يُمكن تحديد المَدَى الذي تَبلُغهُ حَرَكة التاريخ بالمَدَى الذي تتحكَّم فيه كُلّ عوامِل الحياة في تحديد حَرَكة البَشَر. وذلك بِمَعنَى أنَّ التاريخ هو الإطار الجامِع الوحيد والمُفصِّل لِكُلّ تفاعُلات الحياة البَشَريَّة في كافَّة جوانِبها، بِما يعني أنَّ “عِلم التاريخ” هو العِلم الوحيد القادر على وضع كُلّ تفاصيل الحياة الإنسانيّة في بَوتقة البحث والتجريب العلمي المُمَنهَج.
ويُمكن القول أيضًا إنَّ وضع أي مسألة في إطارٍ مِن البحث والتجريب العلمي لا بُدَّ وأن يتحدَّد في إطار تاريخ نشأة تلك المسألة، إضافةً لدراسة تاريخ تطوُّرها في إطار مُحدِّدَات التاريخ العامّ الذي نشأت وتطوَّرت تلك المسألة في إطارِه. بما يعني أنَّ تلك العُلُوم الاجتماعيَّة والبحثيّة التاريخيّة – والتي تربُوا في وقتِنا الحالي على ثمانية عشَرَ عِلمًا – قد نشأت في مجموعِها وتفصيلاتِها في إطارٍ مِن مُحاولة فَهم الحياة الإنسانيّة ورَصد تطوُّراتِها.
وإذا ما أخذنا على سبيل المِثال ظاهِرَةً جديرةً بالاهتمام، كظاهِرَة الهَجمَة المغُوليّة الهدَّامة التي حَدَثَت في القرن الثالث عشَر، فإنَّ دراسة تلك الظاهرة لا يُمكن أن تَتِمَّ مِن واقِع اعتبارها طَفرَةً تاريخيَّة، إذ إنَّ مُجرَّد اعتبارِها طفرَةً تاريخيَّةً تُعبِّر بالضرورة عن جَهلٍ بحقيقة أنَّ التاريخ هو مجموعة مِن الظواهِر الاجتماعيَّة التي تنشأ في إطارٍ مِن التطوُّر والتدرُّج، واللذان يُعدَّان سُنَّة الحياة الاجتماعيَّة وديدنَها. وقد تحدَّث العلَّامة الكبير الدكتور / صُبحِى وَحِيدة عن ذلك الانفجار السُكَّانِىّ المقرُون بِنَقصٍ حادٍّ في الموارِد ومصادِر الغِذاء، والذي أدَّى بـ “جنكيز خان” إلى تجييش تلك القبائِل المغُوليَّة الهمَجِيَّة في إطار مجموعاتٍ قِتالِيَّةٍ جيِّدَة التشكيل، وقد تمكَّنَت تلك المجموعات مِن فتح ثلثي الكُرَة الأرضيَّة في غُضُونِ خمسين سَنةً، وهي أسرع وأشرَس العمليَّات التوسُّعِيَّة التي حَدَثَت على مدار التاريخ، والتي تمَّت في إطارٍ مِن تفزيع العالَم بتلك القُوَّة البشريَّة المُسلَّحة، والبالِغَة الفَتك، التي كادت أن تُبيد الحضارة الإنسانيَّة لولا قُوَّة دولة المماليك المصريِّين، التي كَسَرت شوكة المَغُول في أكثر مِن معركة، حتى استأصلَت شَوكَتَهُم تمامًا بِحُلُول نهاية القرن الثالِث عشر.
فَقَد صارت “القاهرة” حاضِرَة العالَم الإسلامِىّ الشاسِع الأرجاء بعد أن كانت إحدَى حواضِره، وذلك بعد أن سَقَطَت كُلٌّ مِن “قُرطُبة” و”بغداد” على التوالِي عامَي 1236 و1258 م. كما وظَهَر المغُول كقُوَّةٍ احتَّلَت العراق، وفارِس، وبلاد ما وراء النهر، وأفغانستان، وشِبه القارّة الهِنديَّة، وهي أجزاءٌ مِن العالَم الإسلامي كانت حواضِرُها مراكِزًا للنهضة والتنوير. ولكِنَّ تلك المراكِز صارت أثَرًا بعد عينٍ خِلال العصر المغولي الطويل، والذي امتَدَّ قُرَابة القَرنَين، حيث لم يستطِع المَغُول حتى بعد اعتناقِهم الإسلام أن يُصلِحوا ما أفسَدَهُ أسلافُهُم الوثَنِيِّون تحت قِيَادة “جنكيز خان” وحفيدُهُ “هوكو”. ومِن ثَمَّ فإنَّ مُحدِّدَات الفِعل التاريخِي بِكَافَّة جوانِبِها قد تغيَّرت بَدءًا مِن القرن الثالث عشر بِنَتيجة تبدُّل مراكِز الثِقل في العالم الإسلامي، حيث إنَّ “القاهرة” ليست أبدًا “بغداد” مِن حيث الموقِع الجغرافي، والمُقوِّمَات الاقتصاديَّة، والأُسُس الإثنِيَّة والتركيبة السُكانِيَّة، وغيرها مِن مُحدِّدَات الفِعل التاريخي المُحدِّدة بدورها لحركة التاريخ.
وعلى ذلك، فإنَّ ذلك الذي يتتبَّعُ الاستقراء الخلدونِي الدَقِيق لحوادِث القرن الرابع عشر الميلادي “السابع والثامن الهِجرِيَّين” يُمكن أن يستنتج عامِلاً مُشتَركًا واحِدًا يجمع بين أغلب حوادِثِ ذلك القرن، ألا وهُوَ أنَّ ذلك القرن كان بامتيازٍ قرن اختمار تلك التحوُّلات، التي أفضَت بالعالَم إلى الخُرُوج مِن حِقبَةِ القُرُون الوُسطَى – أو كما تُعرَفُ في الأدَبِيَّات الأُوروبيّة – إلى حِقبَة العُصُور الحديثة، والتي شَهِدَت بِدَورها مجموعةً مِن التجاذُبات بين الشرق والغرب، بِما أفضَى بدوره لِتشكُّلِ ذلك العالَم الحديث بِتَقاسيمِهِ المُختلفة.
ويُمكن القول بأنَّ هُناك مجموعةٌ مِن العوامِل التي تتفاعل مع بعضِها في إطار حرَكة التاريخ، كي تُشكِّلَ الحَدَث التاريخي بِأبعادِه المُختلفة. إذ إنَّ هُناك مِن بين تلك العوامِل ما هُوَ جغرافي، وتاريخي، وعقدي، ونقلِي. كما وأنَّ تلك العوامِل تتبايَنُ مِن حيث مردُودِها المعرفي، ذلك المردُود الذي أدَّى لوضع ذلك العِلم الفريد الذي هو “عِلم العُمران البشرِي” – والذي يُعرَفُ حديثًا بـ “عِلم الاجتماع” – ذلك العِلم الذي ظنَّ واضِعُهُ “عبد الرحمن ابن خلدون” (1323 – 1406 م) أنَّهُ علمٌ ضعيف الثَمَرة، إذ اعتَقَدَ ذلك الفيلسوفُ الاجتماعي أنَّ المردود المعرفي الوحيد لذلك العلم المُبتَكر هو تمييز صحيح الأخبار التاريخيَّة عن كاذِبِها. بينما أثبَتَ هؤلاء الذين لم يلحقوا بـ “ابن خلدون” في أبحاثِهِ الاجتماعيَّة سِوى بعد وفاتِه بخمسمائة عامِ أفضلِيَّة البحث الإنساني في مُجمَلِه وفق تلك التصوُّرات الخلدونيَّة، والتي مَزَجَت كما أسلَفنا بين ما هو جغرافي، وتاريخي، وعقدي، ونقلِي. إذ إنَّ تحديد أُطُر الكتابة والنقد التارِيخِيَّين، إضافةً لِفَهم آلِيَّات العمل السياسي في العُصُور الحديثة لم تنبني في مجموعِها سِوَى على أساس التصوُّرات الخلدونيَّة ذات المَنزَع النقدي / التحليلي.
ومِثلما كانت الفلسفة التأريخيَّة / الاجتماعيّة لابن خلدُونٍ إضافةً بالِغَة الأهميّة للفِكر الإنساني، والذي لا زال يستفيد مِن تلك الفلسفة حتى أيَّامِنا تلك. فإنَّ “ابن خلدُونٍ” بِحَدِّ ذاتِه كان إضافةً بالِغَة الأهمِيَّة لِصُورة المُجتَمع وأروِقَة الحُكم في فترة القرن الرابِع عَشَر، والذي توالَدَت بين جَنَباتِه عوامِل تشكُّل عالَم العصر الحديث، وذلك على اعتبار أنَّ الأدبيّات التاريخيّة الأوروبيّة تعتبر ذلك القرن بدايةً للعصر الحديث، وذلك على اعتبار أنَّ ظُهُور التُرك الفاتِحين لأولِّ مرَّةٍ في القارَّة الأوروبيَّة قد بدأ في أُخرَيات ذلك القرن.
إنَّ “ابن خلدُونٍ” كان أول مَن ضمَّن العوامِل الجغرافيَّة والبيئيَّة في تحليله للـ “ظواهر المُجتمعيّة” التي هي موضوع مُقدِّمَتِه، وذلك حين اعتبر مثلاً أنَّ الهواء الحارّ يُؤدِّي بِجَانِب وفرة الغِذاء إلى عدم التبصُّر في العواقِب، بينما يدفع المُناخ البارِد مَثلاً إلى الحذَر والتبصُّر في العواقِب. وقد فسَّر “ابن خلدونٍ” السِرَّ في ذلك أنَّ المُناخ الحارّ يُؤدِّي إلى خلخلة “الرُوح القلبي” بما يُؤدِّى بالكائِن البشرِي إلى سُرعَة التفاعُل مثلاً مع الموسيقى التي يسمعُها، بمعنى أنَّهُ لا بُدَّ وأن يطرَبَ لِسَماع تلك الموسيقى، بل ورُبَّما يرقُصُ دُونَما احتشامٍ ودون أن يشعُر على أنغام تلك الموسيقى، وذلك بِعَكس سُكَّان العُرُوض الباردة الذين لا يُفرطون ذلك الإفراط في طَرَبِهم لِسَماع المُوسيقى، بل إنَّ تبصُّر سُكَّان تلك العُرُوض الباردة في عواقِب أُمُورِهم هو مايدفعُهُم لِتَخزين مايقتاتُونَهُ والحِرص أيضًا على تقنِين أغذِيَتِهم.
لقد أشار “ابن خلدونٍ” في مُقدِّمَتِه، وهي التي كانت في حقيقتها مُقدِّمَةً لمُؤلَّفِهِ التاريخِي الجامِع “كتاب العِبَر وديوان المُبتدأ والخَبَر في أيَّام العرب والعَجَم والبَربَر ومَن عاصَرهُم مِن ذوِي السُلطان الأكبر”، إلى مجموعةٍ مِن العوامِل الحضارِيَّة والإثنِيَّة والبيئيَّة والجغرافيَّة التي تُشكِّلُ أسبابًا لِتشكُّل الدُوَل التي عاصرها ذلك المُفكِّر النابِه، فقد اعتَبَر مثلاً أنَّ عُمران مِصر الشاسِع ورُسُوخَ مَدَنِيَّتها يرجِعَان فيما يرجِعَان إلى الطبيعة غير العشائِرِيَّة للمُجتَمَع المصري، وأيضًا إلى رُسُوخ قدَم حُكَّام مصر المماليك في عصر ابن خلدُون في فُنُون القِتَال، بِمَا جَعَلهُم يصدُّون الغزوة المغُوليّة الهدَّامة عند “عين جالوت” عام 1260م، وذلك مثلاً على اعتبار أنَّ جيش المماليك في تلك الفترة كان يتشكَّلُ مِن عناصِر وافِدَةً مِن أواسِط آسيا التي ألِفَ سُكَّانُها خُشُونَة العيش في صحاريهم الباردة، بما جعلهُم بطبيعة تكوينِهم أشدَّ بأسًا في القِتَال مِن تلك العناصر التي تنشأ في ظِلِّ حياةٍ رغدَة، وهو ما عبَّر عنه الرَجُلُ بِخُلُق التوحُّش، والذي ينبغي أن يتحلَّى بِه مَن يُريد أن يُقيم دولةً.
وبالبِناء على كُلِّ ما سَبَق، فإنَّ التحوُّلات وليسَت الطَفَرات هي سِمَةُ بعض فَتَرات التاريخ، وقد كان القرن الذي عاش فيه “ابن خلدون” قرن التحوُّلات في تاريخ العالَم مِن دُون مُنازِع. فَمَن ذا الذي يستطيع إنكار أنَّ القرن الرابع عشَر الميلادِي كان قرن إعادة رسم خريطة العالم، مِن حيث إنَّ الدُوَل الأوربيّة قد تحدَّدَ شكلُها التي هي عليهِ الآن خِلال ذلك القرن، كما وأنَّ ذلك القرن كان قرن بداية النهاية للعُصُور القديمة وبداية العُصُور الحديثة في تاريخ العالَم، إذ إنَّهُ قد تمَّ الطَعن مِن قِبَل كثيرٍ مِن المُؤرِّخين وفلاسفة التاريخ في وُجُود عُصُور وُسطَى تفصِل حِقبَتُها بين العُصُور القديمة والعصر الحديث، وذلك على اعتبار النَظَريَّة المادِيَّة في تصوُّر التاريخ، وهي تلك النظَريَّة التي أصَّل لها “عبد الرحمن ابن خلدون” ونُسِبَت بالخطأ للمُفكِّر الألماني “كارل ماركس”. حيث إنَّ “ابن خلدون” قد تصوَّرَ جُل المُحفِّزَات الماديَّة لحركة التاريخ في خِلال تأصيلِه للقوانين الاجتماعيَّة التي هي موضوع مُقدِّمَتِه الرئيس.
ومهما يَكُن مِن أمرٍ، فإنَّ عِلم التطوُّر الأعراق البشَريَّة “الأنثروبولوجيا” قد ظَهَر على يد “ابن خلدون”، والذي اعتَبَرَ أثَر البيئة في أخلاق البَشَر في مُقدِّمَتِه، كما وأنَّ تأصيل منهجِيَّة النقد التاريخِي المُمَيِّزَة للصحيح مِن الكاذِب مِن أخبار التاريخ قد نَشأت دُون شَكٍّ على يَد “ابن خلدونٍ” – والذي انَبَنَت فِكرة النقد التاريخِي لَدَيه على مذهَب الجرح والتعديل الجاري على الأحاديث الشريفة، وهو المَذهَب الذي تَشَرَّبَهُ الرَجُل بِحُكم كونِهِ فقيهًا مالِكِيًّا يعتمِد الجرح والتعديل في تصحيحِهِ للأحاديث الشريفة.
أمَّا فِيما يتعلَّق بتأصيل “ابن خلدون” للمادِيَّة في حركة التاريخ، فقَد تأكَّدَ ذلك مِن واقِع فصلِه بين السياسة والأخلاق، وهو الفصلُ الذي نُسِبَ بالخطأ للمُنظِّر الإيطالِى الشهير “نيكولو ماكيافيللى” – حيث إنَّهُ، وإذا ما كان “ابن خلدون” قد اعتَمَدَ القَبَلِيَّة أساسًا لِقِيام الدُول، بل وإذا ما كان اعتَبَرَ أنَّ “التَرَفَ في أول الدولة يزيدُها قُوَّةً إلى قُوَّتِها”، بل وإذا ما كان “ابن خلدون” قد اعتَبَرَ “التفاوُت بين مراتِب السيف والقَلَم في الدُوَل” على اعتبار احتياج الدولة في بَدء أمرِها لأرباب السيوف أكثر مِن حَمَلَة الأقلام “البيروقراطِيِّين” – فإنَّهُ يُمكن اعتبار أنَّ رُسُوخ تصوُّر العوامِل المادِيَّة فيما يتعلَّق بِبِناء الدُوَل قد تمَّ على يدِ ذلك الفقيه المالكي المَذهَب، والبعيد عن التصوُّرات الفلسفيَّة العقيمة التي أتى بها فلاسفة الغرب الإنشائِيِّين في العُصُور الحديثة.
إنَّ مُحدِّدَات الفِعل التاريخي لا يُمكن أن تتحدَّدَ أبدًا وَفقَ قوانين أخلاقيَّة، وذلك على اعتبار طُوباوِيَّة المُحدِّدَات الأخلاقيَّة وهو ما يتنافى شكلاً ومضمونًا مع واقِع التاريخ العالمي العامّ، والذي يقوم على منطِق المُعالَبَة لا المُفَاضلة الأخلاقيَّة، وكان “ابن خلدون” هو البداية للتعبير عن تلك الواقِعيَّة في مُحدِّدَات الفِعل التاريخي. وليس بِغَريبٍ بعد ذلك أنَّ تنشأ تلك المدرسة العربيّة في كتابة التاريخ بالبِناء على تلك الواقِعِيَّة المادِيَّة التي قرَّرها “ابن خلدونٍ” في مُقدِّمَتِه الشهيرة. حيث إنَّ “تقِي الدين أحمد المقريزي” (1368 – 1441 م) – والذي كان أقرَب تلامِذَة ابن خلدون لَهُ – قد أصَّل لاندثار دولة المماليك الشراكسة (1382 – 1517 م) بُناءًا على تلك المُحدِّدَات المادِيَّة، والتي حَفَلَت بها مُقدِّمَة ابن خلدون. عِلمًا بأنَّ “تقِي الدين” قد لَقِي ربَّهُ قبل سُقُوط تلك الدولة على يَد السُلطان الغازِي “سليم ياوزاي” بأكثر مِن سِتٍّ وسبعين سَنَةً. وذلك مِن واقِع تمكُّنِه “المقريزي” مِن استخلاص المُحدِّدَات المُحرِّكة للفِعل التاريخي التي أتَى بها “ابن خلدون”. ولم تكُن تلك المُحدِّدَات سِوَى أربعٍ رئيسيَّاتٍ علاوةً على بعض الفرعيَّات الأُخرَى: التركيبة السُكَّانِيَّة والبيئة الجغرافيَّة والطبوغرافيَّة المتعلقة بطبيعة التُربَة والتركيبة العِرقِيَّة وخصائِصِها المُمَيِّزَة الصِبغَة الأخلاقيَّة للمُجتمعات وتغيُّرِها مِن جيلٍ لآخَر.
إنَّ بقيَّة تلك المُحدِّدات يُمكن أن تتلخَّصَ في ضرورة تعريف الإطار التاريخي، مِن حيثُ كونِه إطار بَدء تكوُّن الدولة، أو إطار اكتمال تكوُّنِها، أو إطار شيخُوختِها. حيث إنَّ تَرَفَ الأُسَر المالِكَة في بَدء تكوُّن دُوَلِهم يكون مصبُوغًا بِصِبغَة السطوة والأُبَّهَة التي تُرسِّخُ المُلك وتُفيد في تثبيت أركانِه. فقَد رَبَى عَددُ أفراد البيت العبَّاسِىّ وقت شَبيبة الدولة العبَّاسيَّة في العصر العباسي الأولّ على ثلاثين ألفًا كانوا جميعًا مِن سأكني القُصُور، وكان يُقسَم للواحِد مِنهُم عطاءًا شهرِيًّا يزيد على ثلاثين ألف دينار، وكانت تلك العِيشَة المُترَفَة مِمَّا يزيد في هَيبَة الدولة وقُوَّة البيت المالِك في أنظار العامَّة. بينما كان تَرَفُ الخليفة “المُستعصِم بالله” – آخِر الخُلفاء العبَّاسِيِّين في العصر العباسي الثاني مِن صِنوِ ذلك التَرَف المُفضِي لأخلاق الأثرَة والجُبن وانعدام أخلاق المُلك، حيث ظلَّت “بغداد” حاضِرَة الإسلام وأهمَّ مُدُنِه حتى سُقُوطِها بِيَد “هولاكو” الذي وَضَع “المُستعصِم” في جُوَالٍ رَكَلَهُ جُندُ المَغُول بأقدامِهِم حتى فاضت رُوحُ الخليفة، الذي كان يقسِمُ للواحِد مِن أفراد البيت العباسي ثلاثين ألفًا كُلَّ شهرٍ أيضًا، كانوا يُنفقونها على شراء الجواري ومجالِس السَمَر. بينما كان أسلافُهُم الأوّلُون يُنفقون الثلاثين ألفًا الأُوَل في استزراع البساتين وبِناء القُصُور، وتعمير المساجِد.
المَراجِع:
1 – مُقدِّمَة ابن خلدُون.
2 – في أُصُول المسألة المصريَّة، للعلَّامة الشهيد / الدكتور صُبحى وَحِيدَة.
3 – كتاب الأمير، للمُفكِّر الإيطالي / نيكولو ما كيافِيللى.