هذه الظاهرة هي ظاهرة الخداع البصري التي تجعلك ترى الكثير من الأشياء بطريقة تختلف عن حقيقتها، والتي أصبحت علمًا يدرسه العلماء في عدة مجالات منذ مئات السنين، ووسيلة تعتمد عليها الكثير من أشكال الفن والتكنولوجيا.. فما الخداع البصري، وكيف يمكن أن تتحول حقيقة الأشياء أمام أعيننا دون أن نلاحظ؟ وهل يمكن أن يعتمد العلم على الوهم والخيال؟
خداع البصر
خداع البصر اسم نطلقه على رؤيتنا لشيء ما بأعيننا، فيبدو لنا بصورة نحن نعلم أنها ليـست هي الحقيقة. وهو خاصية ديناميكية تعطي إحساسًا بالحركة لدى المتلقي، كما أنه ظاهرة ضـوئية ينتج عنها ألا تظهر الأجسام على حقيقتها أمام العين نتيجة لوجود مؤثرات حسية أو ضوئية تـسبق أو تحيط بالرؤية.
وهو انطباع خاطئ يحدث عند المشاهد يخالف الحقيقة. ولا يقتصر الخداع على حاسة البصر فقط، بل يمتد ليشمل الحواس الأخرى، كاللمس والسمع والشم والذوق.. لكننا سنقتصر في هذا المقال على الخداع البصري الذي يشار إليه بـ“Visual illusion” وهو أن يرى الناظر الصورة التي أمامه على غير حقيقتها، وذلك بسبب خداع أو تضليل الرؤية، حيث يحدث الخداع البصري نتيجة أن المعلومات التي تجمعها العين تجري معالجتها في الدماغ بطريقة خاطئة تعطي نتائج غير مطابقة للواقع والحقيقة. والخداع البصري عمليًّا هو الاحتيال على العين، ويمكن تعريفه باعتباره “الغش البصري” عنـدما تنخدع العين بحيث تتخطى المعرفة المنطقية للعقل.
وقد أخبر القرآن منذ مئات السنين عن ظاهرة الخدع البصرية والوهم التخيلي، التي استعملها سحرة فرعون من قبل ليكتشف العالم حقيقة هذه الظاهرة. فالعلم الحديث لم يدرك حقيقة الخداع البصري إلا بعدما أدرك التكوين العضوي للعين، وطريقة عمل النظام البصري وعلاقته بالدماغ، بينما أشار الله تعالى إلى ذلك في كتابه منذ مئات السنين وبمصطلحات دقيقة “سحر الأعين”، “خُيِّل”.. قال تعالى: (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(الأعراف:١١٦).
ظاهرة السراب
نرى في الطبيعة أشكالاً متنوعة من الخداع البصري المتمثل في العديد من الظواهر الطبيعية كظاهرة السراب، وهي خدعة بصرية (ضوئية) تحدث بسبب الاختلاف في كثافة طبقات الهواء القريبة من سطح الأرض، مما يجعلها في حالة توهج شديد، حيث تبدو كالماء الذي يلتصق بالأرض ليعكس صورًا وهمية للأجسام، وكأنها منعكسة عن سطح مرآة كبير.
وتتمثل ظاهرة السراب، فيما يشاهده المسافر في الصحراء، وفي المناطق القطبية أثناء النهار من وجود بقع مائية على الطريق، أو رؤية صور مقلوبة للأشياء كالأشجار. قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)(النور:٣٩).
أنواع الخداع البصري
للخداع البصري عدة أنواع ترتبط بحواس الإنسان المختلفة، وكيفية عمل عقله، وكذلك ما حوله من أشياء. قام العلماء بتصنيف أشكال الخداع البصري إلى ثلاثة أنواع أساسية هي:
١– الخداع البصري الواقعي: يعتمد هذا النوع على أشياء واقعية لخلق صورة خيالية أو وهم، ومن أمثلة ذلك استخدام الفاكهة والخضروات لتكوين وجه إنسان، أو تلوين كف اليد ليأخذ شكل حيوان أو طائر.
٢– الخداع البصري الفسيولوجي: يعتمد على التأثير على وظائف المخ والعين باستخدام بعض العناصر البصرية، مثل البريق والحجم واللون والزاوية والحركة.. كذلك التعرض لهذه العناصر لفترة زمنية معينة وذلك لجعلك ترى الأشياء بصورة مختلفة عن واقعها. ومن أمثلة ذلك بقع الإضاءة التي تراها بعد التعرض لضوء قوي.
٣– الخداع البصري الإدراكي: يعتمد هذا النوع على طريقة تفكيرنا وإدراكنا للأشياء، أي أن الإنسان يبني نظرته للأشياء على أفكار ثابتة في عقله منذ الصغر وعلى ما تعود على رؤيته طوال عمره، وليس على ما يوجد أمامه بالفعل، مما يؤدي به إلى تخيل أشياء غير موجودة، ورؤية الأشياء بطريقة مختلفة عن حقيقتها. وهو يعتمد على عدة مبادئ، كالغموض والتشويش والتناقض والتخيل.
فن الخداع البصري
هو فن ازدهر في منتصف القرن العشرين على يد الفنان المجَري “فيكتور دي فازاريللي”، ويقوم هذا الفن على نظرية عملية تتصل بالإدراك البصري للأشكال والأرضيات المتشابهة في خصائصها الشكلية، كما أنها تعتمد على خطوط وأشكال تجريدية، بحيث تحدث الحركة في عين المشاهد. فالعقل البشري كثيرًا ما يقع في أخطاء بصرية في معالجته وتفهمه وتحديده، للأشكال المحيطة نتيجة الخدع البصرية، وهو موضوع تعرض له القدماء وعالجوا أثره في كثير من جوانب حياتهم.
وهناك عدة أنواع للخدع البصرية: خدع بصرية تعتمد على الأشكال الهندسية، وخدع متعلقة بالألوان، وخدع متعلقة بالأحجام والقياسات، وخدع متعلقة بتحريك الصورة، وخدع متعلقة بالهندسة، وخدع بصرية تعتمد على الظل.
والخدع البصرية هي تشويش وتشويه للحواس الموجودة عند الإنسان مثل السمع والشم والذوق واللمس والبصر، فحواس الإنسان عبارة عن دائرة منظمة ومتكاملة تساعد العقل وتحفزه على العمل، ومن غيرها لا يقدر أن يجمع المعلومات أو البيانات أو حتى القدرة على التعايش. فالحواس مهمة جدًّا لاتخاذ القرارات ومعرفة الحقيقة من الخيال والأوهام. والخدع البصرية يمكن أن تثبط عمل العقل من خلال تأثيرها على الحواس.
وتنتج هذه الخدع البصرية في أغلب الأحوال، من محاولة العقل البصري -الجزء الخاص بالإبصار من المخ- تحديد وضع الأشكال المسطحة في الفراغ والأحجام، وينتج الخطأ من محاولة فرض وتحديد البعد الثالث. ويرى علماء النفس أن الحواف والخطوط الخارجية هي أول ما يلفت النظر، وبعد ذلك تقوم العين بتفسير ما بداخل تلك الخطوط من خلال شبكية العين التي يتم استثارتها.
الجشتالت ودورها في تطوير الفنون البصرية
الجشتالت (Gestalt) هي مدرسة ألمانية فكرية تتبع نهجًا مستحدثًا في دراسة الإدراك البصري، نشأت في أوائل القرن العشرين، وتعني كلمة “جشتالت” “الشكل” باللغة العربية، أو بمعنى آخر، دراسة سيكولوجية الشكل. وقد قامت هذه المدرسة بوضع نظريات علمية وسيكولوجية وفسيولوجية وغيرها، ثبتت صحتها وطبقت في مجالات مختلفة منها الإدراك البصري. وبناء على ما قدمته مدرسة الجشتالت من نظريات ثبت أن هناك عمليات عديدة ومركبة يجريها المخ البشري بعد أن تسجل صور المرئيات على شبكة العين، وهي عمليات تطور المعلومات التي تستقبلها العين وفقًا لهوى المخ البشري. وقد استفاد العديد من الفنانين التشكيليين، من أتباع هذه النظريات في تطبيقها على رسومات هندسية ولوحات فنية في غاية الدقة والروعة، تعرف باللغة الفنية باسم فن الخداع البصري (The art of optical illusion).
ففي عام ١٩٩١، استطاع عالم النفس الياباني “اكيوشي كيتاوكا” أن يحصل على دكتوراه في فن الوهم أو الخداع البصري. فأثبت بالعديد من الرسومات التي تراها العين ويستقبلها العقل -مثل لوحة الطاحونة الدوارة، والأفاعي المتحركة- باستخدامه للشكل الهندسي، والسطوع واللون في تصاميمه الفنية للإيهام بالحركة. فهي في حقيقة الأمر صور ساكنة، فنحن نرى في حالة “الطاحونة الدوارة” مجموعة من الدوائر، ولم يحدث أن نظر إليها فرد، إلا ووصفها بأنها أشكال حلزونية. ويرجع هذا إلى عنصر قوي للغاية في الخداع البصري، وهو الخلفية التي يستخدمها الفنان، بحيث تفقد الدوائر خاصيتها الأزلية، فتراها العين ويترجمها العقل بأنها تستدير بلا بداية أو نهاية.
وكذا في عمل آخر للفنان “مايكل باتش” نجد رسمًا لعدة خطوط رأسية متساوية في الحجم والمساحة بينهم رسمت باللونين الأبيض والأسود، وقضيبين بلونين مختلفين رسموا أفقيًّا فوق الخطوط. ومن المذهل أنه عندما تشاهد العين القضيبين تشاهدهما يتحركان الواحد تلو الآخر، ولكن إذا حركنا الخلفية بعيدًا نجد القضيبين ساكنين بدون حركة.
كما أن الخداع البصري يعتمد على الأشكال المضافة إلى العنصر الأساسي، فعلى سبيل المثال؛ لو أخذنا دائرتين متساويتين تمامًا في الحجم، وأحطنا دائرة منهم بعدة دوائر أصغر حجمًا، والدائرة الأخرى أحطناها بعدة دوائر أكبر حجمًا، ستبدو الأولى للعين وكأنها أكبر حجمًا من الأخيرة، كما نراها في أعمال الفنان المعروف أول من ابتدع فن الخداع البصري الفرنسي والهنغاري الأصل “فيكتور فازاريلي” (١٩٠٨-١٩٩٧)، وتبعه في مدرسته فنانون آخرون أهمهم البريطانية “بريجيت رايلي”، ونجد العديد من أعماله الفنية في مختلف المتاحف العالمية.
ومن هنا نجد دور العلم في تطوير الفنون البصرية، فقد خدمت مدرسة الجشتالت بمختلف بحوثها العلمية التي اهتمت بدراسة “الكل” قبيل دراسة “الجزء”، جميع أفرع الفنون البصرية، ومنها ما يخص فنون الكرتون المتحرك، وما يخص كل ما نشاهده من أفلام الخيال العلمي، ومجسمات أو تصاميم الديكور وغيرها.
لاعب الخفة والخدع البصرية
يعمل لاعب الخدع البصرية على العديد من الحركات والصور التي تعمل على تسلية الجماهير، وجذب انتباههم وانبهارهم، وكذلك على الأسرار الموجودة في عقول المتجمهرين والدخول في أعماقهم لمعرفة تفكيرهم لشد اهتمامهم إليه وجذبهم له. وما نراه على المسارح أو التلفاز من الحركات وألعاب الخفة، هو وهم وخيال بعيد كل البعد عن الحقيقة يبتكرها اللاعبون المحترفون لإدهاش الجمهور فقط، والترفيه عنهم وتسليتهم، ومن ثم كسب الأموال منهم لمشاهدتهم أشياء وهمية خيالية.
وقد أثبت العلماء أن ما تدركه بصريًّا، هو فقط ما يستسيغه المخ البشري، وإذا لم يكن الشكل قابلاً لأن يستسيغه المخ ويفهمه أو يدركه، فلن تتقبله مشاعرنا، ولن يترك في النفس أثرًا. وهكذا نرى أن الشكل الأبسط، يكون أكثر تجاوبًا مع العقل، فهو على الأقل لا يكلفه جهدًا للتعرف عليه.
إذن، هناك اختلافات ظاهرة جدًّا -في بعض الأحیان- بین ما تراه العینان وما یراه الدماغ، فحاسة النظر لا تخبرنا دائمًا بالحقیقة؛ ففي بعض الأحیان تكون العینان والدماغ ضحیة لخدع بصریة، وبشكل خاص عندما نواجه صورًا مبهمة أو غامضة المعالم بطبیعة الحال، فالعینان هما مجرد وسیلة لنقل المعلومات التصویریة كما هي. المشكلة تكمن إذن في الدماغ؛ فهو الذي یقوم بمعالجة الصور وتحلیلها ومحاولة فهم معانیها. فنحن جمیعًا نعتقد أن عملیة الإبصار هي مسألة سهلة للغایة، في حین أن عملیة إدراك الصور والأجسام والألوان والحركات، هي عملیة معقدة جدًّا. فعندما نفیق من النوم كل یوم صباحًا، ننظر في المرآة معتقدین أن ما نراه هو الصورة الواقعیة لوجهنا. والحقیقة هي أن ما نراه هو صورة مقلوبة لوجهنا؛ وما نراه على الجانب الأیسر من الوجه هو في واقع الأمر على الجانب الأیمن، وهذا أمر بسیط یمكننا ربطه بالخداع البصري.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.