هناك دراسات عنيت بالمحتوى الإعلامـي وتصنيفاته، والعوامل الفنية وغير الفنية المؤثرة فيه، ودراسات ثانية عنيت بالوسيلة الإعلامية وعواملها ودراسات ثالثة اهتمت بالجمهور وعلاقته بوسائل الإعلام، والعوامل المؤثـرة في تلك العلاقة، وهناك دراسات أخرى اهتمت بالقائم بالاتصال وأفكاره وآرائه وقيمه وتأثيرها على العملية الاتصالية لكن دراسات قليلة عنيت بالقائم بالاتصال وظروفه وتأثيره علـى العملية الإعلامية تلك التي صارت تتحكم في عقل المتلقي وتصيبه بالقلق و التوتر الدائمين، بما ينعكس على خراب العقل من هولهما الدائـم والجاسم بشراسة فوقه، بل وصل الأمر إلى تفاقم الإصابة بالأمراض المستعصية أحيانًا، كأمراض القلب وانفجار شرايين المخ؟
تعود خطورة الأمر إلى أنه أصبح من غير الممكن تقريبًا إعادة السيطرة على ضغط الدم العربي، والعودة به إلى حالته الطبيعية إلا في حالات نادرة، وعلى مستوى أفراد معينين إذا ما سمحت ظروفهم الصحية، وكل ما يمكن عمله تجاه هذه الظاهرة هو العمل على تخفيض الضغط بالأدوية دون القضاء عليه جذريًّا، لأنه لا يوجد حتى الآن أية وسيلة للتخلص منه، وفي هذا الإطار تتحول المشكلة إلى معضلة “صحية واقتصادية” معًا.
ونظرًا للمضاعفات الصحية التي تحدث كتوابع متتالية للمرض، تؤثر بدرجة أو بأخرى على المريض، وللتكلفة العالية التي تتطلبها السيطرة على المرض، ومواجهة آثاره المتتالية، وهنا يكفي فقط أن نعلم أن تكاليف العلاج لمريض واحد لتخفيف الضغط، دون مواجهة آثاره الأخرى، تصل إلى ما لا يقل عن ربع مليون دولار أمريكي .
يقول ” هايتمان ” أن المسلسلات أو الأفلام الأكثر تشويقا هي التي تضرب على الأعصاب بمطرقة، فثمة استنزاف منهجي للسكينة الداخلية (الذاتية) التي ظهرت مع خلق الإنسان، ومع اعتبار أن معدي نشرات الأخبار، سواء التلفازية أو الإذاعية المسموعة، وحتى الصحفية المقروءة، يلجؤون إلى الأسلوب الأكثر رداءة، بل الأكثر همجية – حسب تعبيره – فقد أصبحت النشرة الناجحة هي التي يتكدس فيها عدد القتلى، سواء سقط هؤلاء بفعل الحروب أو الزلازل أو الأعاصير أو بفعل عمليات إرهابية، ناهيك عن حوادث القطارات والحافلات والمناجم. وكلما كان عدد القتلى أكبر في النشرة، كلما انبسطت أسارير المذيع الذي أكثر ما يخشاه هو أن يصاب المشاهد أو المستمع أو القارئ بالملل.
ونادراً ما تعطى الأخبار الجميلة الحيز المناسب، بل أنها غالبا ما تقدم بصورة دراماتيكية، حتى تكون مصدرًا آخر للقلق، وهايتمان يستعيد نصًا قدمه مذيع لهطول المطر في إحدى المدن الأوربية، فيقول إن المذيع استخدم مفردات تجعل المشاهد يظن أن ما يسقط هو إشعاع نووي، وليس مطرًا، لكونه تحدث عن احتمال حدوث سيول قد تغرق السيارات، والأرصفة، وحتى المنازل، فيما لم تكن غزارة المطر بالمستوى الذي يمكن أن يُحدث كل هذا، لكن الإثارة الفارغة أضحت جزءا من العملية الإعلامية وأصبحت تساهم بشكل كبير في تأصيل وتركيز القلق ومن ثم الإصابة بارتفاع ضغط الدم وربما الانهيارات العصبية المميتة.
تغريب الإعلام العربي
ليست العملية الإعلامية وحدها المنوطة اليوم بترسيخ القلق بما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم العربي، فهناك أسباب أخرى كثيرة تشترك معها رغم اختلافها عنها، لكن ارتفاع ضغط الدم هو أخطر الأمراض التي يحدثها القلق، لأنه يتسلل إلى جسد الإنسان في صمت، دون أن يشعر به، فهو مرض بلا أعراض، إلا أن مضاعفاته لها بعض الأعراض ولكن المريض قد يعزوها إلى أشياء أخرى بعيدة عن ارتفاع ضغط الدم المشهور بأنه “قاتل صامت”.
إذ ربما يعزوها إلى قلة الأكل، أو الإجهاد، أو الإرهاق، أو.. أو.. إلى آخر قائمة التخمين المخادعة، دون أن يدرك حقيقة الموقف، خاصة أن المرض يمكن أن يخدعه إذا عالج أحد أعراضه، كالصداع مثلاً، بقرص من الأسبرين، لذا فإنه يجب على الفرد أن لا يجعل تكرار عَرَضٍ ما شعر به، يمر مرور الكرام، من دون أن يتأكد من سببه الأصلي، وذلك عن طريق توقيع الفحص الطبي السريع لتحديد أبعاد الموقف، واتخاذ ما يلزم من إجراءات وقائية أو علاجية، خصوصًا في حالة وجود ضغط دم مرتفع. ولأن الإحصاءات الطبية أثبتت أن ارتفاع ضغط الدم إن لم تتم السيطرة الكاملة عليه يصبح المتهم الأول في وفاة الكثيرين من البشر، حيث يتسبب في إصابتهم بأمراض قاتلة للقلب والمخ.
واقع إعلامنا الحالي يكشف أننا مازلنا أسرى لتقنيات الاتصال الغربية، وأن حالة الانبهار شلت قدرتنا على الفعل والإبداع، فليس غريبا بعد ذلك أن ننقل المدارس الإعلامية الغربية بجميع مجالاتها من تحرير وإخراج وتصميم إعلاني كما هي إلى كل وسائلنا، وحتى على المستوى الأكاديمي والبحثي، فقد نقلنا تجاربهم وأفكارهم، والأعمال التي ترجمناها جاءت ترجمتها حرفية، وتفسر تجارب وظواهر عالمية لا علاقة لها بواقعنا، ولا بفلسفتنا الاجتماعية والثقافية.
ويشدد ناقدون على أن الدراسات الإعلامية في الجامعات العربية – منهجا وطرائق تدريس – لا تخرج من عباءة مناهج وطرق التدريس الغربية، بل أن جميع المراجع إما غربية، وإما ترجمات لأعمال غربية، وإما مستنبطة من دون تصرف، وينسحب الاتهام على كل الأكاديميين وأساتذة الجامعات –وأنا واحدة منهم– بأن مساهماتهم ضعيفة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تساعد في تأصيل العلم العربي وبالتالي الإعلام العربي أو تأكيد هويته.
فصورة “التغريب” في وطننا العربي ليست قاصرة على مجال الإعلام، بل سبقت في مجالات أخرى كثيرة، فمدارسنا الأدبية خارجة من قاعة غربية إذ الشعر رومانسي وكلاسيكي، والقصة ملهاة ومأساة، وانتقلت ملامح الغربة إلى ألسنتنا إذ المفردة الأوربية ثقافة والعربية تخلف، ولغتنا عاجزة عن استيعاب الاكتشافات العلمية المتلاحقة.
غياب المجتمع الفاضل
من أهم مظاهر عدم الالتزام بأخلاقيات وسائل الإعلام خاصة في الفضائيات العربية هو عدم الالتزام بالدور التربوي، فهذا الدور يكاد يكون مفقودًا في أغلب تلك الفضائيات بل يصل بعضها إلى المواجهة مع التربية بسبب ما فيها من انفلات تجاوز كل حد ممكن، وكل متابع منصف للفضائيات العربية يجد أن هناك مواجهة بين التربية وما يعرض في كثير من الفضائيات.
ولكيلا يفهم أنني وحيدة الطرح في هذا المجال أنقل سطورًا مما كتبه الدكتور أحمد الضبيب في جريدة الجزيرة السعودية، في مقال تحت عنوان (زمن الوقاحة) يقول فيه: “إن الخطر الذي كنا نظنه آتيا من بعيد قد تفجر تحت أقدامنا.. لقد صدمتنا القنوات الفضائية العربية أول الأمر بمناقشة عدد من الموضوعات الشاذة المحرمة، وأصبحت تحاورنا في ممارسات بعيدة عنا، كان الإنسان يخجل من ذكرها بل يشمئز من مجرد الإشارة إليها، فإذا بها تعرض ذلك على الشاشات بدعوى الصراحة والشفافية”.
ولن أطيل القول فيما لم يكتب أكثر مما كتب، ولكنني أنقل ما كتبه على الشدى في مجلة اليمامة بعنوان “يا زمان الفحش والتلوث” ومما قاله فيه:” في هذا الزمان ربما يتمنى أحدنا أحيانا لو كان أعمى، وأصم، حتى لا يرى أو يسمع الفحش الذي تعددت أشكاله ووسائل إيصاله إلى الناس جميعا رغم أنوفهم.
لقد طبعت وسائل الإعلام أذهان عامة الناس بالتفكير دائما حول الجنس، حتى أن مقدم برامج في إحدى الفضائيات طرح سؤالا على المارة في الشارع يقول: لماذا تذهب إلى الفراش؟ وتغامز الذين طرح عليهم السؤال من رجال ونساء في إشارة واضحة أن الهدف من السؤال هو إجبارهم على إفشاء سر من أسرار ما يجري في الفراش، لكن إجابة السؤال كانت عادية وبسيطة وهي أننا نذهب إلى الفراش لأنه لا يستطيع الحضور إلينا”.
فأين – بعد كل هذا – الالتزام بأخلاقيات وسائل الإعلام، أو بالدور التربوي الباني الذي يجب أن يكون هدفا من أهداف كل فضائية عربية لو لم تضل الطريق وتضيع هويتها العربية التي من أبرز سماتها الالتزام بالدور التربوي؟.
من المؤسف حقا أن نجد العالم الغربي -الذي نعترف بتفوقه علميا– تشن أوساطه السياسية والتربوية والإعلامية حملة شديدة على محطات التلفزة الخاصة بسبب تجاوزها حدود القانون والمبادئ الأخلاقية في برامجها بهدف الحصول على مزيد من الإعلانات غير عابئة بالآثار الاجتماعية والتربوية، حسبما نشرت جريدة الشرق الأوسط عن ذلك في ألمانيا، وأن تلك المحطات اعتذرت، ولكن لم يكف المطالبين بل طالبوا بمعاقبة المسؤول الذي تجاوز القانون والتقاليد والأعراف .
تدمير البيت العربي
تتأسف بل تتألم عندما تجد إجماعا فضائيا عربيا على نشر الرذيلة وهدم بناء الأسر، الذي بقي سياجا لحفظ الكرامة العربية، وتتساءل محتارًا ألا يوجد بين هؤلاء الذين دفع بهم الزمن الرديء للمسؤولية عن الفضائيات من يفكر في مجتمعه وأصالته وتميزه الأخلاقي عن المجتمعات الغربية التي تئن من أثر الانحلال الخلقي .
لقد أصبحت حياة البيت العربي من خلال الفضائيات العربية لا الأجنبية تتمثل في الخيانة الزوجية، وفي فتاة تطارد شابا في مطعم الجامعة، إنها حياة الشبق التي تتلبس العربي أينما وجد، وهذه الصورة للعربي رسمتها فضائيات عربية لا أفلام هوليوود التي يرجمها العرب بأقبح الأوصاف لأنها أساءت لصورة العربي.
أما المجتمع الفاضل في الحياة العربية فهو الغائب إلا قليلا عن خارطة الفضائيات العربية، فالطبيب و الطبيبة و المهندس و المهندسة و أستاذ و أستاذة الجامعة و المربي و المربية والممرض والممرضة، فهؤلاء لا مكان لهم في الفضاء العربي إلا في برامج محدودة وقليلة جدا في الفضائيات، وإذا أراد هؤلاء الذين يخدمون المجتمع أن يكون لهم مكان في الفضائيات فليتركوا مهنهم الشريفة إلى ثقافة المَخادع، وليرتادوا أماكن الغزل .
المراجع
- د. مصطفى سويف – أسباب انتشار الاضطراب النفسي –كتاب الأهرام– القاهرة.
- ولبور شرام –أجهزة الإعلام والتنمية الوطنية– ترجمة مجمد فتحي.
- وليام ريفرز –وسائل الإعلام والمجتمع الحديث–ترجمة– د. إبراهيم إمام.
- محمد فائق الفلاييني، وسائل الإعلام وأثارها في وحدة الأمة.
- د. عواطف عبد الرحمن، قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث.