جاءتني كراسة إجاباته مخططة بخطوط طولية، لا أعرف منذ متى وتحوّل امتحان اللغة العربية لرسم تخطيطي! قام زميل متفضلاً بعمل محضر إثبات حالة كما هو معتاد. سألت عن صاحب الورقة فعرفتُ أنه غير مؤهل للاقتران بزملائه في هذا الصف، إذ يجب تحويله إلى أصحاب الاحتياجات الخاصة. لم أهتم إلى أن دخلت لجنته الامتحانية، أخرج سندوتشاته من كيس بلاستيكي، أكلها. في يده قلمٌ، وأمامه ورقة أعطيتُها له منذ دخولي. ساكنة الأوراق، وهو صامت، جلست بجواره لأكتب اسمه، فرح بجلوسي “هنا واحدة تحدثني كأنني مثلهم” ضحكت معه ثم تابعت عملي. كلما اقتربت ضحك، لا يعرف سوى الخطوط التي يرسمها بأنامله الصغيرة المرتعشة من برد الشتاء. جسد ضعيف وسط ملابس شتوية ثقيلة تخفي ملامحه الصغيرة الجميلة، لم أحدثه مرة أخرى، لكن ظلت عيناي معلقة عليه.
في اليوم التالي ذهبنا لزيارة أقاربنا في بلدة مجاورة لبلدته، رأيته، نعم، وكأنني رأيت شيئًا ثمينًا، اعتذرت من صُحبتي ولحقت به، فتحتُ حوارًا حاول إنهاءه بكلماته القصيرة. عيناه وحدهما تبلغاني بأنه ممتن لهذا الاهتمام، عرفت أنه ينماز بالطيبة فقط وليس من ذوي الاحتياجات.
كان يرعى الغنم في الخلاء، وحين قررت الذهاب وخطوت خطواتي إلى طريق العودة، سمعت دندنته، صوته أعادني، جلسنا، سألت: من يرعى معك الغنم؟ فأشار إلى والده الذي يجلس بعيدًا حول نار يأنس بها. أشار إلى الحقول، وركز بصره على أقربهم إلينا، أكملت: أرضكم؟ أشار أنها ملك لجميعهم. لا أعرف لماذا يحجز صوته في قربي. السنابل الذهبية تلمع في ضوء الشمس الواهن، سألته: من يسقي معك الأرض؟ نظر إلى السماء وأشار إلى غيماتها حين تختفي الشمس. هرول إلى أبيه ليحضر كوب شاي، أمسكت به لأرتشفه وأنا أتابع حركاته مع الأغنام، كلاهما يفهم إشارات الآخر. ماذا لو أصبحنا نحن البشر مثلهما؟!
سلام نفسي يتسلل إلى روحي فتنتفض له، أغبطه لعالمه، أنظر إلى الجانب الآخر حيث الطرق تملؤها عجلات مسرعة، كل إلى طريقه وحلمه غير آبه بمن حوله. ضدان تلاحقهما عيناي، روحي مشتتة، وقلبي يحدثني كثيرًا. أنظر إليه مرة أخرى وأقول: ستنتقل للصف الثاني الإعدادي. لا يكترث، ثم يشير إلى قلبه بعدما رأى عبرات تنحدر من عيني، أشار ثانية إلى قلبه وخطى خطوتين ووضع يده عليه، ثم خطوتين وأكد موضع يده عليه. ابتسمتُ وقررت أن أسمع دقات قلبي لأعرف طريقي.