يُشير الدكتور “صبري القباني” في كتابه “غرائب في مملكة الحيوان”، إلى مشاهدات “جوزيف ديلمون” (صائد وحوش شهير) للقرد “ديك” من نوع “الأوران-أوتان”؛ الذي لم يكتف بالسماح للطبيب بمعالجة جرحه، بل يساعده عبر مد يده فيفتح له الجرح. وكان “ديك” يهتم برعاية الحيوانات المُعدة للتصدير، ويتفقدهم -وكأنه طبيب- إذا ما “اشتكوا” من علة، معتمدًا في ذلك على حاسة الشم، إذ اكتشف قردًا هزيلاً فصحبه -كأم حنون- ليوفر له الدفء والطعام. وبفحص الطبيب البيطري لهذا القرد تبين أنه مصاب بالسل، فأعطاه علاجًا.. فما كان من “ديك” إلا أن انتهز فرصة سانحة وأحضر الدواء، ثم أعطاه دفعة واحدة للقرد المريض، ولكن أدى ذلك إلى موت الحيوان المسكين.
ولما حدث هراش بين حيوانات القفص، وجرح عدد منهم، كان “ديك” يداويهم معطيًا “الأولوية” لمن هو مثخن أكثر بالجراح.. يُعتبر ما يفعله “ديك” نوعًا من التسلية أو التقليد الأعمى كعادة القردة الذكية. لكن تبين أن له طريقته للمداوة؛ فكثيرًا ما يغسل الجرح بلسانه أو بأوراق الجوز الطرية، كما يستعمل ضمادات من الطين والأوراق. هذا وقد شوهد أنه يضع كتلة من ضماد الغضار على جانب من فكه، حيث لوحظ أن خراجًا سنيًّا يؤلمه، فقام بمعالجته. وبعد أيام اقتلع “ديك” الضرس ومضى يحمله فرحًا مسرورًا.
الطيور الجرّاحة
لاحظ البيولولجي والصائد الفرنسي “فيكتور ماتيو”، أن بعض الطيور تعمد إذا ما أصيبت بجرح نازف، لمعالجة نفسها بتغطيته بطبقة من الغضار. وإذا كان العظم مكسورًا فتلف حوله ضمادًا متقَنًا. ولاحظ “فيكتور” جرحًا قديمًا في جسم طائر اصطاده، فوجده مغطى بطلاء غضاري مع بعض الريش الناعم المنتزع من جسمه، وقد ثُبِّت على الجسم بالدماء المتخثرة. وشاهد ضمادات على طيور عدة مشدودة بشكل فني حول عظم سبق أن أصيب بكسر أو جرح قديم. كما وجد طائرًا جريحًا ميتًا وقائمتاه المكسورتان مضمدتين بدقة، غير أن المسكين لم يستطع التخلص من بعض الريش الذي سد مجرى تنفسه، فمات مختنقًا. وقد شوهد طائر “دجاج البر” أنه وضع ساقه في غضار ممزوج بالعشب.
قد يوجد في البحار أسماك عديمة الفكوك كسمك الجلكا وأسماك الجريث، تعمل في هيئة النظافة العامة؛ حيث تمارس عملية قشط، وكنس، وشفط الأسماك، والعوالق الميتة، والديدان، والقشريات..
في عالم الأسماك
تسبح الأسماك الطائرة لعائلة Exocoetidae بسرعة كبيرة تتراوح بين 25-32 كم/ساعة قرب سطح الماء، ثم تضرب السطح وتنشر زعانفها/أجنحتها، وتقفز إلى ارتفاع يصل نحو 10 أمتار فوق سطح الماء، وإلى مسافات تصل إلى 400 متر. وإن سمكة البلطة الطيارة، والفراشة أو فك الأزميل، والكراسين ذا الجسم العميق أمثلة شاهدة على ذلك. وقد يوجد في البحر الكاريبي أسماك ذات حراشيف براقة، تتقافز وتعرض نفسها للجوارح من الطيور. لكن لوحظ أن في بعضها مرضًا جلديًّا يتسبب في سقوط حراشيفها. ولعل الغاية من قفزها، تعريض الحرافيش المصابة، لأشعة الشمس. تأكد هذا الافتراض بالتجربة؛ فجمعت أسماك ووزعت على وعائين، غطي أحدهما بشبكة على مستوى سطح الماء، وبقي الآخر مكشوفًا. وبعد أيام ظهر كثافة البقع المرضية على جسم الأسماك “المحبوسة” مقارنة بالتي سُمح لها بالقفز خارج الماء.
هذا ولوحظ أن جِراح بعض الأسماك تلتئم سريعًا، مقارنة بجروح الإنسان. ليس بسبب ملوحة المياه فقط، لكن بتناوب التصاق أسماك سليمة عليها. وقد تم إجراء تجرية في ظروف تبدو طبيعية، وإحداث جروح في الأسماك، لكن امتنعت زميلاتها عن معالجتها. كما تم البحث عن طبيعة المواد التي تُفرز في بيئتها الطبيعية، فتبين أن بعضها مختص بتخثير الدم، وبعضها يعين على انقباض الجلد والعضلات، وبعضها مادة لاصقة. وبالتالي عندما وضعت هذه المواد على جرح إنسان، التأم في ثلث الوقت المفترض (ثلاثة أيام فقط من نحو عشرة أيام). وكأن هذه المواد المتنوعة “تتعاون فيما بينها، وتنسق وظائفها، وصولاً لهدف مقصود، ألا وهي سرعة التئام الجروح.
في عالم الحشرات
يعيش “جراد الصحراء” في سورية والشرق الأدنى، ويتغذى على نبات Calotrpus procers المُحتوية أوراقه على مادتين سامّتين يريدهما الجراد -دون سائر سميات النبات- للدفاع عن نفسه ضد أعدائه. ويترك منهما مخزونًا بجانب بيضه حتى تفقس، فتجد الصغار “أسلحة” تدافع بها عن نفسها. كما لوحظ أن إناث بعض الفراشات الملكية، تقوم بوضع بيضها على عشب بري مضاد للطفيليات -يسمى الصقلاب- لتوفير العلاج الفوري لصغارها. أما نحل العسل فيطبب نفسه بحماية مسكنه، ويبطن أعشاشه بالراتنج (مادة صمغية تعمل كمضاد للميكروبات) يجمعها من النباتات. وبمزج الراتنج مع شمع النحل، ينتج “العكبر” أو “الدنج” دواء تقليديًّا. وبعد وضع “الأطلس الوراثي” للنحل، أدرك العلماء أن من وسائل مناعته “اعتماده على هذا الراتنج”. بينما تستخدم ذبابة الفاكهة “دروسوفيليا” -السوداء البطن- الكحول، لحماية نفسها من الدبابير الطفيلية؛ إذ تقوم الأخيرة بوضع بيضها على يرقات الذبابة، لتقوم الدبابير الصغيرة المفقوسة بالتهامها. لكن تلك اليرقات التي تستهلك كميات كبيرة من الفاكهة المخمرة، لا تتأثر، وإذا حصل ذلك، فإن الدبابير الصغيرة المتطورة من اليرقات تموت.
البرّية صيدلية طبيعية
تعرف الحيوانات -الأليفة منها والبرّية- الصفات المطهرة للأعشاب، وتستثمر البرية كـ”صيدلية طبيعية”. ويلاحظ تحول لواحم -بإرادتها- إلى آكلة عشب لتدواي نفسها وصغارها، وتعالج أيضًا غيرها. هذا وحين أزيل التوّرم من فوق أضلاع قرد من نوع “جيبون”، تبين أنه كتلة من أوراق ممضوغة من شجرة “بوزفيلاسيرتا”، حيث تنبت هذه الشجرة في موطن هذه القردة، لكنها لا تتناولها لمرارتها، ولكن يستخدم المواطنون أوراقها في أغراض علاجية -كما استخدمها القرد- ليساعد على إيقاف النزف، وكضمادٍ ليساعد على التئام الجرح. وفي حديقة حيوان “أدنبره” بـ”إسكوتلندا”، التقط شريط فيديو لقردة تدْعك وبرها بالبصل وحامض الليمون كنوع من المعقمات، ولإبعاد الحشرات مسح بالزيوت العطرية. كما تستعمل قردة الشمبانزي مجموعة من النباتات الطبية، فتبتلع -عفويًّا- من أوراق نباتات من شأنها تنظيف الطفيليات من أمعائها ومعدتها. وقد يكون هذا المسح أيضًا، لأغراض تحديد مناطق النفوذ، وللدفاع عن النفس. فالسناجب الأرضية تقوم بعلك جلود الأفاعي ذات الأجراس قبل لحس صوفها، وهي حيلة تلجأ لها لردع هذه الأفاعي عن افتراسها.
وبالتالي تعرف الحيوانات فائدة حمامات الطين؛ فعندما يصاب أفراد من قطعان البقر الوحشي الأفريقي بالجرب، يشاهد انطلاق القطيع لمستنقع لتغمر نفسها بالطين الذي يعمل على طرد الطفيليات التي تنغل في القروح والجروح. ومع تأثير أشعة الشمس يتم تجفيف الإصابات، وبتكرار التسربل بالوحل يربو على شهر، تعود العافية لجلودها. لقد استفاد الحيوان من محطات الاستشفاء المعدنية (كحمامات الطين، وعيون المياه المعدنية) قبل معرفة الإنسان بخصائصها العلاجية، وكأنها تعمل “كشافات” متقدمة لمحطات علاجات طبيعية ونادرة.
التكافل الطبي
كثيرة هي الشواهد على تبادل المنفعة، والتكافل الطبي بين أجناس من الكائنات الحية. وفي هذا المجال يُشار إلى التكافل التنظيفي والغذائي والحمائي.. حيث توجد حيوانات وطيور وأسماك تعمل على تنظيف/التغذية على الحشرات والطفيليات، وبقايا غذاء الشريك الآخر. فمن هذه الأمثلة ما يحدث بين التمساح وصديقه طائر القطقاط الذي يلازمه دومًا، هابطاً بين فكيه لينظف أسنانه كأفضل ما يكون التنظيف والعناية بالأسنان. ويمكث التمساح هادئًا مطمئنًّا، حريصًا على ألاّ يطبق فكيه على صديقه الصغير. والجدير بالذكر أن هذا الصديق الصغير يرفرف جناحيه منذرًا إذا ما رأى عدوًّا، أو شعر بخطر، فينساب التمساح إلى الماء هاربًا. كذلك ما يحدث من منفعة متبادلة بين بعض الطيور والثدييات الكبيرة -مثل الجاموس ووحيد القرن- التي تخلصها من كثير من الحشرات والطفيليات، وكذلك مخاطر الأعداء المفترسة في آن واحد.
وفي جنوب المحيط الهادي تكثر أسماك صغيرة (طولها نحو عشرة سنتيميرات) امتهنت عملية الطبابة. ويوجد من يمارس تلك الوظيفة عبر بحار العالم، نحو 33 نوعًا من الأسماك.. وهي تفتتح بين الصخور عيادات -ثابتة أو متنقلة، أو تقوم بزيارات منزلية- تؤمها شتى أنواع الأسماك، طلبًا للشفاء من الطفيليات والإصابات. فالسمكة الطبيبة تنال ما يكفيها من غذاء مجاني جراء قيامها بالتنظيف، كما تتمتع بالحماية الكافية والحصانة اللازمة ضد هجوم الأسماك الكبيرة عليها. وقد شوهدت هذه الأسماك وهي تنظف -في أمان وهدوء- أسماكًا خطرة مفترسة ومنها “الحنكليس”، وسمكة العقرب السامة.. وخلال ست ساعات من الملاحظة، تم إحصاء نحو 300 سمكة تؤم العيادة ثم تغادرها نظيفة من الطفيليات العالقة بها. وهو عدد كبير يعكس مدى المهمة الملقاة على عاتق هذه الأسماك في حفظ أنواع عديدة من الأمراض والنفوق والانقراض.
وهناك سمكة المهرج التي يصل طولها إلى 6-12 سم حسب النوع، وتتواجد في البحر الأحمر والمحيط الهندي والهادي، وفي صخور حاجز أستراليا العظيم. إنها تعيش على شكل أزواج داخل شقائق النعمان، وتتبعها مجموعة صغيرة من الأسماك تتميز بألوانها الزاهية وتسمى بأسماك “الآنسة”، كما تجذب إلى مجساتها أسماكًا أخرى، وتطرد عنه أسماك الفراشة التي تفترس الشقائق. وأما العلاقة بين الأسماك المهرجة وشقائق البحر ليست علاقة حماية فقط، بل علاقة طعام ونظافة أيضًا؛ إذ تقوم أسماك المهرج برحلات -غير بعيدة- إلى خارج مجسات الشقائق، فتسرع سمكة المهرج إلى مخبئها عندما تقوم سمكة كبيرة بمطاردتها. فتصيبها الشقيقة بلسعات قاتلة. وبعد فراغ الشقيقة من أكلها، تتغذى سمكة المهرج على الفضلات والبقايا وتنظف المكان.
هيئات للنظافة العامة
لعلها الغريزة هي التي تمنع الحيوانات -ولا سيما الضاري- من أن تأكل فوق حاجتها، فضلاً عن أن تأكل ما لا يناسبها. لكن الضباع تشذ بشراهتها، فتأكل حتى تتقيا، ثم تعود لتأكل من جديد. ولعلها بذلك تُعد من أهم منظفات البيئة الطبيعية، حيث تزيل الجيف وما يبقي من الحيوانات التي افترست.
هذا وقد يوجد في البحار أسماك عديمة الفكوك كسمك الجلكا وأسماك الجريث، تعمل في هيئة النظافة العامة؛ حيث تمارس عملية قشط، وكنس، وشفط الأسماك، والعوالق الميتة، والديدان، والقشريات.. فتزيل المخلفات العضوية، ومن تعمل على نظافة البيئة، وإزالة مسببات الأمرض التي تتواجد فيها.
التراحم ورعاية الحيوانات لنفسها فطرة فطر الله الكائنات عليها، حتى عند من يبدو أنه أكثر شراسة وفتكًا. فمع شراستها لا تخلو مما جُبلت عليه من الرحمة. فالأسود الضواري، والوحوش الكواسر، والطيور اللواحم، والأفاعي والتماسيح الشرسة.. تتسقاط كل ضراوتها أمام عاطفة الأمومة والأبوة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام، وفيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وأخر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة” (رواه مسلم).
(*) كاتب وأكاديمي / مصر.