يستهلك المواطن في العالم العربي ما يعادل 50 كجم من السكر في المتوسط سنويًّا، ويعد هذا المؤشر دليلاً على خطورة الاستمرار في هذا الوضع. وليس هذا بمعزل عن العادات الغذائية الخاطئة التي يمارسها المجتمع في نواح أخرى، مثل استهلاك الأطعمة الدهنية الدسمة، وقلة ممارسة النشاط والحركة. إن استهلاك مثل هذه النوعية من الأطعمة، لا يسبب مشكلاً إذا كان الفرد يمارس تمارين منتظمة للمحافظة على لياقته البدنية.
لكن الملاحظ أن النشاط البدني يكاد يكون معدمًا عند قطاع عريض من الناس وخاصة ذوي الأعمار التي تخطت الأربعين، مما يرفع من معدل خطر الإصابة بمرض السكري.
إن مرض ارتفاع نسبة الجلوكوز في الدم، لا يعد مشكلة في حد ذاته، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في المضاعفات التي يحدثها نتيجة الارتفاع المستمر له وغير المنتظم. فهذه المضاعفات تؤثر على الجسم من أعلاه إلى أدناه مرورًا بتساقط الشعر، وضعف البصر، وتساقط الأسنان، وأمراض القلب والكلى والكبد والبروستات، وضعف الأعصاب، والروماتيزم، وارتفاع ضغط الدم وغيرها.
أكثر ما يهمنا من هذه المضاعفات هو ضعف الإبصار، وإصابات الأعصاب الطرفية، وبطء التئام الجروح، بما يعرف بالآكلة أو “الغرغرينا” التي تؤدي إلى البتر، وهي مضاعفات تؤثر على الفعالية الحياتية للإنسان.
إن الإصابة بمرض السكري دون أن يكون هناك تحكمًا في نسبة السكر في الدم، يؤدي إلى ضعف أو خلل في الأعصاب الموصلة للإشارات البصرية، وكذلك ضعف في شبكية العين التي تتطلب تدخلاً دوائيًّا أو جراحيًّا لحماية الأعصاب البصرية حتى لا تؤدي إلى العمى.
أما القدمان، فإن نوعية الأحذية التي يلبسها مريض السكري تتطلب عناية تامة، وملاحظة أية تقرحات أو جروح تظهر عند لبس هذا النوع من الأحذية ومعالجتها فورًا ودون تأخير. فمن الشائع تأثر أقدام المصابين بالسكري بالجروح والتقرحات الصغيرة، وإهمالها يؤدي حتمًا إلى حد بتر أصبع القدم أو القدم بكاملها، وبالتالي الإصابة بالعجز الدائم.
مضاعفات مرض السكري من الممكن التغلب عليها والوقاية منها، بالحرص والعناية والاهتمام واتباع حمية غذائية تساعد على التحكم في نسبة سكر الدم، وكذلك تناول العلاج في موعده، مع العلم أن كثيرًا من المصابين بالسكري من النوع الثاني، قد لا يحتاجون إلا لاتباع حمية غذائية معينة يستطيع الإنسان التعرف على أساسياتها العامة عند الرجوع إلى الطبيب في هذا المجال. وهناك الكثير من الرياضيين والمشاهير المصابين بالسكري، يمارسون حياتهم اليومية دون أن يعيقهم ذلك عن أداء مهامهم. وبالمثل يستطيع المريض المصاب بالسكري أداء جميع المهام الموكلة إليه بكل اقتدار متى عرف كيف يتحكم في هذا المرض.
شهية الخلايا السرطانية للسكر
إن أخطر ما تؤدي إليه مضاعفات مرض السكري، هو علاقته بالخلايا السرطانية. فقد قال العلماء الذين أجروا دراسة عن هذه العلاقة، إن مشروعهم البحثي على امتداد تسع سنوات، أوصلهم إلى أن هناك آلية بيولوجية في خلايا الخميرة يمكنها تفسير العلاقة بين السكر والأورام الخبيثة، من خلال الكشف عن الطريقة التي تقوم بها الخلايا السرطانية بتكسير السكر والتي ترتبط بتحفيز نمو الورم.
بدأ العلماء بدراسة شهية الخلايا السرطانية للسكر، لأن هذه الخلايا تدعم انشطارها المتسارع بإعادة برمجة تمثيلها لامتصاص السكر وتخميره وإنتاج اللاكتات. وعلى العكس من ذلك، فإن الخلايا السليمة استمرت في التنفس الطبيعي وامتصاص السكر وتحلله إلى ثاني أوكسيد الكربون والماء.
إن كل خلية في الجسم بحاجة إلى السكر من أجل البقاء، لكن جاء اكتشاف العالم “أوتو واربورج” ليوضح أن الخلايا السرطانية تفضل الجلوكوز، أو تتطلب السكر أكثر من الخلايا السليمة، حيث تقوم بتكسير السكر بصورة أسرع ولكنها لا تقتصر عليه، وهو ما يعرف باسم “مؤثر واربورج”. وقد فكر العلماء منذ فترة طويلة، فيما إذا كانت هذه الظاهرة مرتبطة بكيفية نمو الأورام بقوة أم لا.
يقول رئيس فريق الباحثين الدكتور “يوهان تيفيلاين” من مركز لوفان البلجيكي للبيولوجية السرطانية: “كشفت أبحاثنا كيفية الأداء الاستهلاكي للسكر السطحي المفرط للخلايا السرطانية، الذي يؤدي إلى حلقة ضارة من التحفيز المستمر لنمو السرطان وتطوره، كما أنه قادر على تفسير العلاقة بين قوة تأثير فاربورج وعدوانية الورم. وهذا الارتباط بين السكر والسرطان له عواقب واسعة النطاق، ونتائجنا الحالية تجرى أساسًا للبحوث المستقبلية في هذا المجال، والتي يمكن أن تكون أكثر دقة”.
من قبلُ كان هناك تساؤل مهم هو: هل مؤثر واربورج عرض من الأعراض، أم سبب من الأسباب؟ ولم يكن واضحًا ما إذا كان مؤثر واربورج مجرد عرض من أعراض السرطان، أو ما إذا كان يمكن أن يؤثر على نمو الورم.
أخيرًا أظهرت الدراسة الجديدة أن مؤثر واربورج يحفز بالفعل على نمو الأورام السرطانية، إلا أن هذا لا يعني -بأي حال من الأحوال- أن السكر يسبب السرطان بشكل مباشر. ولإجراء أبحاثهم، استخدم العلماء الخميرة ككائن نموذجي؛ فالخميرة تنتج أيضًا الطاقة من السكر عن طريق التخمير، تمامًا مثل الخلايا السرطانية، كما أنها تحتوي على بروتينات “راس” (Ras) الموجودة في الخلايا السرطانية.
أحد أدوار هذه البروتينات، هو أن لديه قدرة التحكم في نمو الخلايا حالَ ما إذا تعرضت الجينات المتحكم بها إلى طفرة جينية. كما أن بروتينات راس، يمكنها أن تصبح نشطة بشكل دائم، ما يتسبب في توحش ونمو الخلايا، وبالتالي الانتشار غير المنضبط للخلايا السرطانية. وهكذا باستخدام الخميرة، نظر الباحثون إلى العلاقة بين بروتينات راس وارتفاع نسبة التمثيل الغذائي للسكر.
وأوضح البروفيسور “ثيفلين” أن: “الميزة الرئيسة لاستخدام الخميرة في أبحاثنا، هي أنها لم تتأثر بالآليات التنظيمية الإضافية لخلايا الثدييات، التي تخفي العمليات الأساسية الحاسمة، وبالتالي كنا قادرين على استهداف العمليات الأساسية وتأكيد وجودها في خلايا الثدييات، وهذه النتائج مثيرة جدًّا في مستقبل أبحاث السرطان، كما أن معرفة المزيد عن علاقة السرطان بالسكر، وانفتاح هذا الأمر في البحوث، لا يساوي بالضرورة تقدمًا أو تطورًا في الطب”.
السكريات مخدرات
إن السكر يساهم بكل تأكيد في زيادة الوزن، وهو بلا قيمة غذائية كبيرة، لذا فمن الأفضل الحفاظ على وزن صحي بإيجاد توازن بين الرياضة والغذاء الذي يتناوله الشخص، لا سيما لدى مرضى السرطان. ولعل ذلك كان أحد الأسباب التي دعت العلماء إلى التعامل مع السكريات كنوع من المخدرات، حتى إنهم طالبوا بالفعل بإدراج السكر ضمن جداول المخدرات لتقنينه ودرء مخاطره.
أول مَن وجَّه بهذا كان الباحث والكاتب “جاري تاوبس” في كتاب يقول فيه: “أثناء فترة طفولتي كانت حلوى الجِلي بطعم البطيخ هي المفضلة عندي، لم أكن أحب باقي النكهات المتعددة، لذا كنت أقوم بالتخلص من الأنواع الأخرى، فمثلاً نكهة العنب كانت مقبولة، أما التفاح الأخضر فكنت أرميها؛ حتى أقوم بالتلذذ بنكهة البطيخ المفضلة لدي. وفي أحد أيام الصيف قُدِّم لي البطيخ الطبيعي، رفضته ولم آكله، لأن نكهته لم تكن كتلك التي تعودت عليها بالحلوى المنكهة. فهل يعد هذا إدمانًا يشابه إدمان المخدرات؟ وبالتالي هل يمكننا أن نصنف السكر كنوع من المخدرات؟”.
لقد نوقش هذا السؤال لفترة طويلة من الزمن، منذ عرف العلماء أن السكر يقوم بتحفيز مناطق إفراز الدوبامين لدينا، مما يجعل منطقة المكافأة في الدماغ (Brain Reward System) تعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها عند تعاطي الإنسان للكحول أو النيكوتين أو المخدرات. فنظام المكافأة هو عبارة عن نظام عبور كيميائي وكهربائي في العديد من المناطق المختلفة من الدماغ، حيث تتفاعل مادة الدوبامين الكيميائية التي تُسمى بالنواقل العصبية في الدماغ، لتؤثر على الكثير من الأحاسيس والسلوكيات.
لقد اكتشف مركز الدراسات الغذائية البريطاني، أن نصف السكريات التي يتناولها الأطفال تكون في الصباح، أما كون السكر طبيعيًّا أو صحيًّا، فهذا لا يحل المشكلة، لأن الكبد لن يهتم إذا ما كان السكر طبيعيًّا -عضويًّا- أم لا.
مع هذا كله فنحن بحاجة للسكريات، لأن أدمغتنا تسحب الطاقة منها كما يسحب طائر الطنان الرحيق من الزهرة. وعلى الرغم من الضغط والخداع الذي يمارسه لوبي شركات السكريات، أقرت منظمة الصحة العالمية أن الحد الأعلى لتناول السكر في اليوم الواحد هو 25 كجم، مع العلم أن أي علبة عصير أو شراب طبيعية وطازجة نسبة السكر فيها أعلى من 25 جم.
ولهذا نرى تعرض الأطفال لأمراض إدمانية شبيهة بأمراض مدمني الكحول، مما دعا بعض الخبراء إلى التعامل مع السكريات كمخدرات.
خطر يعيش فينا
وفي المقابل ولمواجهة هذه الموجة، اعتمد البعض على فهم مغلوط وسطحي لآلية تسمى “التطهير”، أي تطهير الجسم من السموم. وهذه الطريقة أيضًا لها مخاطر عديدة؛ فمؤخرًا دخلت امرأة المستشفى بعد أن تعرضت لنوبة مرضية، وكانت قد استخدمت “مواد طبيعية” مثل الشاي الأخضر، وحليب الشوك أو الحرشف البري، وجذور نبات الناردين المعروفة أيضًا باسم السنبُل الرومي أو حشيشة القطة، بهدف “الـتخلص من السموم”، لكن تبين في النهاية أن تلك المواد الطبيعية هي المسؤولة عن نوبتها المرضية.
في أول تقرير لمنظمة الصحة العالمية عن مرض السكري، ذكر أن هناك 422 مليون بالغ -حول العالم- مصاب بالسكري، ويعيشون بشكل رئيس في الدول المتقدمة. ومن المثير للاهتمام أن السكر قديمًا كان يستخدم كدواء وليس كطعام، وانتشر في جنوب أوروبا، وما زال يعامل ويسعر -كـنوع- من التوابل النادرة.
المشكلة أن السكر متواجد في عدد لا يحصى من الأطعمة، فالكربوهيدرات تتحول إلى سكر في أجسامنا، والكحول في الأساس عبارة عن عصير.. وبالتأكيد فإن الاعتدال في كل شيء ضروري، لكننا إلى الآن لا نعرف ما هو الكم المعتدل.. وهذا يترك مجالاً للشركات والأخصائيين بأن يزيدوا من تعقيد هذه المسألة.
لكن ما المشكلة في التقليل من السكر؟ إن هذا القليل حتمًا سيواصل الازدياد سنة بعد أخرى، ومرضًا بعد مرض.. فالمدمنون على الكحول يعرفون المشكلة، لكنهم لا يعترفون بمرضهم، ولا يعالجون أنفسهم بل لا يأبهون به. كذلك المدمنون على السكريات لا يدركون كمية الخطر الذي يعيشون فيه، ورفض بعض التحلية أو ما شابه، سيكون ضربًا من الجنون وشيئًا لا يصدق بالنسبة لهم. ربما لن نعرف أبدًا حجم الكمية المعتدلة التي يجب علينا تناولها، لكننا نعلم يقينًا أنه يجب علينا دومًا التقليل منه والثبات عليه.
علينا أن نتجاهل ما هو ناقص وبعيد عن الحقائق العلمية، وأن نوجه اهتمامنا إلى اتخاذ المبدأ الوقائي. بمعنى أن نعرف ما هو الشيء الذي يهددنا ويشكل خطرًا علينا ويعيش فينا ونعيش به، وما يمكن أن يؤثر في صحتنا وقد يوصلها حد الموت.
المراجع
(1) Anisimov VN، Sikora E، Pawelec G (August2021). “Relationships between cancer and aging: a multilevel approach”. Biogerontology.
(2) American Cancer Society. “Report sees 7.6 million global 2019 cancer deaths”. Reuters.
(3) The Disease of Addiction: Origins, Treatment, and Recovery (2019).