عندما سئل القائد الفرنسي “نابليون بونابرت”: “مَن هم العظام؟” أجاب وهو يشير إلى السلطان العثماني محمد الفاتح: “لا أستطيع أن أكون حتى تلميذًا له.. وإذا سألتموني عن السبب أقول: “أنا رجل سيّئ البَخْت، لأني خَسِرتُ الأراضي التي استوليت عليها بالسيف وأنا على قيد الحياة، أما هو، فإنه رجل ذكي حافظ على الأراضي التي دخلها، وعرف سبيل توريثها إلى أجيال أمته القادمة”.
تُرى، ما الذي دفع “نابليون” الذي حارب العثمانيين مرارًا، إلى هذا الاعتراف المرّ الذي سطّره التاريخ بحبرٍ لا ينمحي؟ أو ما الذي دفعه إلى وضع السلطان محمد الفاتح في مقدمة العظام وليس الإسكندر الأكبر ملك الإغريق، أو جنكيز خان إمبراطور المغول؟ لا شك أن السبب هو بقاء ثمرة الفتوحات العثمانية إلى يومنا هذا وعدم انمحائها عن مسرح التاريخ.
الهدف من الفتوحات
لعل السبب الأهم في بقاء ثمرة الفتوحات العثمانية إلى اليوم، هو التسامح والرحمة والمعاملة الإنسانية التي أبدتها الدولة العثمانية تجاه الشعوب التي فتحت أراضيها.. إذ كانت الدولة العثمانية تسمح لأبناء هذه الشعوب ممارسة طقوسها الدينية، وترعى القيم الإنسانية في هذه الأراضي.. وكأنها نَقشت سياستها في الفتوحات، استلهامًا من مقولة العالم العثماني “الشيخ أدب عالي” التي يقول فيها: “أَحْيِ الإنسانَ تحيا الدولة”.
ومما يجدر ذكره أن العثمانيين دولة احتذتْ -في فتوحاتها- تقليدًا عتيدًا ورثتْه عن أسلافها. فقد كانت آخر مَن أحيا مفهوم الفتح الذي يهدف إلى “إعلاء كلمة الله” الذي بدأه سيد المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. هذا ولم تكن الغاية من الفتوحات لدى العثمانيين توسيع بقعة المملكة، بل نقْل القيم الإسلامية إلى كل الأرجاء، وغرس محاسنها في كل القلوب. لذا سعى سلاطينها ورجال دولتها، إلى كسب قلوب الشعوب في الأراضي المفتوحة ونيل محبتهم ورضاهم؛ فقاموا بإنجاز مشاريع محمودة، خدمةً لأبناء هذه البلاد وفتحًا لقلوبهم.
عندما سافر السلطان محمد الفاتح إلى “طرابزون”، جرى بينه وبين “سارة خاتون” (والدة “أوزون حسن” أمير أَقْ قُيونلو) حوار علّه يكشف لنا الغايةَ التي سعت الدولة العثمانية إلى تحقيقها بهذا السفر. حينما رأتْ “سارة خاتون” معاناة الجنود في جبال البحر الأسود الوعرة قالت متأسّفة: “يا بني، لماذا تعاني من أجل مدينة واحدة كل هذه المعاناة؟” فأجابها السلطان الفاتح قائلاً: “يا أماه، إن هذه المعاناة ليست من أجل الحصول على طرابزون، بل من أجل كسب مرضاة الله، لأنه حمّلنا الأمانة، فإذا رفضنا هذه المعاناة، فلا يليق بنا أن نكون مجاهدين في سبيله تعالى، ونُسأل يوم القيامة عمّ فعلناه في سبيل الحفاظ على هذه الأمانة”.
مفهوم الحكم لدى العثمانيين
منذ بضعة عصور وتقوم الدول العظمى بإشعال الفتن في الأراضي التي تريد الاستيلاء عليها. بينما العثمانيون كانوا إذا دخلوا بلدًا اتخذوا سبيل إرضاء الجميع النائي والقريب، وانتهجو الأسلوب الذي سار عليه الرسول في المدينة المنورة. فالرسول بعد الهجرة، اهتم بالمشاكل الاجتماعية في المدينة المنورة وسعى إلى حلها؛ إذ كان يعيش في هذه الديار قبائل متنوعة ومن أعراق مختلفة، وبالتالي كانت هذه القبائل في حالة صراع وحرب فيما بينها. ولعل هذه الحالة تؤكد أن أبناء هذه المدينة كانوا في أمس الحاجة إلى التوحد والأخوة والتسامح فيما بينهم. لذا كانت جهود الرسول -قبل كل شيء- تصبّ في هذا الاتجاه. ومع مرور الزمن، انتهت الحروب بين هذه القبائل وساد الأمن والسلام في كل جنبات المدينة، وسرعان ما تحولت المدينة المنورة إلى مركز تجاري آمن، ونقطة ثقافية جاذبة، يفد الناس إليها من كل صوب.
والجدير بالذكر أن سلاطين آل عثمان انتهجوا منهج رسول الله في فتوحاتهم. فعندما رأى أمم البلقان المتناحرة بسبب الحروب المذهبية العرقية، الحبَّ والتسامح الذي أبدته الدولة العثمانية لهم، رضوا بحكمها رضاء من القلب واحتضنوها بحب؛ لأنهم رأوا بأمّ أعينهم جهودهم في حل مشاكل القوم، واتباعهم -في ذلك- أسلوب الملاطفة واللين بدل القسوة والإكراه. وما لبث أن انتشر الأمن والسلام في البلدان التي دخلت في حوزة الدولة العثمانية، وارتفع مستوى المعيشة لدى شعوبها.
تواضع الجنود
زار الرحالة الفرنسي Bertrandon De La Broquiere بلاد الأناضول في عهد السلطان مراد الثاني، وإن ما قاله حول الجنود العثمانيين، دليل على تواضعهم الذي رآه منهم. قال: “لم أستطع التمييز بين القواد والأمراء والجنود في الجيش العثماني؛ إذ كانت أزياؤهم العسكرية في منتهى البساطة.. وقد حظيتُ أيضًا، برؤية السلطان وهو يصلي في المسجد؛ إذ لم أر له عرشًا ولا كرسيًّا، بل كان يصلي على سجادة فُرشتْ على الأرض، ولم أر له حارسًا ولا ضابطًا ولا أيّ أحد حوله”.
المشاريع المعمارية
غالبًا ما كانت الدولة العثمانية تصرف غنائم الحرب على المؤسسات الخيرية الإغاثية. كما كان السلاطين أيضًا يصرفون حصصهم من هذه الغنائم على المساجد، والمدارس العلمية، والبيمارستانات، وتأسيس الأماكن الخيرية. وقد سار رجال الدولة الآخرون على نفس المنهج الذي سار عليه السلاطين، وبادروا إلى تأسيس منشآت خيرية يستفيد منها الأهالي والمواطنون.
هذا وقد وجّه العالم الجليل “أق شمس الدين” -الذي كان له الدور الروحي في فتح إسطنبول- نصائح معبِّرة إلى الباشاوات وأسياد المدينة، عندما كانت الغنائم توزَّع على الجنود في منطقة “أُقْ ميداني” بإسطنبول، قال: “أيها الفاتحون! اعلموا أن خاتم النبيين محمدًا بشّر بكُمْ فقال “ونعم الجيش ذلك الجيش”. إنكم المبشَّرون بهم. ولكن أوصيكم ألاّ تُسرفوا أموال الغنائم إسرافًا، بل اصرفوها في طريق الخير والحسنات”. فقام الجنود بتنفيذ هذه الوصية وسعوا جاهدين لإعمار آخرتهم بإعمار دنياهم. وما لبث أن تحولت إسطنبول إلى مدينة تزدان بالمساجد والقباب، واصطبغت بصبغة الإسلام النقية وقيمه العالية السامية.
ولم تقتصر هذه المبادرات الخيرية على إسطنبول فقط، بل انتشرت إلى كافة أرجاء الأراضي العثمانية؛ حيث تم إنجاز مشاريع كبيرة في الأراضي التي دخلت في حوزتهم، وقدموا خدمات محمودة لأهاليها، فزيّنوا تلك البلاد بالآثار التي ظلت قائمة إلى يومنا هذا.
ومن أبرز الدلائل على تواضع السلاطين العثمانيين، إقامتهم في “قصر توب قابي” البسيط حتى أواسط القرن التاسع عشر.. حيث لم يرغبوا في إنشاء القصور الضخمة والفِلل الفخمة في البلاد التي فتحوها، بل فضّلوا أن يقدموا خدمات لأبنائها وأهاليها، ليظهروا قيم الإسلام الراقية العالمية ورسالته الشاملة الإنسانية.
هذا وإن الأراضي التي تم فتحها، سرعان ما كانت تتطور وتزدهر؛ حيث تقام فيها المساجد والأسواق، والمدارس، وسبل المياه، والحمامات.. بيد أن كل هذه المنشآت كانت تجتمع تحت سقف بناء يسمى “الكلية”، وكانت هذه الكليات بمثابة المقر الروحي والمعنوي للشعب العثماني، لأن الروح الذي نقشه العثمانيون على هذه المباني كان يعكس وجهة نظرهم إلى الدنيا والحياة.
ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، أن الأمم التي لم تدخل تحت الحكم العثماني أيضًا، كانت تسعى إلى محاكاة الأساليب العثمانية التي تنفذها في تطوير البلاد المفتوحة. ونرى هذه الآثار تمتد على مساحة واسعة من الأناضول إلى البلقان، ومن القارة الأفريقية إلى اليمن، وإلى غيرها من البلدان التي اصطبغت بالهوية العثمانية وتحلّت بقيمها التي تجرّعتها من مبادئ الإسلام السمحة.
ومن خلال هذه الفتوحات، أعطت الحضارة التركية الإسلامية ثمارها في الأراضي المفتوحة -ولا سيما أراضي البلقان- بشكل سريع؛ فتحولت المراكز السكانية الصغيرة إلى مدن مهمة متطورة، لأن هذه المدن كانت تحاكي مدنًا مركزية كـ”بورصة”، و”أماسيا”، و”مانيسا” وغيرها من المدن التي تتمتع بالمكانة المرموقة لدى العثمانيين. ومن ثم بدأت المدن في البلقان تتحول إلى مدن عثمانية تتزين بعاداتها وتقاليدها الراسخة.. ثم إن السياسة التسامحية التي انتهجتها الدولة العثمانية في هذه البلاد، دفعت شعوبها إلى اعتناق الإسلام وإلى الدخول في فضاءاته الرحمانية. ففي القرن السادس عشر -مثلاً- وصل عدد المسلمين في “أسكوب” و”مناستر” إلى 70%، وفي “نغبولو” و”تيرنوا” إلى 50%، وفي “فيدين” و”صوفيا” و”فيليبا” إلى 70%.
وختامًا، يقول المؤرخ التركي “سَزائي قَرَه قُوج” خلال تعليقه على فتح إسطنبول: “كان فتحُ إسطنبول فتحَ حضارة في حقيقة الأمر”. والحق يقال إن التسامح، وحسن المعاملة، والرغبة في إحياء الإنسان، وغيرها من الأسباب، جعلت كل الفتوحات العثمانية فتحوحاتٍ حضارية قيمية. ولا شك أن الوسيلة العظمى التي ساعدت على تحقيق هذه الفتوحات، هي تكاتف أصحاب العلم وأصحاب الحروب في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر قيم الإسلام الإنسانية في كل أرجاء العالم. ولا شك أن ذلك لعب دورًا كبيرًا في بقاء آثار الحضارة العثمانية الإسلامية -مقارنة بالحضارات الأخرى- إلى يومنا الحالي دون انمحاء.
(*) كاتب وباحث تركي. الترجمة عن التركية: محمد مراد.