروسيا، وجامعة الفارابي، والجامعة القازاقية التركية، وجامعة القانون الدولي، وكلية الاستشراق، وجمهورية أوزبكستان، والجامعة الإسلامية، وجمهورية أذربيجان، وجمهورية روسيا الاتحادية، ولا شك أن لهذه المساحة من التعاون أصداؤها المؤكدة في سبيل خدمة اللغة العربية، وزيادة عطائها الدولي .
الدورات التدريبية واستمرار العطاء
لقد تجاوزت المشاركات إلى تجهيز وإعداد قسم للغة العربية بجامعة ببريفان الأهلية بجمهورية أرمينيا، وجامعة كوناسيتي بجورجيا، كما تم إرسال خبراء عرب لتدريس اللغة العربية بمعهد شركاس للعلوم الإدارية بجمهورية أوكرانيا وغيره من المعاهد والكليات إلى جانب ما تم إرساله من طرود كتب ومراجع لتعليم اللغة العربية وآدابها، بالإضافة إلى مواد إعلامية وثقافية عن الوطن العربي، ثم طرود أخرى من الكتب في القانون الدولي والشريعة الإسلامية وخرائط وشرائط فيديو وموسوعات في علوم اللغة العربية والمعاجم وبرامج كمبيوترية وأجهزة كمبيوتر وصحون هوائية بمشتملاتها ضمانًا لاكتمال خدمة نشر اللغة العربية بكل التقنيات .
وتستمر الدورات التدريبية، ويستمر العطاء ونحسب أن هذه الصورة التقريبية الكاشفة عن جهود الخارجية تستدعي الفخر والاعتزاز بهذا الدور الفاعل والرائد الذي ينبغي أن يسجل لحكومات العربية الواعية التي لم تبخل بالإنفاق على هذه الأنشطة لتكثيف الاهتمام وتعلم اللغة العربية الفصحى.
أما إذا أردنا التعرف على تفاصيل أكثر عن دور وزارات الخارجية العربية فقد يطول الأمر ويحتاج إلى كتابات إعلامية كثيرة يمكن للإعلام العربي أن يوجه شيئًا من الاهتمام بمتابعة هذه الأنشطة القومية التي تتبناها الخارجية العربية بما لا يقل عنه أداء المراكز الثقافية الأجنبية للدول الكبرى على غرار ما ينهض به المعهد البريطاني في تعليم الإنجليزية، أو معهد جوته في تعليم الألمانية، أو المركز الثقافي الفرنسي في تعليم الفرنسية.
وفي تصوري أن ثمة مطلبًا إعلاميًّا لمتابعة تفاصيل هذه الدورات وتلك الأنشطة ورصد نتائجها، خاصة أنه دور واسع المدى بين شرق وغرب من طلاب البوسنة والهرسك إلى طلاب الجمهوريات الإسلامية الأخرى، لتأسيس وتأصيل ونشر للثقافة العربية واللغة العربية الفصحى، يستوجب التوقف والتأمل والمزيد من التشجيع والتعميق لدائرة الأصالة العربية التي تمثلها اللغة العربية والثقافة العربية في ضجيج مشاغلنا المعاصرة وزحام ثقافات الدنيا.