لكن على صعيد الراحة النفسية؛ يلاحظ أن هذا الإنسان يعيش حالة من القلق والاكتئاب وفقدان المعنى، فرغم الإشباع الذي حققه في جميع المجالات؛ إلا أنه يعاني أزمة نفسية حادة. ويظهر ذلك في كثرة الأمراض النفسية المتفشية، وارتفاع نسبة الانتحار في العالم، وانتشار الإجرام والعدوانية بمختلف أشكاله، إذ تشير دراسة لمنظمة الصحة العالمية إلى أن “ربع سكان العالم سيصابون بمرض نفسي في مرحلة ما من حياتهم”. وتؤكد نفس المنظمة في تقرير لها، أنه “في كل عام يضع ما يقارب ٨٠٠ ألف شخص نهاية لحياته، هذا فضلاً عن الكثيرين ممن يحاولون الانتحار. وتمثل كل حالة انتحار مأساة تؤثر على الأسر والمجتمعات والبلدان بأكملها، بما تحدثه من آثار طويلة الأمد على من تركوهم وراءهم”، ويضيف التقرير أن “الانتحار لا يحدث في البلدان مرتفعة الدخل فحسب، بل هو ظاهرة عالمية في جميع أقاليم العالم”.
ومهما يكن الأمر، فإن ما هو ثابت لدينا أن الصحة النفسية للإنسان المعاصر لا تعكس مستواه المعيشي؛ فالرخاء في العيش لم يؤد إلى السعادة النفسية، علمًا أن الناس كلهم لا يريدون من هذه الدنيا إلا أن يكونوا سعداء، وما حبهم المفْرِط للمال إلا لاعتقادهم أنه وسيلة لتحقيق ذلك، لكن -للأسف- هو اعتقاد خاطئ لا يصدقه الواقع. إذن، الرخاء على المستوى المادي، والشقاء على المستوى النفسي، من مميزات الإنسان المعاصر، فما السبب؟
محاولة في تفسير الظاهرة
من المعلوم عند الناس كافة، أن الإنسان يتكون من مادة وروح، أو من جسم ونفس. فالمادة هي الجانب الظاهري، والروح هي الجانب الخفي في الإنسان، وهذان المكونان يحتاجان معًا إلى التغذية؛ فالجسم يحتاج إلى أكل وشرب وراحة، والروح أيضًا تحتاج إلى تغدية تناسبها، وعندما يحصل خلل في التوازن بينهما، تبدأ أعراض الشقاء في الظهور. إذن، السبب الأساس في الشقاء النفسي، هو عدم التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح (النفس)، وبيان ذلك على الشكل التالي:
نشير بداية إلى أن كل شيء يسير وفق نظام خاص به، سواء فيما خلقه الله تعالى من قوانين ثابتة في كونه، أو فيما يصنعه الإنسان من آلات متطورة عن طريق العلم، وجميع المخلوقات والمصنوعات تتعطل إذا اختل النظام الذي صُنعت عليه. فالله تعالى خلق الإنسان وفق نظام خاص وهو ثنائية الجسد والروح، ولا تتحقق إنسانيته إلا بهذين الجناحين اللذين يستحيل الطيران بأحدهما فقط، وتلك هي الفطرة (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)(الروم:٣٠). وهذه سنّة كونية في الإنسان يجب أن لا تغيب عن أي شخص يحاول فهم الحالة النفسية للإنسان، لكن كيف يحصل الخلل في التوازن؟
يحصل عدم التوازن عندما يبالغ الإنسان في تلبية مطالب جسده ويفَرِّط في مطالب روحه، فتراه -مثلاً- لا يهتم إلا بشهواته وغرائزه الحيوانية، مثل الملبس والمسكن والأكل والشرب وغيرها، ولا يعير أي اهتمام وهو يسرف في كل شيء اسمه الأخلاق، وهو مفرِّط في تلبية مطالب روحه التي هي الأخلاق بصفة عامة. وإذا اختل التوازن بين الثنائي الفطري، حل الشقاء النفسي محل السعادة، وكلما زاد الفارق بينهما زاد الشقاء إلى أن يصل إلى نهايته وهو الانتحار، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)(طه:١٢٤)؛ والضنك هو إحساس الإنسان بالضيق والعسر والاختناق رغم انتفاء أسبابه الظاهرة، مثل الفقر وقلة الحاجة. وفي آية أخرى، يصور القرآن الكريم الحالة النفسية للمُعرِض عن الله، أو بتعبير أدق المخالف لفطرته التي فُطر عليها، يقول تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(الحج:٣١)؛ وسقوط الإنسان من السماء والطير تخطفه، تشبيه بليغ لحالة القلق النفسي الذي يعيشه الإنسان الذي لم يوازن بين شهوات الجسد وغذاء الروح.
ويحصل عدم التوازن أيضًا، عندما يقلب الإنسان الميزان، فيبالغ في الاستجابة لمطالب الروح ويفرِّط في مطالب الجسد، ويقع ذلك عندما يدير ظهره للحياة ويزهد في متاعها وزينتها، معتقدًا أن ذلك هو المطلوب والطريق الصحيح للنجاة. في هذه الحالة أيضًا، يختل الميزان وتحصل نفس النتيجة، وهي الغلو والتطرف على مستوى الاعتقاد، والانعزال والعدوانية تجاه الآخرين على مستوى السلوك، وما هذه إلا مؤشرات قاطعة على الشقاء النفسي الذي يعيشه المتطرف. فإذا كان أغلب المتطرفين ماديًّا ينتهون إلى الانتحار، فإن المتطرفين روحيًّا ينتهون إلى نفس المصير. وإذا تأملنا سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ندرك أنها مبنية على احترام فطرة الإنسان، أي التوازن بين الجسد والروح؛ فالصيام والصلاة والابتعاد عن الفواحش استجابة لمطالب للروح، والأكل والنوم والزواج تلبية لمطالب الجسد، لا تفريط ولا إفراط، وبذلك يعتدل الميزان ويحصل الاطمئنان.
السبب إذن في وقوع الإنسان بشكل عام، والإنسان المعاصر بشكل خاص في الشقاء النفسي، هو حصول خلل في نظامه الفطري وهو عدم التوازن بين ثنائيته التي تشكل ماهيته، إذ يفْرِط في شهوات الجسد ويفرِّط في روحانيات النفس. غير أنه يجب التنبيه إلى أن هذا التفسير لا ينطبق على جميع الأمراض النفسية والعقلية، فهناك أسباب أخرى ذكرها المختصون تعود إلى الوراثة والبيئة والتربية أو أمراض عضوية.. فهذه حقائق لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها، لكن أن تكون هي وحدها السبب في الشقاء النفسي خصوصًا عند ميسوري الحال، فذاك نوع من التعميم الذي هو أقرب إلى الشعوذة منه إلى البحث العلمي.
الوقاية خير من العلاج
“الوقاية خير من العلاج” قاعدة مجمع على صحتها، وقد تم استحضارها هنا وجعلها عنوانًا، لأن الدواء الذي سيقدَّم يدخل ضمن المجال الوقائي بالدرجة الأولى، أما الأمراض التي سيحاوَل تقديم دواء لها هنا، فهي ما نتج عن خلل في التوازن بين مطالب الجسد ومطالب الروح، والتي سميناها بـ”الشقاء النفسي”. إذن، كيف يمكن للإنسان أن يوازن بين الجسد والروح، أو يعيد توازنهما، ويتجنب ذلك الألم الذي ينغص عليه حياته؟ يلخَّص الجواب في العناية بالشق المادي والروحي معًا، وذلك على الشكل التالي:
١– على مستوى الروح: ننطلق من الآية الكريمة التي تقول: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(النحل:٩٧)؛ فالحياة الطيبة، أي الإحساس بالسعادة والبعد عن الضنك والشقاء، مشروطة بشرطين هما الإيمان والعمل الصالح.
أ- الإيمان: الإيمان الذي يحقق لصاحبه الحياة الطيبة، ليس مجرد النطق بالشهادتين، بل هو اقتناع عقلي وإحساس وجداني. فكثير من الأمراض النفسية تأتي عن طريق فقدان المعنى، إما بسبب الغفلة عن معاني الإيمان بالنسبة للمؤمن، أو الجهل بالنسبة للكافر؛ لأنه لا يدرك سر وجوده في الحياة، ولا الغاية التي خُلق من أجلها، ولا المصير الذي سيؤول إليه.. فهذه الأمور الوجودية التي لا يجد لها جوابًا، تقلق ضميره وتجعله يحس -خاصة عندما يحقق جميع رغباته المادية- بأن هذه الحياة لا معنى لها وهي بداية الشقاء. ولا دواء لهذا المرض إلا بالإيمان الذي يجيب عن تلك الأمور المقلقة، حيث يشعر الإنسان بالأمان بعد معرفة أصله وغاية وجوده ومصيره.
بـ- العمل الصالح: الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فقط، بل هو إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، إذ لا يكتمل الإيمان إلا بالعمل. ولهذا نجد الإيمان في القرآن الكريم غالبًا ما يثنى بالعمل الصالح، (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(العصر:١-٣)؛ والعمل الصالح هو كل عمل فيه خير يحقق المصلحة للإنسانية ويدرأ عنها المفسدة بميزان الشريعة، فما أمرت به فهو خير ومصلحة، وما نهت عنه فهو شر ومفسدة، سواء في الدنيا أو الآخرة، أدرك الإنسان ذلك أم لم يدركه.
ورأس العمل الصالح هو أداء العبادات المفروضة، وأولها الصلاة، ثم الزكاة والصيام، والحج لمن توفرت فيه الشروط، فأداء هذه العبادات يجعل صاحبها يحس بطمأنينة قلبية. ويلي هذه الفرائض الواجبات الأخرى، مثل البرّ بالوالدين، وصلة الأرحام، والإخلاص في العمل، والتعاون على الخير والفلاح بصفة عامة.. ثم النوافل، مثل صيام يوم الاثنين والخميس، والصدقة في سبيل الله، والدعاء، والاستغفار، والذكر، وقراءة القرآن الكريم.. قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(الرعد:٢٩).
٢– على المستوى المادي: فمنطلقنا أيضًا هو الآية الكريمة من قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)(الأعراف:٣١-٣٣)؛ تشير هذه الآية إلى قاعدتين أساسيتين على صعيد التعامل مع مطالب الجسد وهما:
• التوسط والاعتدال في التمتع بنعم الله: الله تعالى لم يحرم على عباده ما سخر لهم من الطيبات، والتمتع بزينة الدنيا والتقلب في طيباتها، من الفطرة التي فطر عليها الإنسان، فالنفوس تميل إلى ذلك غريزيًّا، ولذلك قال المتخصصون في تأويل الخطاب الإلهي: إن الأمر في قوله تعالى “وكلوا واشربوا” ليس للإيجاب لأن ذلك واجب بالفطرة، لكن المنهي عنه الذي لا يجوز فعله هو الإسراف والتبذير، وهو تجاوز الحد الذي يحقق الكفاية إلى البذخ والترف في غفلة عن المستضعفين والمحتاجين. إن الإسراف والبذخ مرفوضان فطرة قبل أي قانون أو شرع آخر، وبالتالي فإن الفطرة تنتقم لنفسها ممن يعتدي عليها، ولهذا وجدنا أن مبدأ التوسط والاعتدال مأمور به في الإسلام في جميع الأمور حتى في العبادات. ومن هنا نستطيع القول: إن الوسطية سنة إلهية في الكون، ويجب عدم الخروج عنها.
• الابتعاد عن الفواحش: والفواحش هي السقوط في الرذائل والارتماء في أحضانها، وهي قسمان كما تشير إلى ذلك الآية الكريمة؛ ظاهرة، مثل قتل النفس بغير حق، وشرب الخمر، وتناول المخدرات، وأكل أموال الناس بالباطل.. وباطنة، مثل الحقد، والحسد، والنميمة، والتجسس، والكبر، والكذب، والنفاق، والخيانة.. فتجنب هذه الفواحش والتحلي بأضدادها، يجعل الإنسان يحس بشعور باطني جميل يحدثه عن اكتمال إنسانيته. أما التطبيع مع الفواحش، فيؤدي إلى الشقاء النفسي وإن كان الظاهر قد يبدو غير ذلك، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)(النور:١٩)، والشقاء النفسي -لا ريب- عذاب شديد الألم.
إذن، يمكن للإنسان أن يحقق التوازن بين ثنائية الجسد والروح، وبالتالي الاستمتاع بالحياة الدنيا والتخلص من الشقاء النفسي الناتج عن الخلل في نظام خَلق الإنسانية، خصوصًا في زمن يحذر فيه المختصون بأن “الاكتئاب” هو المرض الحقيقي الذي يهدد الإنسان المعاصر.
(*) كاتب وباحث / المغرب