للكاتب فريد الأنصاري رحمه الله
ولد الكاتب فريد الأنصاري بإقليم الراشدية سنة 1380 ه الموافق 1960م وحصل شهادات علمية عليا (دكتورة الدولة في الدراسات الإسلامية والماجستير) وتولى مناصب مختلفة مثل رئاسة المجلس العلمي بمكناس ورئاسة شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بمكناس وعضوية في رابطة الأدب الإسلامي العالمية وغيرها من الشهادات والمناصب التي اضطلع بها وكان القرآن الكريم مشروع حياته ويتجلى انشغاله بهذا المشروع في مختلف شعب حياته، وصارت قضاياه قرآنية ومجالسه قرآنية ومصطلحاته قرآنية وبرنامجه قرآنيًّا وشعره قرآنيًّا وتصوفه قرآنيًّا) وقد التحق بربه يوم 17 ذو القعدة 1430 هـ/ 5 نوفمبر 2009، بتركيا تاركًا وراءه مؤلفات وكتب ذات حقول معرفية مختلفة وأتباعًا وأنصارًا ومحبين في أصقاع العالم.
والكتاب عبارة عن خمس رسائل كان يتواصل بها مع محبيه من خلال موقعه الإلكتروني [الفطرية] وهو بمستشفى السماء بتركيا كما صرح بذلك مقدم الكتاب عبد الناصر المقري وهذا مظهر من مظاهر هوسه وعشقه لتنفيذ مشروعه القرآني الذي أفنى حياته في سبيله (وأحق ما توهب له الأعمار كتاب الله).
وهذه الرسائل التي عنون لها وقدمها مرتبة (في تحديد الوجهة / مجالس القرآن منهج الغرباء/ إنه وحي فتعرضوا له/ حول مفهوم التدبر/ الإخلاص بوصلة الطريق) دونها ما بين 19/ 04/ 2009 وهو تاريخ أول رسالة و15/ 06/ 2009 وهو تاريخ آخر رسالة، ويشتمل الكتاب على 110 صفحة من الحجم الصغير وقد تولى نشره دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة سنة 2010 م 1431 ه، ورغم حجمه الصغير فإنه سفر نفيس وجوهرة ثمينة مكتوب بأسلوب أدبي ساحر وبلغة راقية تأخذ قارئه نحو المراقي وتلهب مشاعره وتحيي روحه ولا يستغنى عنه. بهذه الخلاصة يكشف الكاتب رحمه الله عن خمسة أخطاء ويشخص مواضع الخلل ومواطن العلل في تعامل المسلم مع القرآن الكريم ويصف لكل داء دواء ولكل علة بلسمًا وترياقًا، وهو بذلك يجيب عن السؤال المؤلم الذي يحرق قلوب عشاق القرآن: كيف نستفيد من القرآن؟ أو ليس هذا القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن نفسه الذي صنع الصحابة ونقلهم من رعاة الغنم إلى رعاة الأمم وأحياهم بعدما كانوا أمواتًا ماذا نصنع حتى نتفاعل مع القرآن كما تفاعل معه جيل الصحابة أوليس هذا القرآن نفسه هو الذي تخرجت به هذه الأمة؟ وهو سؤال يذكرنا بالتساؤل الذي طرحه كتاب وعلماء قديمًا وحديثًا: هل بالإمكان أن يتكرر جيل الصحابة في زماننا؟ وفي تقديري أنه بإمكان ذلك ما إن صفت القلوب وملئت باليقين وقويت العزائم وأخذ الوحي بالقوة لأن الذي صنعهم هو الوحي (كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو معنا إلى أن ينتهي عمر هذه الحياة والعلماء ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ﴾(الأحزاب:39) يضطلعون بوظائف الرسل عليهم السلام لأن (العلماء ورثة الأنبياء) وهذا من معاني هذا الإرث ومستلزماته مع التفاوت الواضح في ذلك بين العلماء والأنبياء.
لن أراعي في تقديم هذه الرسالات القرآنية الترتيب الذي درج عليه الكاتب وإنما سأقدم ما أخره وأخر ما قدمه في أسلوب مختصر مع إضافات وإيضاحات واضعًا كلامه بين قوسين مشيرًا إلى رقم الصفحة في الهامش للرجوع إليه وأسميت تلك الرسالات الخمس بالمفاتيح إيمانًا مني أن من أخذها بحقها سيفتح له القرآن الكريم بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا. فتعالوا معنا لتتلقى هذه المفاتيح النورانية من الكاتب رحمه الله بآذان واعية وقلوب يقظة وأرواح خالصة عسى الله أن ينفعنا بكتابه المبين.
- المفتاح الأول: الإخلاص بوصلة الطريق
ويعرف الإخلاص بعبارات أدبية وإشارات روحية بقوله: (صمام أمان وبوصلة سير وميزان عمل وضمان وصول) وقد حذر المسلم من نسيان الإخلاص لله ولو للحظة (ومن عاش لحظة من عمره بغير إخلاص يكون قد وضع مصيره على فوهة مدفع شيطان) فالمسلم يخلص النية لله في كل شعب حياته عواطف ومشاعر وأقوالاً وأفعالاً وحركة وسكونًا ويحررها من كل متع الحياة الدنيا وأعراضها وأغراضها وبذلك يصير عبدًا أخرويًّا (والمؤمن عبد أخروي حقًّا).
ولقد رسم ملامح المخلصين بريشته الماهرة (المخلصون هم الذين يحضرون في المغارم ويغيبون عند المغانم ولا يتزاحمون باسم العمل الإسلامي على المراتب والرواتب) ولكن كيف سنحصل يا شيخنا على هذا الدواء لنتذوق حلاوة الإخلاص؟ يجيبنا ويقدم لنا هذه الوصفة: (الإخلاص قرار ومكابدة أو قل عزيمة ومجاهدة ودونك الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(البقرة:218).
فالإيمان إذًا لا يعبر عن الولاء الكامل لله إلا بالهجرة المادية والروحية وهي تنبع من اتخاذ قرار وعزيمة وتعقبها مجاهدة النفس والشيطان حتى الموت والفناء). فمن رغب في تذوق حلاوة الإخلاص لا بد من دفع ثمن يتمثل في خطوتين أولاها: اتخاذ قرار نابع من عزيمة تهد الجبال وتفل الحديد قرار طافح برغبة في الالتحاق بقافلة المخلصين وثانيها: مجاهدة ومكابدة وهي ترجمة عملية وتطبيق سلوكي للقرار السابق ومجاهدة النفس وتربيتها وتزكيتها وتهذيبها عملية ومعركة مستمرة مدى الحياة ولم يفته أن يذكر الحركات الإسلامية ــ وهو أحد رموزها ــ بهذا الركن الركين والأصل الأصيل ويحذرها وينذرها بنسيانه والشرود عنه وقد تجرعت هذه الحركات كأسًا دهاقًا من مرارة الانكسارات والانتكاسات المتتالية وذهبت مجهوداتها المبذولة طوال أربعين سنة هباءً منثورًا تأخرنا فيها بدل أن نتقدم بسبب نسيانها لهذا المفتاح، وكلما تساءلنا أين الخلل يبادرنا الشيطان بإلقاء أسباب منطقية كاذبة ومن المنطق ما هو كاذب تعمية عن جواب القرآن الواضح إنه الإخلاص لأن هذه الحركات الإسلامية كانت مبهورة بنشوة الشهرة وحب الظهور واختراع مصطلحات نضالية وكلمات بطولية فأخرجت أجيالاً من المتكلمين مجردين من حقائق القرآن، وسبب وقوعها في هذا الفخ أنه لم يكن بحسبانها اعتراض الشيطان موكب الدعاة إلى الله بينما الحقيقة (أن حصون الدعوة الإسلامية هي أول شيء يقصده الشيطان بالإغارة وأن قوافل الدعاة أول المستهدفين بفتن التشتيت والتفتيت وعواصف التشريد والتبديد).
ولنا أن نتساءل: هل غياب الإخلاص هو العامل الوحيد الذي أخر الحركات الإسلامية وشتت صفوفها وشرد أتباعها وجعل تضحياتها الجبارة ضحية ورمادًا اشتدت به الريح في يوم عاصف؟ أم أن هناك معاول أخرى وفقدان الإخلاص أحد معاول الهدم وليس جميعها؟ طبعًا هو أحدها وليس وحيدها، ويجب الابتعاد في العمل الدعوي الإسلامي بمختلف مظاهره عن تمجيد الرموز والقيادات التي تتحول في قلوب الأتباع إلى أوثان معنوية خفية وهم لا يشعرون وتجنب المبالغة في مدح الزعماء حتى لا يورثهم الغرور ويزرع في صدورهم بذور العجب وينسيهم الإخلاص فيسقطون في أوحال الشهرة سكارى وهذا واقع ما له من دافع ترى معظم الأتباع والأنصار يحولون زعماءهم وروادهم إلى قديسين وأنبياء ورسل. ولم يسلم من هذا الداء إلا ثلة قليلة ويستوي في هذه الجائحة اليساريون واليمينيون والوسطيون.
وعصارة الباب أن الرياء والشهرة والسعي وراء المراتب والرواتب هو الداء ودواؤه الإخلاص وطريق تحصيله عزيمة ومجاهدة وقرار ومكابدة مستمرة مدى الحياة فإذا انتهينا من هذه الخطوة وظفرنا بهذا المفتاح فلننطلق للبحث عن المفتاح التالي وهو…
- المفتاح الثاني: إنه وحي فتعرضوا له
ومن عوائق الانتفاع بالقرآن الكريم إقبال الناس عليه (باعتباره مصحفًا ورقيًّا جافًّا لا حياة فيه) و(تعاملنا مع القرآن أشبه ما يكون بسقوط حجر أو نيزك من السماء حاميًا ملتهبًا وانبهر به الناس أول الأمر فما لبث أن برد وبلي وصار ينظر إليه باعتباره حجرًا من الأحجار) متميزًا عن الأحجار الأخرى بقصة سقوطه إلى الأرض فشعور المسلمين بأنه وحي شعور ميت ومنطفئ أو خافت وبارد فالمسلمون رغم علمهم ومعرفتهم العقلية بأنه وحي وإنما القرآن وحي حي ونور تتدفق أنهاره على مستنقعات الظلام (وما كان لكلام الله أن يبلى أو يموت لأنه كلام الحي الذي لا يموت وإنما شعورنا به هو الذي يبلى ويموت) وقد استلهم هذه الدلالة من شرحه وتحليله لكلمة (الوحي وهي كلمة لها دلالتان أولاهما: معنى مصدري لفعل وحي يحي وحيًا وهو نزول خفي من السماء وبهذا المعنى المصدري للوحي يصح القول بأن نزول الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم وثانيهما: معنى اسمي وصفي أي أن الوحي اسم وصفة لازمين للقرآن وبهذا المعنى لم ينقطع الوحي بالتحاق محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وإنما هو نور حاضر يتدفق في الآيات القرآنية) وقد وصف الله القرآن بالوحي وسماه به في آيات كثيرة ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾(النجم:4). ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ (الأنبياء:45). فهو صفة لازمة له وعلم دال عليه، ومن المعاني القريبة من هذا المقصود الذي يدندن حوله المؤلف محاولاً إلهاب روحنا أنه سبحانه سمى كلامه بالروح في مواضع ثلاثة: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ﴾(النحل:2)، ﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ﴾(غافر:15)، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ﴾(الشورى:52). وقد بين جمهور المفسرين المقصود من الروح الواردة في الآيات السابقة بأنه هو القرآن وكفى بذلك دلالة على سره الإحيائي، وحتى الدراسات القرآنية العلمية أغفلت إحياء هذا البعد في قلوب المؤمنين وذلك باهتماماتها بالبنية الشكلية للقرآن مثل الجوانب اللغوية والبلاغية والفقهية ــوهي عناية مهمة ومطلوبةــ أكبر من اكتراثها بإحياء هذا المفهوم الذي يرقى بصاحبه في تعامله مع القرآن من مستوى المصحفية إلى مستوى القرآنية وإنما أهم فصل في تعريف القرآن أنه كلام الله، ويبوح المؤلف بسره لأهل القرآن العاشقين المتعطشين لحقائق الكتاب المبين بقوله: (وتلقي القرآن بوصفه وحيًا وكلامًا لله هو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية والتخلق بحقائقه الإيمانية العظمى) فالداء إذن هو ضعف الإحساس في قلوبنا أو انطفاؤه وبرودته تجاه القرآن بأنه كلام الله مع إدراكنا عقليًّا بأنه كلام الله وغياب الشعور بأن القارئ هو المقصود بكلام الله والدواء هو الإقبال على القرآن بصفته وحيًا وكلام الله المتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال متذكرًا بأن ما يتم قراءته موجه للقارئ أولاً، فإذا انتهينا من هذه الخطوة وحصلنا على هذا المفتاح الثاني فلننطلق للبحث عن المفتاح التالي وهو…
- المفتاح الثالث: تأسيس مجالس القرآن
ومما نبه إليه الشيخ للانتفاع بالقرآن الكريم ضرورة تأسيس وإنشاء مجالس لقراءة القرآن داخل الأسرة وخارجها لتلاوة كلام الله والإنصات إليه كي يطهر القلوب والأرواح من الأوساخ الفكرية والعاطفية التي انتقلت إليه عبر روافد قددًا كما يطهر الماء الأدران المادية، وقد يبدو هذا العمل قليلاً مقارنة بما تعج به الساحة الإعلامية العالمية من مناهج وبرامج مضللة وخطط شيطانية، ولكن القرآن المجيد مع بياناته النبوية هو كل شيء وهو البرنامج والمنهاج بما للكلمتين من معنى، ويستدل الشيخ على هذا الدور الطلائعي للقرآن الكريم بحديث رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم: (إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدًا)(أخرجه الطبراني وابن حبان).
والتأثير السحري لهذه المجالس رهين بصدق أصحابها وإخلاص جلاسها وأي مجلس انعقد لهذا الهدف بصدق وإخلاص لهو حلقة من حلقة الصديقين ومشكاة نور مستمدة من مصباح سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وهل يشترط في المنخرطين في هذه المجالس والمنتسبين إليها درجة علمية وكفاءة شرعية؟ يجيب الشيخ: (لا يلزم أن يكون الداعية بالقرآن والمنخرط في مدرسته والعاقد لمجالسه والمكابد لتكاليفه من أهل العلم المختصين به) وإنما هو حق ممنوح ومكفول لكل مسلم شريط (أن يكون له رصيد من العربية لفهم خطاب القرآن إجمالاً ولقد كان العرب بداية الأمر أميين لا يكتبون ولا يقرؤون ولا معرفة لهم بمبادئ العلوم ما عدا اللسان العربي) وسهولة فهم المعاني الإجمالية للآيات القرآنية وتيسير إدراكها لهي من صفات وملامح هذا الكتاب المبين ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ وهي آية تكررت في سورة القمر 4 مرات، “وتيسيره للذكر يتضمن أنواعًا من التيسير: إحداها: تيسير ألفاظه للحفظ، الثاني: تيسير معانيه للفهم، الثالث: تيسير أوامره ونواهيه للامتثال”. ومع أن التخصص الشرعي غير مشروط في المعتكفين على قراءة القرآن ومدارسته فإن حضور العلماء في الإشراف على مسيرته الدعوية ضرورة شرعية حفاظًا على سلامة سيرها وحماية من شرود بوصلتها وتعليمًا وتزكية لروادها العاشقين للقرآن مطلعين بالأدوار والوظائف التي أنجزها رسول الله وهو يصنع جيل الصحابة وهي أدوار خلدها كتاب الله في آيات منها: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(الجمعة:2). وإنما العلماء ورثة الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام.
وللشيخ فريد كتاب فريد في بابه (مجالس القرآن) تحدث فيه عن الضوابط المنهجية لحماية هذا المشروع القرآني من الانحراف والشرود وأوصلها إلى عشرين ضابطًا (فمن يبادر إلى إنقاذ نفسه مع من وفقه الله إلى إصلاحهم فيعود بهم من متاهات الشرود إلى هدى القرآن القويم ويتحلل من شكوى رسول الله إلى ربه ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾(الفرقان:30). فإذا انتهينا من هذه الخطوة وحصلنا على هذا المفتاح فلننطلق للاطلاع على المفتاح التالي وهو…
- المفتاح الرابع: قراءة القرآن بتدبر
من موانع الانتفاع بالقرآن فكريًّا وروحيًّا وتربية الإعراض عن تدبره وهو أحد مقاصد نزوله يقول تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾(ص:29) وقد انصرفنا عن تدبره رغم هذه الصرخة المدوية الربانية ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(محمد:24)، فالذي لا يتدبر القرآن على قلبه قفل ومادامت أبواب قلوبنا مقفلة ونوافذها مغلقة فأنى تنتفع بالقرآن الكريم؟
فما هي إذن أسباب انصرافنا وإعراضنا عن تدبر القرآن؟ يجمل الشيخ هذه الأسباب في عدم إدراك قيمة القرآن، ثم التهيب من عملية التدبر باعتبارها اجتراء على كتاب الله بدون أهلية علمية وهذا التهيب والإحساس بالذنب ناتج عن التصور الخاطئ والمغشوش لمعنى التدبر وجعله مرادفًا لمعنى التفسير، وقد كنا نتدارس مع بعض الإخوان كتاب: قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله للعلامة عبد الرحمن حبنكة فوجدناه كتابًا في قواعد التفسير وهو كتاب من العمق والدقة بمكان لكنه لا تدبر فيه بالمعنى القرآني للكلمة.
واستعمال الكلمتين (التفسير والتدبر) على سبيل الترادف غير صحيح (لأن التفسير هو كشف وبيان لمعنى الكلمة، أما التدبر فهو النظر في دبر الشيء والتأمل في عواقبه ونتائجه الواقعة أو المتوقعة وهو اتعاظ واعتبار بمعنى الكلام وهو نوع من محاسبة النفس وتربيتها بتذكيرها بخالقها وما ينتظرها ولا يشترط في المتدبر في كتاب الله الإلمام بالعلوم والفنون الشرعية والأدبية، لأن التدبر لا ينبني عليه حلال ولا حرام ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء وإنما هو مسلك روحي يقود القلب للتوبة والإنابة ومجاهدة النفس، وإنما يكفيه فهم معنى الآية أو الكلمة فهمًا عامًّا لأن القرآن كتاب ميسر للجميع ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾، فإذا علم المسلم معنى كلمة الفلق = الفجر في ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾(الفلق:1) أمكنه التأمل في ولادة اليوم والصبح إذا تنفس وهي ظاهرة كونية ساحرة، فكل من قرأ القرآن متدبرًا متحققًا بإخلاص وفهم عام لما يقرؤه سيأخذ نصيبه من نور القرآن وان كان نصيب العالم أكبر حظًّا من غيره (وعلم العالم وخبرة المفسر تعطيه فرصة أكبر بكثير لتعميق التدبر والوصول به إلى أرقى منازل الإيمان) وقد يحصل الأمي المخلص على وجبة قوت أفضل بكثير من العالم المجرد من الإخلاص (ولربما سبق القنفذ الفرس).
ويلخص الفرق بين المتدبر والمفسر بقوله: (المفسر عالم وفقيه يقوم ببيان الحقائق القرآنية والأحكام الشرعية والتصدر للفتوى بينما المتدبر مجرد واعظ ومتعظ وقد يجمع الله للمرء بين الخيرين والعالم الحق لا يصلح له إلا ذلك).
وقد قدم نماذج كثيرة من أحوال المتدبرين بدءًا من الرسول صلى الله عليه وسلم مرورًا بالصحابة الكرام وختامًا بأحوال السلف الصالح وقد استغرق بسطها ثمان صفحات، كما تطرق إلى توضيح أوجه الفرق بين ثلاث مصطلحات قرآنية وهي التدبر والتفكر والتذكر (التدبر ينصرف استعماله غالبًا إلى تأمل القرآن بينما التفكر ينصرف استعماله إلى تأمل الكون المنظور وإذا تأملت وجدت نتيجتهما واحدة وهي الاتعاظ والاعتبار والتذكر) وبما أن عملية التدبر ليست حكرًا على المفسرين وذوي الخبرة شرعية كما تقدم بيانه فإن عملية التفكر في الكون ليس عملاً عقليًّا معقدًا خاصًّا بعلماء الفيزياء والكيمياء والفلك، وإن كان العلماء أولى به.
وإجمالاً لهذه الرسالة نحدد بواعث إعراضنا عن تدبر القرآن في عدم معرفة قيمة القرآن واختلاط مفهوم التفسير بمفهوم التدبر الذي نشأ عنه خوف ورهب من تدبر آي القرآن وهو من تلبيس إبليس حيث يوسوس للمسلم في صورة وعظ وإرشاد ويقدم نفسه ناصحًا أمينًا وقد انطلت صورة هذا النصب والاحتيال حتى على أبينا آدم عليه السلام ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾(الأعراف:21). ودواء هذا المرض هو المبادرة والمسابقة والمسارعة إلى تدبر القرآن مستعينًا بكتب التفسير واللغة إن دعت الحاجة لذلك مستشعرًا عظمة من يخاطبه مستصحبًا الإخلاص لرب العالمين. فإذا انتهينا من هذه الخطوة وأدركنا هذا السر الدفين في هذا المفتاح وجب علينا ترويض أنفسنا على تدبر القرآن لفتح الأقفال المهيمنة على قلوبنا ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ لتحرير قلوبنا من هذه القيود ثم بعد ذلك سننطلق للبحث عن المفتاح التالي وهو…
- المفتاح الخامس: في تحديد الوجهة
من العقبات التي تحول دون الاستفادة من القرآن عدم اتخاذ القرآن مشروع حياة والاشتغال به بدل الاشتغال حوله وهذه أزمة وقع فيها المسلم المعاصر فردًا وجماعات ومؤسسات، وتتجلى أعراض هذه الأزمة في اشتغالنا حول القرآن وليس في القرآن فالذي يشتغل حول القرآن إنما يجعله شعارًا ـ من حيث لا يشعرـ بينما هو منشغل في الحقيقة بآرائه الشخصانية أو الجماعية، أما الاشتغال في القرآن وبالقرآن فهو اتخاذه أساس المشروع ومنطلقه ومنتهاه تلاوة وتعلمًا وتعليمًا وتزكية والتحقق بحقائقه والتخلق بأخلاقه. وأخْذُ القرآن بهذه الصورة هو منهاج رسول الله والصحابة الكرام في استقبالهم لنزول القرآن، وما كان نزول القرآن منجمًا ومفرقًا إلا خدمة لهذا المقصد التربوي الرباني وقد استغرق نزوله 23 سنة وهي مدة بناء الإنسان في كل أبعاد شخصيته، ولم يكن واحد من الصحابة ينتقل من آية لأخرى حتى يفرغ منها حفظًا وفهمًا وعملاً وهذا وجه من أوجه اختلاف تعامل الصحابة مع القرآن مع تعاملنا وعادتنا السيئة التي لا تتجاوز حناجرنا غالبًا، واشتغال المؤمنين بالقرآن بالمنهاج ذاته الذي اتبعه الصحابة هو أساس تجديد هذا الدين واستنبات جيل الفتح المبين (وإن ذلك لهو السبيل الأساس لتحرير هذه الأمة من الأهواء والأعداء).
ويذكر المؤلف أن أول من سيخضع لعمليات هذا المنهاج القرآني وجراحاته العميقة هو حامل رسالاته لأن نور القرآن لا يمتد شعاعه إلى الآخرين إلا باشتعال قلب حامل كلماته وتوهجه بحقائقه الإيمانية، ولقد رأينا بركة هذا المنهاج وتأثيره الذي يكتسح كل الأسوار والقلاع والحصار على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان الله معهم عبر التاريخ، والاشتغال بالقرآن بهذا المنهاج ليس معناه إلغاء وسائل العمل الإسلامي الاجتهادية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وثقافية وإنما يجب أن تخضع لتوجيهات القرآن وأولوياته.
ويذكر الكاتب في أسف وحسرة أن أغلب فصائل الحركة الإسلامية في شغل شاغل عن هذا المنهاج ولقد سجلنا في غير ما ورقة وكتاب تشخيصنا لأزمة العمل الإسلامي المعاصر.
وتلقي القرآن بهذا المنهاج تلاوة بمنهج التلقي وتزكية للنفوس بمنهج التدبر وتعلمًا وتعليمًا بمنهج التدارس سيستغرق عمر الإنسان كما استغرق حياة الصحابة والنبي قبلهم (وأحق ما توهب له الأعمار كتاب الله). وبهذا نكون قد أتينا على آخر المفاتيح التي قدمها الشيخ وأعدنا صياغتها في حلة مختلفة شكلاً متحدة روحًا ومعنى.
ختامًا
آمل أن يكون مسك الختام وخلاصة لهذه الرسائل الخمس، أنه يلزمنا أن نجاهد أنفسنا على قراءة القرآن بإخلاص، وأن نروض عنفوانها على تدبره مستشعرين أن الله يكلمنا ويقصدنا بخطابه، متخذين مجالسًا لتدارسه ومدارسته داخل أسرنا ومعارفنا المقربين، لإنارة قلوبهم عازمين على جعل القرآن مشروع حياتنا من خلاله نبني أنفسنا على مكث مقتفين منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صناعة الإنسان الصالح والمصلح. وما أصعبها من وظيفة وما أعظمها من مهمة وهي يسيرة على من يسَّرها الله عليه وأسأل الله أن ييسرنا لليُسرَى ونعوذ به من أن ييسرنا للعسرى.