في الوقت الذي يُشيّد فيه قرننا هذا صرحًا رهيبًا من المعارف والعلوم الطبيعية في مجالات الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والتكنولوجيا والفضاء الخارجي، يغوص -وبشكل مذهل- في أزمة أسس وأزمة أخلاق وأزمة قيم وأزمة معنى. لقد بدأت هذه الأزمات عندما غابت الأهداف السامية وتأزمت الفلسفات واصدمت الأخلاق والمعارف والقيم بحائط “النسبية”، فأضفى العلم مع مطلع القرن العشرين النسبية على كل المعارف، فأصبح هنالك تقويض معمم لكل ما هو ثابت سواء في المعارف أو الأخلاق معًا. فأصبحت وكأن الأخلاق تدور في نسق ثابت لا يتماشى مع هذا التطور العلمي والتقني المتسارع.
تطور واضمحلال
حين وضع العالم “غوردون مور” قانونه الشهير (Moore’s law) عام 1965م، والذي تنبأ فيه بالتطور المتسارع في مجال معالجات الحاسوب، لاحظ “مور” أن زيادة عدد الترانزستورات على شريحة المعالج بدون تكلفة يتضاعف تقريبًا كل عامين، مما يترتب عليه تطور متسارع في مجال نقل المعلومات ومعالجتها. صحيح أن هذا القانون أثبت صحته وقدم خدمات جليلة للبشرية فتطورت الحواسيب وأصبحنا في عصر الانفجار المعلوماتي، إلا أنه كان في الجانب المقابل تحدّ كبير في جانب القيم والأخلاق. فقد كان هذا التسارع بحاجة إلى ثبات ومتانة في الأسس الأخلاقية والأسس الفلسفية، فاضمحلت الأخلاق والقيم في ظل الانفجار المعلوماتي.
أزمة الأسس المعرفية
إن المعرفة اليوم وبشكلها الحالي، ليس لها إلا قيمة واحدة ألا وهي البحث عن المعرفة من أجل المعرفة حتى أصبحنا اليوم لا نعرف حدودها. فالتجريب في البشرية أصبح ممكن، وتمدد استعمال الطاقة النووية والتبادل الوراثي حدودًا لا يمكن أن يدركها إلا العقل الأخلاقي.
فعندما كان الهدف من العلم هو المعرفة فقط، انحل الجوهر المميز للواقع وللإنسان، وذهب بكل النظام الكوني البديع والمنظم إلى دهاليز من نوع غامض ولغزي. فبدا الكون أخيرًا كما لو كان ثمرة انشطار خارق ومثير صيرورته وحيدة الاتجاه. كل ذلك نابع من التغييرات الجذرية في مفهوم العقل الذي بدأ مع بداية النهضة الغربية، والتي تأسست على إنجازات المسلمين بغير ما كان عليه العقل عند المسلمين. فقد تم في المعرفة الغربية اختزال وظيفة العقل على التعرف على الحقائق الكلية والجزئية، وتوجيه الفعل انطلاقًا من المعرفة فقط، وإدراك الظواهر الحسية فحسب، وتوجيه الفعل انطلاقًا من الخبرة التجريبية. ولكن إعادة تركيب بناء العقل هذه كانت بعيدة عن الغيب وعن الثقة بـ”الوحي”، وهو ما أدى آليًّا إلى انحصار المعرفة بـ”الحس”، فأصبحت هنالك أزمة أسس في المعرفة العلمية.
عندما كان الهدف من العلم هو المعرفة فقط، انحل الجوهر المميز للواقع وللإنسان، وذهب بكل النظام الكوني البديع والمنظم إلى دهاليز من نوع غامض ولغزي.
فالمعرفة الغربية ظلت تعاني من أزمة الأسس المعرفية أهمها ترنح فكرة الحقيقة، فأضحت المعرفة الغربية تستنفد طاقتها في الركض حول أسس جديدة تبعد العلم عن الدين والأخلاق، فأصبحت رقعة المجهول تتزايد بنسبة أكبر من تزايد المعلوم، وذلك بسبب استحالة تفسير الواقع كليًّا اعتمادًا على التفسير المادي. فالأسس التي صاغت المعرفة الغربية عبر مفهومها الجديد للعقل وبالتالي أسس فكرها، قد صيغت من داخل النسق الثقافي الغربي ذاته، ومن داخل الحركة التاريخية التي مرّ بها، فهو متأثر إلى حد بعيد بالمسألة الدينية، كما تجلت لديه في دور الكنيسة السياسي ومحاربتها للعلم، بحيث أصبح لازمًا -لكي تتحرر المعرفة- أن تستبعد سلطة الدين، وهي سلطة تأسست على ركيزة ادعاء امتلاكها للحقيقة “الكلية” التي تنتهي إليها المعارف الجزئية، هذا فيما كانت المعرفة في الحضارة الإسلامية على علاقة حميمة مع الدين، بل إنها انطلقت بتأثيره.
مشكلة العلم الحديث
إن مشكلة العلم الحديث كما يرى “إدغار موران”، أنها تطرح كموضوع للتفكير الفلسفي، تطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. فالعلم عند “إدغار موران” سلطة معقدة، وشكل متميز وراق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة، إنه يجهل الملاحظ-المشيد للمفاهيم. لقد حاول “هوسرل جادا” تبيان كيف أن “أزمة العلوم الأوربية” تعبر بعمق عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعمل. إن العودة التأملية إلى وضعية العلم، تمكن وحدها -في نظره- من تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة وتأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بـ”العلماء”، يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين ومن سياقه الإنساني.
إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار على موضوع الحقيقة العلمية هو: هل تنفلت القوانين والاكتشافات والموضوعية التي يضمنها العلم، من الشروط التاريخية والاجتماعية والسيكولوجية الماثلة زمن ظهورها، أم أنها تظل سجينة تلك الشروط؟
الحاجة إلى مرجعية
في الوقت الذي أصبحت المرجعية العليا للمعرفة هي المادة، جرى النظر للإنسان بوصفه مادة متطورة في أرقى صورها، وكم هي بشعة تلك النتيجة المنطقية لمرجعية المادة أن يصبح الإنسان برغم تمايزه عن أشكال المادة أن يُردّ إليها، وتجري معرفته ودراسته على النحو الذي تجري فيه دراسة مواد أخرى كالطين والرماد والبخار. وهكذا شهدت المعرفة الغربية في العلوم الإنسانية مطلع القرن الماضي، سعيًا محمومًا لتطبيق المنهج التجريبي قي حقولها، وهو ما أدى إلى معرفة مبتورة للإنسان، هذا في الوقت الذي فشلت فيه بتحقيق ذلك، فهي بهذه العملية -أعني رد الإنسان إلى الطبيعة- تقوم باختزاله وإساءة فهمه.
مرجعية المادة حولت المنفعة واللذة إلى أهداف أساسية للوجود الإنساني، وهو ما يجعل النزعة الاستهلاكية سلوكًا “حتميًّا”، يجعل عجلة الاقتصاد تتسارع نحو مبدأ “مزيد من السلع فيه مزيد من المنفعة واللذة” كما يقول المسيري. وهو أمر يقضي بتحول الحاجة من أن تكون سببًا للاختراع إلى أن يكون الاختراع هو مولد الحاجة. ليس غريبًا بعد ذلك أن يشعر المرء في العالم الغربي بتشظي أفراد المجتمع وتفكك بنائه، فالروابط الأخلاقية والقيمية باتت محكومة بفردانية مزمنة. وما بين فقدان النهايات الكلية (العلة الأولى للوجود) للمعرفة المادية وانغلاقها على المادة، وبين قيمها المفرطة في استهلاكيتها وفردانيتها دون هدف سوى اللذة ذاتها والشعور الشخصي بتحققها، وجد الإنسان الغربي نفسه قد تفكك معنويًّا وأمام معضلة عويصة هي ما عرف بـ”أزمة المعنى”.
الإسلام هو ما يحتاجة العلم الحديث اليوم
وفيما أصبحت المعرفة الغربية مسدودة الأفق، فقد كانت إمكاناتها في المعرفة الإسلامية مفتوحة. وإذا كانت المعرفة الغربية قد تأسست على موقف من “الدين” والمعرفة الدينية، فإن المعرفة في الحضارة الإسلامية قامت على مصالحة وتسوية معها تجعل كل المقولات بين العلم والدين المنقولة من السياق الغربي وتاريخه الديني، أمرًا لا معنى له في سياق الحضارة الإسلامية.
فخسارة النموذج المعرفي الغربي لا تتوقف على المعرفة بحد ذاتها وحسب، بل إنها تمس المنظومة القيمية في عمقها، حيث يمكن القول إن فقدان المعنى والسمة العنصرية والإمبريالية والاستهلاكية ودوامة اللذة المفرغة، أمر كان يمكن تجنبه في إطار النموذج المعرفي الإسلامي. فقد أصبح بمقدورنا اليوم أن نقول بثقة، بأن الخسارة التي وقعت فيها المعرفة الغربية وأدت إلى أزمتها الراهنة، يمكنها أن تعوضها بالاستعانة بالنموذج الإسلامي لها، وهي استعانة لا تعني استعادة المعرفة القديمة وإنما نموذجها.
ينبغي إذن، العمل على وصل العلم والدين معًا، لأن انحلال إحداهما يكون في غياب تلاحم بعضهما البعض. فإن الإنسان اليوم، لا ينبغي له أن يتغذى فقط بالعلوم، بل يجب أن يتغذى بالدين والعلم معًا. وهذا ما يدفعنا نحو التفكير في المصير الإنساني والغاية من خلقه وهي عبادة الله وعمارة الأرض بما أمر الله به.
هناك إذن في إحالة راهنة، لن نعبرها بالعلم وحده ولن نعبرها بالدين وحده، وعندما يتكامل الاثنان معًا، عندئذ يكون بوسع الدين والعلم الظهور كوجهين متكاملين لعملة واحدة وهي الحياة.
(*) رئيس جمعية الفزياء بجامعة وادي النيل / السودان.