آداب السلوك والمعاشرة هي أن يتحلى الإنسان عند معاملته للآخرين، بالعفة والحياء والظَّرافة والاحترام، وأن يتجنب بقدر الإمكان السلوكيات الجارحة اللاذعة حتى إزاء المعاملات السيئة أو الحوادث المريرة، وأن يحرص على أن يكون كلامُه وتصرفاته قائمَين على الظُّرف والرقة والإخلاص.
لقد أقام العالم الإسلامي حضارة من الأدب ودماثة الخلق يغبطه عليها حتى الملائكة، ومع الأسف فقَدَ تلك الخاصيةَ بعد فترة معينة، وكأنه بدأ يعيش عهدًا جاهليًّا جديدًا كذلك العهد الذي عاشته الإنسانية قبل عصر السعادة، لأن كل القيم التي نتبنّاها في هذا العهد قد أصيبت -كما يقول الشاعر الإسلامي التركي نجيب فاضل- بضربات متلاحقة حتى تهاوت وانهارت.
أجل، إن القرن العشرين قد شهد على انهيار كلِّ قيمِنا الذاتية؛ بدايةً من المنظومة العقدية التي قامت على جذورنا الروحية والمعنوية حتى حياتنا التعبدية وصولاً إلى مفهومنا حول آداب السلوك والمعاشرة. فإننا لمّا قطعنا صلتَنا بديننا أضعنا قيمنا الخاصة بآداب السلوك والمعاشرة وفقدنا انضباطنا ومصطلحاتنا، فقدناها وصرنا غرباء على عالمنا الثقافي والفكري في تعاملاتنا مع الآخرين بدايةً من قيامنا وقعودنا حتى أسلوب حديثنا وخطابنا.
إذن، فما الذي لا بد من القيام به؟ أولاً علينا أن نبدي الاحترام اللائق بماهية الإنسان؛ لأن الإنسان مخلوق كريم لا بد من احترامه وتقديره، يقول تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4)، وهنا يبين ربنا عز وجل أن الإنسان مخلوق كريم محظي بقيمة فوق القيم، وهو في طبيعته يعبّر عن مثل هذه القيمة.. ولا يخفى عليكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مُرَّ عليه بجِنازة قام، فقيل له: إنه يهودي، فقال: “أليستْ نفْسًا؟” (متفق عليه)، ومن ثم فعليكم ألا تتخلوا عن احترامكم لهذا الإنسان الذي خلقه الله مكرَّمًا وإن أساء معاملته معكم، حتى وإن استخفّ البعضُ بقيمكم وأساء الأدب مع الله ورسوله، فعليكم أن تحافظوا على أسلوبكم معهم محافظتكم على شرفكم وعرضكم، ويجب ألا تنسوا أنكم مسلمون مزوَّدون بالأدب المحمدي والخلُق القرآني؛ بمعنى أن أخلاقكم هي أخلاق القرآن، فكيف لكم أن تتصرفوا مثل الآخرين؟! قد يُفلت لسان الآخرين، وبعضهم يدنّس المكان الذي يمرّ به، ولكنكم لستم مثلهم، إنكم مضطرون إلى أن تعبروا عما تتميزون به وتختلفون فيه عنهم حتى في أسوإ الظروف.
في الواقع إن المؤمن الحقيقي يكاد يتوقّف قلبه إذا تطاول أحدهم بالكلام على الذات الإلهية أو الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولكنه رغم كل شيء يتعامل بأدب ولطف، ويقول: “عليّ أن أتعامل هنا بمقتضى الأدب الذي علّمنيه ربي ورسولي، وأن أردّ دون خروج عن هذا الإطار”، ليس هذا فقط، بل يتحمّل كلَّ أنواع السلبيات ابتغاءَ مرضاة الله ورسوله، يتحمّل ولكن لا يتوانى في شرح حقيقة المسألة لمخاطبه بأسلوب ليّن رقيق مفعم بالحب والشفقة.
أجل، لا بد أن يجعل الإنسان من احترامه لغيره قاعدةً أساسية في حياته، ويحترم الجميع وفقًا لمستواهم وميزاتهم التي يتحلّون بها؛ فمثلاً عليه أن يتحرك في احترامه انطلاقًا من حقيقة أن هذا الإنسان هو “عبدٌ لله” وإن لم يكن مؤمنًا، أو أنه “عبد مؤمن بالله”، أو أنه “عبدٌ مؤمن بالله حقًّا”، أو أنه “عبدٌ مؤمن بالله حقًّا ويشاركه المصير نفسه، أو يهرول للهدف نفسه معكم.. وبذلك يتضاعف احترام الإنسان لغيره حسب درجته، ويصل إلى قيمة تفوق جميع القيم.
أجل، بداية يجب أن يتبدّى مثل هذا الشعور بالاحترام في داخلنا، فيصبح صوتُنا ونفَسُنا صوتَ هذا الشعور ونفَسَه.. إنني أعرف أُسَرًا يتخاطب فيها الإخوة مع بعضهم بـ”السيد فلان، والسيدة فلانة”، وهذا نابعٌ من التربية التي استقرت داخل هذه الأسر. وأيًّا كان ذلك الأخ كبيرًا كان أم صغيرًا فمن حقه ومن مقتضى احترام الإنسان للإنسان، أن يُخاطب بهذه النوعية من الألقاب.. وهكذا عليكم أن تؤمنوا بهذه الحقيقة أولاً ثم تتلفظوا بها.
فمثلاً إذا ما حرص المراسلون الذين يعملون في قناة تلفزيونية على مخاطبة بعضهم بـ”السيد فلان” (ليس اسمه فقط) مثلاً بشكل يختلف عن أسلوب الخطاب العادي، فسيستقر هذا الأسلوب من الاحترام بينهم بمرور الوقت، وبعد مدة يصير لا غرابة فيه، ربما يبدو هذا الخطابُ في البداية فيه شيءٌ من التصنع والتكلّف، ولكن مع الوقت تزول هذه الشبهة. ولذا فأيًّا كان نمطُ الأسلوب الذي نعبر به عن احترامنا الذاتي، فينبغي أن نحيي مثل هذه الأساليب ونفعّلها في حياتنا. فالأصل هو أن نشعر في أنفسنا بقيمنا الذاتية، ونعبّر عن أنفسنا في جوٍّ من الاحترام والتقدير؛ وعلى ذلك فلا يصحّ لأحد أن يتلفّظ بكلمات بذيئة قبيحة تؤذي الآخرين وتزعج أسماعَهم.