(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)(النساء:136)؛ آمــنوا من جديد بالله وأسمائه وصفاته، فإن الإيمان بالله هو قلب الحياة وضميرها: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)(محمد:17). وفي هجير الحياة ورمضائها، يجد المؤمنون في اللجوء إلى الله عز وجل وعبادته ظلاًّ ظليلاً عوضًا عن حـرور المعيشة والحياة، ويجدون في الإيمان حياة قائمة عوضًا عن موت الحس والقلب، ويجدون عند بابه بصَر الحق والنور عوضًا عن عمى الضلالة والظلمات: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ)(فاطر:18-22).
فعباد الله المؤمنون، يتذوقون في اللجوء إلى الله عذوبة النجوى واللغة، فهو ملجؤهم وأنيسهم، فيقول قائلهم وهو في غمرة التعب والنصب:
منطرحًا أمام بابك الكبير..
أصرخ في الظلام أستجير..
يا راعي النمال في الرمال..
وسامع الحصاة في قرارة الغدير.
فتخيّـل هذا القلب المهزوز المرتبك ينادي ربه أن يهبه الحياة والصحة والرضى، بعد أن طال بُعده عن ربه وتاهت به الدروب وأنهكته الخطوب.
إن الدعوة للإيمان، تشمل حتى أولئك المؤمنين الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم أمثالنا، وبعد ما أنزل عليهم الكتاب فاختلفوا، وأرهقهم الجدل الكلامي عن حقيقة الإيمان والحياة والعمل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ)(الحديد:16). إن الإيمان هو دوام الحب لله والتصديق به واللهج بذكره، ودوام سجود القلب لله.
الإيمان بالله هو الكفاح في معركة البقاء والوجود، والعمل في سبيل الله، والكر والفر، والإقدام والرجوع..
سئل بعض السلف: هل يسجد القلب؟ قال: نعم، يسجد سجدة لا يقوم منها إلى يوم القيامة. وهذا الإيمان يعطي الأحياء قانون الحياة وتعاليم البقاء، ويعودهم على الشجاعة الحقيقية في معركة الحياة كما يقول أحد شعراء النضال الفلسطيني:
هاتوا أياديكم..
فمعركة البقاء تريدكم جندًا..
ومعركة الرجوع..
الموت للغر المغامر والجبان..
والمجد للبطل الذي يتحمل الصدمات.
فالإيمان بالله هو الكفاح في معركة البقاء والوجود، والعمل في سبيل الله، والكر والفر، والإقدام والرجوع.. وأما حصر الإيمان والتعبد في الأداء النسكي المحض من الشعائر التعبدية المحضة كالصلاة والصوم فقط، فهو قضاء على شطر كبير من حقيقة الإيمان والعبادة، وإن هذا المفهوم الذي يعزل بين العمل العام وبين الإيمان والعبادة، غريب عن روح الإسلام ومقاصده وثوابته، بل هو إرث كنسي مسيحي متعلق بظروف التاريخ الغربي ومشاكله الخاصة.
فالإيمان والتعبد في الإسلام، يضيف إلى كنفه كل أشكال العمل الخيـر والنفع الذي قصد به وجه الله تبارك وتعالى، يقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الأنعام162).
وقد نسمع كثيرًا من يتحدث عن الخاتمة الحسنة فيذكر من مات وهو ساجد، أو وهو قائم يصلي أو نحوه وهذا من حسن الخاتمة دون شك، إنما ليست محصورة في ذلك. فلماذا لا نثني -مثلاً- على من مات وهو مجتهد في حقله ومزرعته ونعد ذلك من حسن الخاتمة، أو من يعمل حتى يكفي نفسه وزوجته وأولاده ووالديه من العيش الحلال؟
لماذا لا نثني على من مات وهو منهمك في إبداع أو اختراع أو ابتكار، يخدم من خلاله الإسلام والمسلمين؟ لماذا لا نثني على من مات وهو منشغل في وظيفته التي من خلالها يقوم بواجبه تجاه أمته ومجتمعه، ويطلب العيش الكريم الحلال؟ لماذا نظن أن الشيء الذي ينبغي الثناء عليه فحسب هو جانب التعبد المحض دون جوانب الحياة المختلفة التي كأنها معزولة أو بعيدة.
يروى في الحديث “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” (رواه الإمام أحمد)، والموت هو القيامة الصغرى. ففي الحديث يجعل العمل والحياة والزرع أداء لحق الله، لأن هذه الفسيلة المغروسة ليس فيها أي نفع دنيوي بعد أن تقوم القيامة.
والأنبياء عليهم السلام حين يدعون للإيمان فهم يدعون للحياة والعمل حين يقولون: (اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(الأعراف:73). وكانوا يعيشون الحياة كلها بشكلها الطبيعي؛ يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، بل ويعدون الناس بخيرات الحياة أو يلفتون أنظارهم لها: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)(نوح:10-12).
وجعل الإسلام مفهوم الإيمان يشمل كل ضروب الحياة؛ من الضمير إلى أدنى الأعمال فقال صلى الله عليه وسلم: “الإيمان بضْع وسبْعون -أوْ بضْع وستّون- شعْبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” (متفق عليه).وقدّم تصنيفًا واسعًا مرنًا للإيمان فجعل السلام صدقة، وإصلاح ذات البين صدقة، وإعانة المحتاج، وتخفيف المعاناة عن المصابين، بل حتى الشهوة الجنسية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : “وفي بضع أحدكم صدقة” قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيه أجر؟ قال: “أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر” (رواه مسلم).
وتاريخ الإسلام والإيمان هو تاريخ العلم والعمل والحضارة والثقافة، وتاريخ العلماء الفقهاء، جنبًا إلى جنب مع تاريخ العلماء المبدعين؛ عاشوا في جو واحد، وكانت مسؤولية الحاكم المؤمن حماية المجتمع وتطوير كل ألوان العلوم، دون أن يفتعلوا انقسامًا في عقل الإنسان وضميره وعقله بين العبادات المحضة والأعمال الدنيوية النافعة والمصالح العامة. فكل ذلك لوجه الله وفي سبيله، وصدق الله: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(الأنعام162-163).
(*) عالم ومفكر وداعية / المملكة العربية السعودية.