الخلافة العباسية كما لا يخفى أسهمت إسهامات كبيرة في إثراء الحضارة الإسلامية، وتألقت وتبلورت في رعاية العلوم والفنون، وكانت العصر الذهبي للحضارة الإسلامية لولا تلك الهجمات التترية التي دمرت الدنيا وخربتها، وطالت بقسوتها وجورها تجاه العواصم الإسلامية المعمورة، وأما بيت الحكمة واحد من أبرز إسهامات الخلافة العباسية، وهو المحرك المبكر للحضارة الإسلامية، أسسها الخليفة هارون رشيد وعمَّرها نجله المأمون ليكون عصره العصر الذهبي للمكتبة، وكانت المكتبة ملتقى العلماء ومركز البحث العلمي، وفدت إليها كبار العلماء من جهات نائية وذووا وجهات نظر مختلفة، ضمتهم المكتبة لتلقيح الأفكار المتنوعة، وكانت أكثر من مكتبة، بل هي مؤسسة علم وفكر، فيها تراجمة يترجمون الكتب العجمية إلى العربية، ومراكز مخصصة للتأليف والنسخ والتجليد كما فيها مراصد النجوم، وكان أبو جعفر المنصور الطاقة المولدة لهذا المشروع العلمي الكبير، اشتهر برعايته العلماء من المسلمين وغيرهم، وكان يقتني الكتب والمخطوطات النادرة في المكتبة البسيطة في بلاطه، وكان يستدعي علماء الهند وفارس ليشاركوا خبراتهم العلمية في الهيئة والفلك، فلا شك إذن أن بيت الحكمة بألقها وبريقها كان امتدادًا لخزانة الكتب التي اهتم بها الخليفة أبو جعفر المنصور، ليكون هارون ونجله المأمون موسعي فكرة جدهم.
فمن علماء بيت الحكمة عالم الترجمة حنين بن إسحاق والذي كان يعرف حوالي أربع لغات وترجم أكثر من مائتي كتاب، وعالم الفلك جالينوس وعالم الرياضة موسى الخوارزمي وغيرهم الكثير، من اللافت للنظر أن فيهم كثير من العلماء المسيحيين الذين عملوا في ترجمة المخطوطات التي جلبت من كنائس الشام وأديرتها، لتكون الحضارة الإسلامية أم الحضارات العالمية وربة علومها وملتقى الإخاء والتسامح.
لكن لكل بداية مشرقة نهاية محرقة، إذ تدهورت الأوضاع في نهاية الدولة العباسية بسبب ضعف خلفاءها، وبالتحديد في عام 656ه سقطت بغداد إثر هجمات المغول التي جاءت كالجراد المنتشر، وكانت المغول تمسح عن بغداد كل شيئ سوى الموت، خربت ودمرت لتكون ماء دجلة أشكل من الدماء ومن ألوان الحبر، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي العصر الحديث وأثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م تعرض بيت الحكمة والمكتبات الملحقة به وسائر المؤسسات العلمية لعملية تدمير وحرق ونهب ممنهج.