يؤكد علماء الاقتصاد وخبراؤه، على أن التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا كبيرة جدًّا، فقد أصبح العالم كله يعاني أزمة اقتصادية حادة لم تمر بها البشرية منذ أكثر من مائة عام مضت؛ حيث سببت سلسلة من الهزات المالية العنيفة التي هوت بمعظم الاقتصادات العالمية، وخصوصًا في أكبر وأقوى وأحدث النظم الرأسمالية منها.
فقد تعرّى الاقتصاد المالي الوهمي عن الاقتصاد الحقيقي، واتضح الانفصال بينهما، ذلك لأن الاقتصاد العالمي الحالي مبني في غالبية معاملاته وتداولاته، على مستندات مالية وأسهم ذات قيم تداولية لا تعكس دائمًا قيمة واقعية فعلية، فقيمتها التداولية مرتبطة بكمّ الطلب عليها والعرض منها، وجراء سيل من المضاربات التي قد تحدث عن عمد أو بشكل تلقائي من المضاربين، قد تقفز القيمة التداولية للمستندات المالية والأسهم لأضعاف قيمتها الحقيقة والعكس صحيح. وهذا النوع من التعامل يرفضه النظام الاقتصادي الإسلامي، لما فيه من الهشاشة وما يلازمها من المخاطرة الجزافية والغبن والغرر على أحد المتعاقدين، والذي يعتبر أساس المشاكل المالية والمخاطر المعاصرة التي تهدد النظام المالي العالمي. وما الأزمات المالية المتعاقبة سوى انفجار لفقاعات اقتصادية تكشف زيف ما وراءها من وهم اقتصادي ومالي.. وربما تعتبر الفترة الحالية، فرصة للعالم كله لاعتماد الاقتصاد الإسلامي كمنظومة مالية عصرية ومتكاملة، تلبي احتياجات البشرية في الاقتصادية والعيشية؛ حيث تعتمد على أصول اقتصادية راسخة يحكمها مبدأ العرض والطلب وشفافية التعاملات، وتقوم على المنفعة العامة لكامل طوائف المجتمع وشرائحه، وخصوصًا الضعيفة والهشة منها.
فاستخدام الاقتصاد الإسلامي وأدواته، يعتبر حلاًّ ناجعًا في حل الأزمات الاقتصادية الراهنة التي تفرض نتائجها في بقاع الأرض أجمع، وفي ذات الوقت نرى أن المؤسسات الاقتصادية الإسلامية، وبالذات المصارف الإسلامية، لم ينلها إلا القليل من تأثير الأزمات بحكم ترابطها مع العالم لا بسبب نظامها المالي، وكل ذلك مردّه إلى خصائصها المحكمة والسامية التي تتصف بها؛ حيث ضمنت لها الخروج من عباءة التضخم الربوي، والنجاة من آثار المقامرات والمراهنات والمعاملات المبنية على الغرر بأقل الخسائر، حيث إنها تعتمد النظام التشاركي في المعاملات المشروعة، والتي تتصف بالثبات الاقتصادي، وتتحلى بمبادئ الأخلاق الحميدة والأخلاقيات الراقية التي لا خلاف عليها لدى كل الناس في كافة المجتمعات الإنسانية.
وليس ببعيد ما حصل في عام 2008، فقد سببت أزمة الرهن العقاري في أمريكا ركودًا اقتصاديًا مدمرًا وتحولت بسرعة كبيرة إلى أزمة عالمية كبرى واسعة النطاق، انخفضت فيها أسعار العقارات بشكل ملحوظ، وزادت معدلات البطالة بسرعة فائقة، فقامت المؤسسات المالية بتخفيض معدلات الفائدة بخطوات متلاحقة، وقامت الحكومة الأمريكية وغيرها من الحكومات العالمية، وعدد من المصارف الدولية بطرح الخطط الإنقاذية لتفادي الأزمة، ولم يُفلح كل ذلك بتحقيق الإنقاذ المطلوب، ما اضطر العديد من الحكومات للتدخل وضخ أموال طائلة لإنقاذ بعض الشركات والبنوك خصوصًا ذات الكثافة العالية من حيث المتعاملين والمستفيدين لتتدارك وقوع كوارث لا تحمد عقباها على الأمن والسلام المحلي والدولي.
وفي صيف عام 2008 أفلست شركات كبيرة، مثل شركة “ليمان براذرز” المالية، وشركة “جنرال موتورز”، وبنك “سي آي تي جروب”، وتهاوت أسعار الأسهم لأرقام قياسية، وتراجعت البورصات العالمية، وكَثُرَ إفلاس المؤسسات في مختلف دول العالم، وطالت شظايا الأزمة البعيد والقريب في كل أنحاء المعمورة، بسبب الترابط القائم في الاقتصاد العالمي، ولم تُجْرَ بعد ذلك معالجات جذرية لأسباب الأزمة، والتي من أهم أسبابها الديون وفوائدها المرتفعة، والرهون والتقييم المبالغ فيه لقيمة بعض أسهم الشركات والبنوك، المبني في الأساس على المضاربات من دون أن يلتزم بقيمة السهم الحقيقية. وارتفعت في حينها بعض الأصوات في العديد من الدول المتقدمة الغربية، ليتبيّن أن جزءًا رئيسًا من أسباب الأزمة هي الفوائد الربوية المرتفعة، وشروط الرهن المخالفة لمبادئ الاقتصاد الإسلامي، ومنها بيع الرهن وبيع الديون وانتشار الربا الفاحش، وأن مبدأ “النقود لا تلد نقودًا” مبدأ اقتصادي مدمر.. ومن هذه الأصوات مَن أظهر ذلك في مقالة بعنوان “هل تأهلّت وول ستريت لاعتناق الشريعة الإسلامية؟”.
مقترحات لما بعد الجائحة
لعله من المهم أن تستخلص الدروس والعبر من الأزمات المالية العالمية وما ينتج عنها من ركود وكساد، وأهم تلك الدروس توقف المؤسسات المالية عن التعامل بالربا أو بنظام الفائدة إقراضًا وإيداعًا. وقد تشدّد الإسلام الحنيف في حرمة التعامل بالربا تشدّدًا لم يشابهه أيّ تحريمٍ نهى الله عنه على الإطلاق في كتابه العزيز، ويستبدل هذا النظام بنظام المرابحة على أسس الكسب والخسارة، وتشغيل رأس المال تشغيلاً استثماريًّا تنمويًّا.
جميع التحاليل الاقتصادية تجمع على أن البطالة والفقر، سينتشران بعد جائحة فيروس كورونا على نطاق واسع. وقد عالج الإسلام الحنيف ظاهرة الفقر علاجًا جذريًّا، فجعل الزكاة على أنواعها ركنًا من أركان الإسلام الخمسة. وخلال مئة عام على بدء الدعوة الإسلامية وانتشارها في رقعة جغرافية لا بأس بها؛ لم يجد رُسُلُ الخليفة عمر بن عبد العزيز الموكلون بتوزيع مال الزكاة، من يأخذ منها لا من المسلمين ولا من غير المسلمين. فقد ورد أنه كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق أن: أخرج للناس أعطياتهم. فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال. فكتب إليه أن: انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه. قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن: زوج كل شاب يريد الزواج. فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مالٌ. فكتب إليه بعد مخرج هذا أن: انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين.
يضاف إلى ذلك، ما شجّع أصحاب الثروات على بذل الصدقات على الفقراء والمساكين “إذا أعطيتم فأغنوا” كما كان يقول الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب. وكذلك سياسة الوقف في الإسلام التي أطلقها الإسلام وشجع عليها، شكلت بابًا واسعًا في تنمية سريعة لقطاعات خدمية أساسية، كالتعليم والصحة، والري والسقيا، وكفالة الأرامل والأيتام، وتجهيز الجيوش وتعزيز الثغور وغيرها. وقد سلكت بعض الدول الغربية طريق الوقف في عدد كبير من مؤسساتها الخدمية، إذ بلغت أوقاف عشرين جامعة أمريكية في العام 2007 ما يزيد على مئتي مليار دولار أمريكي، وأثمرت تقدمًا ملحوظًا في الحضور العلمي لهذه المؤسسات على صعيد العالم.
أيضًا، لا بد من التوقف عن التقييم الجزافي لأسعار الخدمات، واللهث وراء اقتصاد استهلاكي، وجعل الأولويات الاقتصادية للمنتجات التي تعود على الناس بالنفع.. ويحضرنا هنا مثال واضح لذلك التناقض الرهيب في تقييم المنتجات حين بيع تطبيق الاتصالات “واتس آب” بسعر 19 مليار دولار في عام 2014 في نفس الوقت الذي قدرت فيه قيمة شركة “بيكر هيوز” للخدمات البترولية بسعر 34.6 مليار دولار فقط، مع أنها تعد ثالث أكبر شركة خدمات بترولية في العالم بعد شركتي “شلمبرجير” و”هاليبرتون”.
كذلك، من المهم جدًّا، وقف الاحتكار الذي غالبًا ما ينتشر في العالم الحديث في زمن الأزمات وبعدها.. ورغم أن الإسلام يكفل الحرية للأفراد في البيع والشراء والتنافس الفطري، إلا أنه ينكر أشد الإنكار الاحتكار الذي يلجأ إليه بعض التجار في الحروب والأزمات، طمعًا في زيادة أرباحهم. وقد نهى عن ذلك النبي في قوله: “بئس العبد المحتكر، إن أرخص اللهُ الأسعارَ حزِن، وإن أغلاها فرِح” (رواه البيهقي). وفي قول آخر: “الجالبُ مرزوق والمحتكر ملعون” (رواه ابن ماجه).
يضاف إلى ذلك، ضرورة إجراء معالجات لتداعيات الجائحة، بحيث تشمل جميع الجوانب والعوامل والأسباب المباشرة وغير المباشرة، المادية والروحية، خصوصًا وأن الأزمة في شدّتها قد ساهمت في صحوة العقول والقلوب عند العديد من المسؤولين والعلماء وعموم الناس في العالم، والتأكيد على ضعف المخلوق أمام قوة الخالق المطلقة، والتسليم مع الإنابة إلى الله.. وهذا ما دعا الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب وغيره من رؤساء الدول، إلى التوجه إلى الله في خطاباتهم الرسمية في ظاهرة نادرة وغير مسبوقة في نظم سياسية تدعي العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
وإذا كان الناس مجمعون على أن أحوالهم وأوضاعهم الاقتصادية والمالية ما قبل كورونا ليس كما بعدها، وأن المتغيرات الآتية غير محددة المعالم بشكل واضح، والخسائر لا يمكن حصرها وإحصاءها بعد.. فعلى جميع الصعد، يجب على الجميع في مختلف القطاعات، العلمية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مواكبة هذه المتغيرات العالمية، والاستفادة بما جاء به الإسلام الحنيف من خيرٍ عميم، وتكاملٍ سليم، وأُطُرٍ سديدة، ومبادئ اقتصادية وسياسات مالية، وقيم روحية قد تتمكن من إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتعويض ما يمكن تعويضه، وجبر وإصلاح ما يمكن جبره وإصلاحه.
(*) كاتب وباحث سوري.