إن دور العمل الخيري في تحقيق التنمية الاقتصادية، تتوسّع دائرته كلما انتظم واعتمد وفق رؤية عصرية تمكنه من إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية التي تعرفها المجتمعات المسلمة على وجه الخصوص، وهو الأثر الذي يتضح جليًّا وواضحًا وملموسًا في كثير من الدول العربية التي طوّرت من أساليب الاشتغال، وقننّت الوسائل التي تعين في تحقيق التنمية المنشودة، والتي تعدُّ من مقاصد تشريع العمل الخيري عمومًا.
فللعمل الخيري قيم إنسانية كبرى، فهو سلوك حضاري يتجسد بشكل حي في “المجتمعات التي تنعم بمستويات متقدمة من الثقافة والوعي والمسؤولية، كما أنه يلعب دورًا مهمًّا وإيجابيًّا في تطوير المجتمعات وتنميتها. فمن خلال المؤسسات التطوعية الخيرية يتاح لكافة الأفراد الفرصة للمساهمة في عمليات البناء الاجتماعي والاقتصادي اللازمة، كما يساعد العمل الخيري على تنمية الإحساس بالمسؤولية لدى المشاركين، ويشعرهم بقدرتهم على العطاء وتقديم الخبرة والنصيحة في المجال الذي يتميزون فيه”. لذلك تزايدت أهمية العمل الخيري في الآونة الأخيرة لما تبيَّن من الآثار الطيبة المحمودة التي تتحقق للمجتمع.
العمل الخيري في التنمية الاقتصادية
اضطلع العمل الخيري بدور مؤثّر في مواجهة ما يكتنف العملية التنموية من مشاكل تمويلية تهدد نجاحها واستمرارها، ذلك أن لهذا العمل مقصدًا مهمًّا وأساسيًّا يتمثل في محاربة الاكتناز، وبالتالي توفير مورد مالي للأهداف التنموية عن طريق حركة المال وروجانها داخل السوق. “فالتصدق بالمال يقتضي تحريكه بين أفراد المجتمع وجعله دُولة بينهم، ولا يبقى مكنوزًا أو جامدًا فيفقد وظيفته الأساسية، ومن أجل ذلك حث الشارع الحكيم على الإنفاق، وجعله قرضًا بيد الله يضاعفه لصاحبه أضعافًا كثيرة، ويخلفه عليه ويبارك له فيه”.
فوجود العمل الخيري ممثلاً في الوقف والصدقات التطوعية، يسهم جنبًا إلى جنب مع الزكاة -صدقة المال الإلزامية- في تحرير رؤوس الأموال العينية والنقدية من سيطرة حبّ أصحابها الفطري لها، فبينما تتجه أموال الزكاة إلى مصارفها المحددة شرعًا، “يعمل الوقف على تحويل رؤوس الأموال من أحباس عاطلة مكتنزة لدى أصحابها، بعيدة عن الإسهام في التنمية، إلى أوقاف لتحقيق التنمية من خلال مجالات محددة اجتماعيًّا واقتصاديا”، وبالتالي “تحويل لجزء من الأموال من الفئات الأكثر ادخارًا إلى الفئات الأكثر استهلاكًا، وهذا بذاته يدعم النمو الاقتصادي خلال مضاعفة الاستهلاك”.
فالترهيب الإلهي لمن يكتنـز أمواله، فيمنعها عن التداول وتحقيق النفع له ولباقي أفراد مجتمعه المستخلفين فيها، يدفع بالمسلم إما إلى استثمارها في شتى المجالات التنموية تحقيقًا للعائد الدنيوي، وإما إلى تخصيص نصيب منها إلى الاتجار مع الحق تعالى وتحقيق العائد الذي يظل رغم مرور الزمان، ويبقى أجره بعد موت صاحبه. فالله فتح لعباده بابًا واسعًا للإفادة مما جعلهم مستخلفين فيه من رؤوس الأموال، حيث يضمن العمل الخيري لصاحبه الثواب والأجر، فيكون ذلك دافعًا قويًّا للقضاء على الاكتناز المادي للثروات، واستبداله بتحقيق الثواب المستمر عند الله، وإسهامًا في تمويل المشاريع التنموية؛ قصد الوصول بالمجتمع إلى درجة التكافل المطلوب، تحقيقًا لمقصود الشارع من تشريع العمل.
وإن من ينظر إلى المشاريع التي تحققت وتتحقق بفضل الاستفادة من الأعمال الخيرية العامة والمتنوعة، يتوصل إلى معرفة الحكمة الربانية، أولاً في محاربة الاكتناز، وثانيًا في تشريع العمل الخيري، وكل ذلك ما هو إلا إسهام في العملية التنموية التي تعدّ قاطرة للتنمية الاقتصادية.
ولفهم الدور الذي يقوم به العمل الخيري في إيجاد حركية لرأس المال ورواج اقتصادي مهم، نجد أن بعض الدول الإسلامية اعتنت به، وأسست من خلاله ركائز أساسية وداعمة للمجتمع. فتنوع المشاريع المرتبطة بهذا الدور، يعكس بحق رؤية رسالية واضحة في منهج إعمار الأرض ومحاربة الاكتناز الذي يهدد سبل الاستقرار المادي عمومًا.
العمل الخيري في معالجة الظواهر السلبية
تتوقف ضروريات الحياة -من أكل وشرب وسكن وتعليم- على وجود مستوى معيّن من المعيشة، فلا يمكن تحقيق هذه الضروريات التي تمثل كليات الشرع، دون العمل على محاربة الفقر والهشاشة ورفع مستوى المعيشة، وهي الأهداف الرئيسية للتنمية الاقتصادية. فمعيار “قياس التقدم الاقتصادي عند كثير من الاقتصاديين متوسط الدخل الفردي، إذ هو أقرب المعايير لقياس مدى ازدهار المعيشة وتحسّنها”.
والمتتبع للنظام الاقتصادي عمومًا، لا يخفى عليه التطور الملحوظ الذي أصبح يعرفه العمل الخيري، حيث ظهر في وقتنا الحالي كمنظومة متكاملة قادرة على إيجاد الحلول للمشاكل الاقتصادية المعاصرة، بل ويسهم بشكل فعال وإيجابي في بناء دينامية اقتصادية جديدة، ويعرف تغييرات عدة على مستوى المفاهيم والوسائل والمرتكزات والبنيات.. فبالرجوع إلى كتب التراث الإسلامي نجد العمل الخيري -سواء الوقف أو الصدقات عمومًا- اقتصر تدخله في حلّ المشاكل الاجتماعية والإنسانية بالأساس، دون تحديد للأهداف أو تدبير محكم ومخطط له بطريقة تمكن من تحقيق التقدم الاقتصادي المنشود.
لكن ولظروف ترتبط بتطور المجتمعات، وجدنا العمل الخيري يقف عند أدوار مهمة في المجتمع، وينتظم بشكل عقلاني في إطار ما يسمّى بـ”المجتمع المدني”، حيث تأسست جمعيات ومراكز تسعى في أهدافها إلى تحقيق التنمية للمجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
العمل الخيري في محاربة الفقر
جاءت الشريعة الإسلامية متضمنة لمقاصد جليلة وعظيمة، أهمها التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع الواحد تحقيقًا لمعاني الأخوة الإسلامية، وأيضًا لرفع المعاناة والألم عن المحتاج والمسكين، حتى لا يصبح عالة على المجتمع، بل يسهم بدوره في تنمية محيطه ومجتمعه، ويصير هذا التكافل سمة من سمات المجتمع المسلم، وضمانًا لمجتمع خالٍ من الجريمة التي تهدد الأمن الاقتصادي والاجتماعي.
فالفقر حسب الدراسات الحديثة، عائق من عوائق التنمية الاقتصادية إن لم تتم معالجته بشكل عقلاني محكم، فكثير من الدول التي تعيش تحت وطأة الفقر، تعاني من مشاكل اقتصادية لا يمكن الخروج منها دون القضاء على الفقر الذي يهدد الأمن الاقتصادي لها.
وقد استطاع العمل الخيري، أن يقف عند المقصد الذي شرعت من أجله الزكاة فأسهم بشكل كبير في مكافحة ظاهرة الفقر، سواء من خلال تقديم المساعدات المالية المباشرة، أو عن طريق تقديم الخدمات للفقراء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال تنمية مهارات الفقراء عن طريق التعليم والتثقيف والتأهيل.. كما وجدت أوقاف في البلاد الإسلامية، اعتنت بتوفير الطعام للمحتاجين، وحتى البذور للفلاحين لإنتاج الطعام. كما توجد بعض الأوقاف الأخرى، تعتني بتوزيع الخبز على الأيتام والأرامل وأبنائها، بغرض إقامة مصالح ضعاف المسلمين وقضاء حوائجهم التي لا تستقيم حياتهم إلا بها، لأن ذلك هو مقصود الشريعة الأعظم من التصرفات التطوعية والإلزامية.
وقد استطاع تدخّل العمل الخيري في هذا الجانب، أن يسهم بشكل كبير -وما زال- في مدّ العون لفئة مستضعفة في المجتمع قد يؤدي إهمالها إلى إضعاف اقتصاد الدولة، حيث يمكّن هذا العمل من خلق رواج اقتصادي بفعل حركية الأموال التي تتداول في يد الفقراء، فتؤدي إلى تداول السلع والأموال فيرتفع بذلك الإنتاج، “فما يوضع في يد مسكين سيشتري به خبزًا، والخباز سيشتري به قمحًا، والفلاح سيشتري به ثوبًا؛ والنسّاج سيشتري صوفًا.. وكلما مرّ بيد ترك رزقًا حسنًا، وذلك على المستوى الأدنى”.
إن للعمل الخيري في تحقيق التنمية الاقتصادية دورًا مهمًّا ومتميزًا، حيث يساهم بتضافره مع الأسس الاقتصادية الأخرى، في معالجة ما يواجه تنمية المجتمع من مشكلات وظواهر سلبية تعرقل القيام بالعملية التنموية قصد النهوض بالمجتمع. هذا فضلاً عن مساهمته في تنمية القطاعات الاقتصادية المختلفة.
العمل الخيري في محاربة الأمية
لا يمكن لأي دولة أن ترفع تحدي التنمية الاقتصادية وشعبها يقبع تحت وطأة الأمية، لذلك كان للعمل الخيري الإسهام الفعال في تحقيق هذه التنمية من خلال العمل على رفع مستوى الوعي العام، ومحاربة الأمية بمستوياتها المختلفة، والدعوة إلى العلم والتعلم، “فبه تتكون شخصية الإنسان الفاعل فيكون عالمًا شرعيًّا أو عالمًا علمًا نظريًّا أو تجريبيًّا، أديبًا أو مؤرخًا أو مهندسًا أو طبيبًا أو زراعيًّا أو فيزيائيًّا أو جيولوجيًّا أو ميكانيكيًّا أو طيارًا أو عسكريًّا ماهرًا، أو غير ذلك.. وهكذا يكون فعل الخير محركًا للاقتصاد ونافعًا للبشر وجالبًا للاستقرار ودافعًا للخطر والضرر”.
وقد وجدنا مؤسسات خيرية وجمعيات تؤسَّس لهذه الغاية، وتقوم بأدوار متميزة لتحقيق أهدافها، سواء تعلق الأمر بالأمّية القرائية أو الأمية المعرفية أو الأمية التكنولوجية، فإضافة إلى المؤسسات والمعاهد التي أنشأت وحبست عليها المحلات التجارية بهدف خدمة العلم والتعلم، وتحرير الناس من ربقة الأمية، نجد حاليًّا الكثير من الجمعيات الخيرية بالدول الإسلامية ترفع هذا الشعار، وتسهم في تطوير المجتمع اقتصاديًّا، من خلال إعادة تأهيل المواطن فكريًّا وعلميًّا. كما توجد مؤسسات ومراكز أيضًا تعتني بمجال البحث العلمي بأبعاده المتقدمة، إيمانًا منها في أن التعليم هو أحد أكثر الأدوات فعالية في كسر حلقة الفقر، وإنشاء مجتمع فاعل اقتصاديًّا، فلا سبيل إلى تحقيق تنمية اقتصادية في ظل مجتمع يعيش تحت ربقة الأمية والجهل.
العمل الخيري في علاج المرضى
لا يمكن الحديث عن معوقات التنمية الاقتصادية دون الحديث عن المرض الذي يؤثّر بشكل كبير في مردودية الموارد البشرية التي ترتبط بالتنمية الاقتصادية. إن “إسهام فعل الخير بتطبيب المرضى، يعتبر عاملاً مهمًا من عوامل التنمية الاقتصادية، حيث يسعف المرضى فيسهم بشفائهم حتى يقوموا بدورهم الحيوي في العمل والكسب والإنفاق على أنفسهم ومن يعولون.
وهذا المنحى لا يرتبط فقط بالتدخل المباشر في علاج المرضى، بل أيضًا ببناء المصحات والمستشفيات؛ “فإنه نفع كذلك للمصحات والمستشفيات، حيث ينشط الاقتصاد بذلك كثيرًا كما لا يخفى”.
وقد قامت عند المسلمين على مرّ التاريخ، أعمال خيرية عنيت بتقديم المساعدات اللازمة للمرضى سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، حيث وجدنا من أوقاف المسلمين ومبراتهم ما يبيِّن تجذر هذا الفكر في تاريخ الأمة.. فقد اهتم الوقف بمكافحة كثير من الأمراض لدى الإنسان، وذلك بإنشاء مستشفيات ومصحات يعالج فيها، سواء كانت تلك المستشفيات أو المصحات تتعلق بعلاج أمراض عضوية أو بعلاج أمراض نفسية أو عقلية.. ولقد بلغ من عناية المسلمين بالمستشفيات لكي تقوم بأداء الخدمات الكاملة نحو مرضاها بصورة متكاملة وتساهم في تطور صحّة المجتمع، أنه كانت ترصد لذلك المساهمات الكبيرة لبناء أحياء طبية متكاملة الخدمات والمرافق، كما تنشأ في العصر الحديث المدن الطيبة، كمستشفى 57357 بمصر، والمختص في علاج سرطان الأطفال، حيث تم بناؤه عن طريق التبرعات الخيرية.
كما عملت جمعيات أخرى على الاستثمار في المشروعات الصحية، وخاصة ما يرتبط ببعض الأمراض المستعصية أو المزمنة كالسرطان، والقصور الكلوي أو السكري وغيرها من الأمراض.
(*) كاتب وأكاديمي / المغرب.