من الإشكالات والقضايا المعرفية والمنهجية الحاضرة بقوة في التراث العربي الإسلامي الإشكال التأويلي للنصوص والنقول الشرعية والدينية، وهذا الإشكال له تعلق بالفهم والتلقي والتفسير والبيان، وقد عبر هذا الإشكال عن حضوره بقوة في مختلف العلوم الإسلامية، وبالأخص في امتداداتها التاريخي البعيد، فرغم الفارق المنهجي القائم بين العلوم الإسلامية في الموضوع والمنهج والبناء، والقصد والغاية، ورغم اختلاف أسماء ومرجعيات ومواصفات هذه العلوم، في المادة العلمية التي تعتمدها و تستند إليها، و رغم تباين أهدافها وتعدد مواضيعها، فهي تبدو من الناحية المنهجية والابستمولوجية علمًا واحدًا متجانسًا، تتأسس وتقوم وظيفتها على مبدأ الفهم والتأويل والتلقي، غايتها الكبرى التوجه نحو استثمار النصوص والنقول الشرعية والدينية لتلقي واستخلاص معناها، والاقتراب من دلالتها في جميع الأبعاد والمستويات التي تشتغل فيها وعليها تلك الدلالة في النص، مع عدم إغفال أو إهمال أثر البعد السياقي والمقامي في توجيه المعنى، من خلال الأخذ والالتفات إلى السياقات المعينة على مبدأ التلقي السليم، والميسرة على الوقوف على المقصد الشرعي العام المحمول في النقول والنصوص الشرعية.
علم أصول الفقه والإشكال التأويلي
إن من أبرز العلوم استحضارًا لهذا الإشكال، وتحقيقًا للأهداف ذات الصلة بتحصيل المعاني من النصوص الشرعية علم أصول الفقه، فهذا العلم يعد من أبرز العلوم الإسلامية في الحضارة العربية الإسلامية، فهو علم يسعى إلى تشخيص الإشكال التأويلي الذي عبر عن حضوره بشكل قوي في معظم العلوم الإسلامية، مع العلم أن علم أصول الفقه هو في أصله مدونة شاملة وجامعة للقضايا اللغوية، وحاملة للمسائل الدلالية، إذ عمدت هذه المدونة على استحضار وإثارة كل ماله صلة وقرابة بالقضايا اللغوية قصد توظيفها واستثمارها في تفهم وتفهم النص.
ولتحقيق هذه الغاية اعتنى علماء الأصول بالقواعد اللغوية من خلال استقرائها من الكلام العربي ومما قرره علماء اللغة العربية بعد تتبعهم لطبيعة التخاطب في اللغة العربية، فهذه القواعد “ليس لها صبغة دينية، وإنما هي مشتقة من استقراء طبيعة التخاطب في الكلام والتعبير العربي”.
من جهة أخرى فهذا العلم في بنائه العام، وفي نسقه المركب لأجزائه ووحداته عادة ما يظهر بمظهر نسق من العلوم. لم تدخل فيه شُعب العلوم الإسلامية وحدها، بل دخلت فيه أيضًا العلوم العقلية المنقولة والدخيلة على الثقافة العربية الإسلامية والوافدة عليها من ثقافات أخرى.
لأن طبيعته تتحد في كونه قواعد وكليات معينة ومساعدة على تفهم الخطاب الشرعي والعربي ليكون هذا الفهم مقدمة ومدخلاً للاستدلال على الأحكام التي تم استنباطها.
ومن المسائل التي ينبغي الوقوف عندها، أن عالم الأصول ظل مندفعًا برغبة أكيدة وباختيار هادف في وجهته نحو حماية النص وصيانته من التوجهات والاختيارات التي بالغت في القول بتعدد القراءات، وبانفتاح النص وقبوله لأكثر من معنى، وأن النص يحمل فراغات شاسعة وواسعة، يملؤها القارئ بأسئلته المفتوحة التي قد لا تنتهي والسند في هذا القول، هو هذا المضمون القائل ليس هناك معنى حقيقي في النص، وإنما المعنى ما هو يودعه القارئ في النص، بل إن هذا التوجه اختار التصريح بأن النص يظل فارغًا من أي معنى موضوعي إلا ما جاد به المتلقي، وأن مناهج التفسير ما هي إلا تبريرات للذات، وأن غيابها أحسن من حضورها، ما يعني بقبول وانفتاح النص لعدد كثير من التأويلات غير المحدودة، وغير المنتهية.
لكن هذه التصريحات صادرها عالم الأصول، لأن أي خطاب له سننه ومنطقه وقانونه، وأن اللغة منح ربانية، مَنَّ الله بها على البشر للتخاطب والتفاهم والتواصل وأن الخطاب ما حقق إلا لتحقيق الإفادة، والأصل في المعنى أن يصل إلى القارئ بدون أن يشق هذا المعنى على المتلقي.
فجميع هذه الاعتبارات المنصوص عليها، تفضي بنا إلى هذا التصريح، وهو أن المسعى المشترك بين العلوم الإسلامية، هو إرساء وتقعيد قواعد الفهم السديد، وإرساء شروط التفسير السليم، وعرض مقتضيات وأصول البيان، وبيان طرق تحصيل المعنى المحمول في الخطاب القرآني بقسميه اللغوي والشرعي، ليكون هذا المعنى مدخلاً أوليًّا، وسبيلاً تمهيديًّا لاستنباط وتحصيل الحكم الشرعي من النصوص التي هي المدار في الفهم والاستدلال.
في السياق ذاته عملت العلوم التراثية في قسمها البياني، على مصادرة وإبطال الدعاوي التي تصادر سلطة القواعد والضوابط الناظمة لعملية التخاطب، وإبلاغ مقاصد المتكلم إلى السامع.
من جهة أخرى ينبغي الإشارة أن اشتغال علماء الإسلام على العلوم البيانية بمختلف أشكالها وأنواعها وفروعها، لم يكن مقتصرًا على مجال المضامين بمفردها كما يظن، بل توجه الاهتمام حتى على الآليات المنتجة لتلك المضامين المحمولة في النص، ما جعل نسبة كبيرة من هذه العلوم علوم مقصودة لغيرها.
فهذه الإشارات ملامح عامة، والإشكال التأويلي ليس بالغريب في الدراسات التراثية التي اعتنت بالمجال البياني والدلالي في النصوص والنقول الدينية.
جهة البيان في العلوم الإسلامية
إن ما يفسر نزوع أغلب العلوم الإسلامية نحو الاشتغال على الفهم والبيان والتلقي، هو تعلقها بالمباحث اللغوية، وبالأخص بجهة الدلالات، وتوجيه هذه المباحث إلى تحصيل المعنى من النص، لأن النص في التراث البياني العربي كان دائمًا هو المدار والمرجع في بنية العلوم الإسلامية.
وهذا الاعتبار ما جعل المدونة الأصولية غنية بالنقول وبالمباحث اللغوية، فهذا التعلق باللغة بين الأصوليين، جعل جزءًا كبيرًا من مباحث علم أصول الفقه تدور وتتجه نحو المباحث اللغوية والدلالية في جهة الوضع والاستعمال، وتحول الألفاظ تبعًا لسياق الاستعمال.
في هذا السياق قال الدكتور محمد عابد الجابري: “إن السلطة المرجعية في علم أصول الفقه كانت للبحوث اللغوية، والمحور الرئيس الذي ينتظم هذه البحوث هو علاقة اللفظ بالمعنى”.
بمعنى أن الغالب والمهيمن في هذا العلم هو للمباحث اللغوية ذات الصلة بجهة الدلالات، التي اعتبرها الإمام الغزالي في المستصفى بأنها القطب والروح في علم أصول الفقه.
والنص عند الأصوليين يشكل أحد المظاهر الدلالية، فهو أداة لإنتاج المَعنى وتقديمه للمتلقي وفق ميثاق التخاطب القائم بين المتكلم والسامع، وللمتلقي دور في إنتاج المعنى، لكن بشرط التقيد بقانون التخاطب، وعدم خرق هذا النظام بأي حال من الأحوال، لأن الأصل من التخاطب هو تحقيق الفائدة والبيان.
علم أصول الفقه والمنهج
إن علم أصول الفقه هو علم منهجي يدرج ضمن خانة علوم المناهج، أي العلوم التي اهتمت بالمجال المنهجي المنتج للمضامين، إذ كان الحرص على المناهج في العلوم الإسلامية، لأن سلامة النتائج متوقفة على سلامة المناهج، بحيث يتحدد مفهوم هذا العلم في كونه مجموعة من القواعد الكلية المخصصة للفهم والاستدلال والاستنباط، وهو في أحد جهاته مجموعة من المسالك والطرق التي بموجبها يفهم النص وفق أعراف وسنن اللغة العربية في الفهم، ليكون هذا الفهم مقدمةً للاستدلال، ومدخلاً إلى الاستنباط.
إذ ظل الإصرار على وجوب قراءة النصوص وفق مقتضى اللسان العربي، أي احترام شروط وقيود القراءة السليمة، فلا سلطة للقارئ على النص، إن لم يكن حاملاً للشروط التي تقتضيها قراءة النصوص.
وقد تحدث ابن خلدون في المقدمة عن علم أصول الفقه وعن قيمته العلمية والمنهجية فقال: “اعلم أن أصول الفقه من أعظم العلوم الشرعية وأجلها قدرًا، وأكثرها فائدة، وهو النظر في الأدلة الشرعية، من حيث تؤخذ منها الأحكام…”.
من جهة أخرى اعتبر ابن خلدون علم أصول الفقه من العلوم المستحدثة في الملة، بحيث لم يكن المتقدمون في حاجة إليه، وإنما نشأت الحاجة إليه بعد فساد الألسنة، واختلاط المسلمين بغيرهم من أهل الديانات الأخرى…”.
وقد نعت محمد عابد الجابري هذا العلم بمنطق الفقه الإسلامي، فهو منطق يوازي ويقابل المنطق الفلسفي، فهو عاصم للفقيه من الزلل في بناء استدلالاته.
المشروع التأويلي عند الإمام الشافعي
إن المشروع التأويلي الواسع والحاضر في العلوم الإسلامية، كانت الريادة والأسبقية في تأصيله تعود إلى الإمام الشافعي، فقد أهله في إعداد هذا المشروع الواسع ريادته وتميزه وتمكنه من اللغة العربية ومن علومها، وهو ما يتجسد فيما ترك من كتب ومصنفات وأشعار، تشترك جميعًا في استحضار ما له صلة وقرابة بالقضايا اللغوية، إذ وضع كتابه المشهور، والمتداول المسمى “الرسالة”.
فقد أراد الإمام الشافعي أن يكون علم أصول الفقه علمًا مسددًا في استمداد المعنى، وخادمًا لتفهم النص، ومساعدًا على الاستنباط، والاستدلال على الأحكام الشرعية، لأن تحصيل المعنى بطرق سليمة، والتقيد بالضوابط الصحيحة المتعارف عليها في اللغة العربية هو الطريق الأمثل للوصول إلى المعنى، ولإدراك القصد في النص الشرعي.
بهذا الوصف، فالمتابع وهو يتصفح ويتابع نسقية العلوم الإسلامية في بنائها وتركيبها ومرجعياتها وفروعها ومقاصدها، وكذا في تصنيف علماء الإسلام لهذه العلوم من حيث الحاجة والغرض إليها، يدرك أن القضية الحاضرة والمحورية بين المتقدين من علماء الإسلام أنهم قدموا وأعطوا الأولوية والصدارة للعلوم الآلية البيانية، وسموها بالعلوم المسددة والمساعدة على الفهم والتفسير والبيان والتلقي، لأن خطاب التكليف، عادة ما يتوقف على مقتضى التفسير والبيان: “فلا تكليف إلا بالبيان”.
ما يعني بأن الخلفية الدينية كانت هي الباعث على توجيه العناية بالفهم، والاهتمام بالتفسير بشكل أكثر في العلوم التراثية، وهذه الجهة تعد من أبرز الجهات الغالبة والسائدة في العلوم الإسلامية، بل تكاد تكون هي الجهة المهيمنة في النسق المعرفي الذي كان محور اشتغال وعناية علماء الإسلام في اشتغالهم على النص بشكل عام.
خلاصة واستنتاج
إن مقصد الأصوليين في تعاملهم مع النص، كان دائمًا هو الرغبة في فهمه، والوصول إلى معناه، وتمثل مقاصده، وهذه المحطة تعد محطة مهمة وحاسمة، لأنها هي المقدمة والمدخل إلى استنباط الأحكام الشرعية.