من المسلّم به عند الجميع أن التعمير أصعب من التخريب والهدم بألف مرة؛ إذ يجب لبناء أيّ شيء أو تعميره، أن تتوافر كلُّ أجزائه وعناصره الداخلية والخارجية.. أما الهدم فيتكفل به انعدامُ أحد تلك العناصر الضرورية، ومن ذلك -على سبيل المثال- الصلاة، إذ يجب أن تستوفي جميع الشروط والأركان اللازمة لأدائها أداء صحيحًا، بحيث تبطل الصلاة إذا ما أُهمل واحد منها؛ فلا تصح الصلاة إن لم يكن المصلي متوضئًا، أو لم يأت بتكبيرة الإحرام، أو لم يستقبل القبلة حتى وإن وفَّى بمعظم أركانها وشروطها.. فقبول الصلاة عند الله تعالى ومؤانستُها للإنسان في قبره ونفعُها إيَّاه يومَ القيامة، مرهونٌ أيضًا بمراعاة أركانها الداخلية، أي الخضوع والخشوع، فحدوث أي خلل فيهما يحولُ دون قبولها عند الله حتى وإن استوفت شروطها وأركانها الخارجية والظاهرية.. والأمر كذلك بالنسبة لغيرها من العبادات والطاعات.
البناء والترميم
ويمكنكم أن تُقيّموا عملية إنشاء مبنىً أو ترميمه على النحو نفسه، تخيلوا أن المعماري العبقري العظيم “سنان”، بنى جامع “السليمية” في مدة قصيرة بلغت حوالي ست سنوات، بينما أعمالُ الترميم التي بدأت من أجل إعادة الجامع إلى هويته الأصلية من جديد بعد أن حدثت شقوق وتصدعات وثغرات في أماكن مختلفة منه، وتضرر بسبب قذائف المدفعية التي أطلقها البلغار عليه في أثناء احتلال “أدرنه” سنة 1913، استمرت حوالي سبع أو ثماني سنوات.
لكم أن تتخيلوا أيضًا أثرَ التعمير والتخريب في بنية الإنسان؛ فمثلاً قد تتناولون السمّ مع الطعام، فيؤثر ذلك في خلايا المخ لدرجة شعوركم بانعدام التوازن في حالتي النوم واليقظة، وهذا بدوره قد يستدعي أن تخضعوا لفترة علاجية طويلة كي تتخلصوا من تأثير ذلك السُّم فتتعافوا وتستردّوا توازنكم وصحتكم.
موجة جذرية
وهكذا تعرّض مجتمعُنا قبل قرنين أو ثلاثة قرون لتخريبات خطيرة، حتى صارت كلُّ ناحية فيه تبدو وكأنها خرابة، وتوصيفًا لهذا الوضع يقول عبد الحق حامد(1) في أحد أشعاره:
أوَّاه! لم تبق أرض ولا حبيب
وملأ قلبيَ الحزنُ واللهيبُ
كما يُعبر ضياء باشا(2) أيضًا عن ذلك الوضع:
أوَّاه! لقد خسرنا تلك اللعبة
فيا ليت شعري ماذا ربحنا والخسارةُ بينة؟!
أما محمد عاكف أرصوي(3) فقد رسم تلك الحالة وشخصها بقوله:
أوَّاه! خُدِعنا بإيمان بضعة كُفّار
فنمنا ولم نستيقظ إلا ونحن في النار!
أجل، إن إعادة إحياء وإصلاح مجتمع ضاع فيه الدينُ وخرب الإيمان وانهارت القيم واحدة تلو الأخرى، يتطلّب جهدًا حقيقيًّا وسعيًا حثيثًا.
وإن القدرة على إقامة هذا الصَّرح الذي تصدّع وانكسر وتحطم وتشتتت أجزاؤه المباركة يمنة ويسرة بشكلٍ يتوافق مع هويته الأصلية الحقيقية، مرهونٌ بجهودِ وسعي رجال الغاية السامية، الذين يُضحّون بمتعهم المادية والمعنوية وسعادتهم الشخصية؛ ذلك أنه “بقدر الكدّ تُكْتسب المعالي”، ولمزيد من التوضيح نقول: إن الحصول على التوفيق ماديًّا ومعنويًّا ونيلَ المعالي وتتويجَ النصر بالنصر، مرهونٌ بالجهد والسعي الذي سيُبذل في هذا الموضوع، وباستخدام ذلك في المكان والاتجاه المناسبين الصحيحين. وعلينا ألا ننسى أنه ليس ثمة حركة لا تبدأ من الجذر ولا ترتبط به، يمكنها أن تكون واعدة ومبشّرة وثابتة فيما يتعلق بإصلاح المجتمع وانبعاثه من جديد.. فكم من حركات بدأت عملها بتبختر وخيلاء تعثّرت وانقطعت بها السُّبلُ بعد بضع خطوات خطتها للأمام، وانحنت ظهورها ثم ظل كلٌّ منها مجرد حلم واهٍ ورؤيا محطمة! وقد يكون للسياسيين والإداريين إسهام معين في عملية تهيئة مناخ ملائم لإصلاح المجتمع، وإزالة العوارض والعوائق التي تعترض طريقه؛ فيتسببون بفضل جهودهم ودعمهم في دفع عجلة الإصلاح فيستحقون التقدير والثناء على ذلك.. غير أن ما يجب فعله في الأساس من أجل التعمير والإصلاح، هو التعامل مع المسألة وتناولها من أساسها ومن ثم التوسع على مستوى القاعدة، وعليه يجب البدء بالعمل من الأساس والشروع فيه “باسم الله”. وعلينا أن نعرف أن إصلاح المجتمع يتأتى من إصلاح الأفراد، وأنه يستحيل إصلاح المجتمع أصلاً ما لم يتم إصلاح كل لبناته ووحداته.
الإصلاح والتعمير
وفي هذا الإطار يجب على المصلحين الذين تفرغوا للإصلاح والتعمير، أن يتحركوا في هذا الإطار بروح التضحية مدى الحياة، كي يتمكنوا من الوصول إلى الهدف المنشود في هذا الطريق، لأن المشاريع الكبرى إذا تدخلت فيها المصالح الشخصية أو العائلية، لم يحالفها النجاح قطعًا. وبغض النظر عن التوفيق والنجاح في الأمر فقد شُوِّه اسم تلك الغاية السامية، فكانت النتيجة هي الخسارة في وقت هو أدعى للكسب، إذ إن أية سياسة أو حكم أو إدارة أو كيان أو مؤسسة أو شركة تدور على المنفعة والمصلحة الشخصية، تتحول إلى كيان مخيف؛ حيث يسعى كلٌّ منها في مثل هذا الموقف إلى تشويه الآخر.. فما إن تدخل المصلحة والمنفعة الشخصية في الأمر، حتى تبدأ مراكز القوى تتصارع مع بعضها البعض، ومن ثم لا يتحقق أيُّ نوع من التقدم لصالح المجتمع وتطوره، ويتقدم الآخرون وتعجزون أنتم عن التخلص من وصايتهم وسيطرتهم. والسبيل للتخلص من تلك الوصاية، هو العمل الدؤوب من أجل الأمة والإنسانية جمعاء، دون توقف ودون تشوف لأي شيء آخر سوى رضا الله تعالى.
وينبغي لمن يحملون رسالة الإحياء على عاتقهم، أن يسعوا في سبيل تنفيذ المشاريع والخطط الكبرى، بل يجب أن تستهدف خططهم الأجيال التي ستأتي بعد قرن من الزمان.. فعلى الإنسان أن يحسن استخدام القابليات والملكات العديدة التي لا تسعها الآفاق والتي منَّ الله تعالى عليه بها، وعليه ألاّ يضيع تلك القابليات والاستعدادات التي لديه بأن يحبسها في مجال ضيّق، كما يجب عليه ألاّ يكتفي أبدًا بأي عمل أو نشاط يبذله في سبيل الحقّ، وعليه في كل مرحلة من المراحل أن يبحث بمختلف السبل المشروعة عن طرقٍ للانفتاح على أنحاء العالم كلها.
وينبغي ألاّ يُساء الفهمُ فيُظنّ أن الهدف من وراء هذا الانفتاح هو تقويض إمبراطوريات وإقامة أخرى مكانها باحتلال العالم والسيطرة عليه؛ فليست لهذه الفكرة أية علاقة بمثل ذلك الظن، بل على العكس فإن المقصد الأساسَ هنا؛ هو إقامة علاقات جوارٍ سليمة وقوية وحميمة مع مختلف شعوب العالم، والاستفادةُ مما لديها من جماليات قد تتوافق معنا، ومحاولة إبلاغ القلوب هناك مجموعة من القيم والأفكار الإنسانية التي نسعى إلى تمثيلها وهي أسمى من “الفلسفة الإنسانية”.. فنحن نعلم أنه سيستحيل العيش في هذه الدنيا وستصبح جحيمًا لا يُطاق، إنْ لم نؤسس علاقات جوار وثيقة على ذلك النحو في عالم اليوم الذي ظلّ يتقلص ويتضاءل تحت تأثير العولمة إلى أن أصبح قرية صغيرة، وإن لم نتلاحم مع الجميع فسوف يستمر حكم واستبداد الذين دأبوا على ممارسة العنف والوحشية وإثارة الفتنة بين الناس، وأقاموا خططهم على قتل الناس والانقضاضِ على مواقعهم ومناصبهم.. غير أنه يجب ألاّ ننسى، أن هذه الدنيا العجوز صارت لا تتحمل مثل هذا العداء الذي يقوم على الحقد والكره والبغضاء، ولا الأسلحةَ الفتاكة المدمرة التي هي نتيجة طبيعية لذلك العداء.. فإن لم يُقْطع السبيلُ أمام موجات الغضب والكره هذه بإقامة جسور المحبة والتسامح والحوار، فلا مفر من وقوع حوادث مرعبة تعمّ البشرية كلها لتقوم على إثرها قيامتها.
وعليه فإنه ينبغي لنا أن نختار طريق التعمير والإصلاح والأخوة وإحياء الآخرين، وأن نتوكل على الله حتى وإن تعرضنا في سبيل هذا للتهديد بالقتل، وأن نواجه الحوادث العابسة في الظاهر بوجه طَلْق ونفسٍ راضية، وأن نتخلى عن متع الحياة ولذائذها -إذا لزم الأمر- من أجل خلاص الإنسانية ونجاتها.. علاوة على ذلك فإن الإمكانيات التي وهبها الله تعالى لنا للخدمة في سبيله، علينا أن نربأ بأنفسنا عن استخدامها من أجل الحصول على أية منفعة دنيوية خاصةٍ، إذ إنه من القبيح والمقيت بالنسبة لمن تعهدوا بإحياء عالم عظيم مجدّدًا أن يتصرفوا وفقًا لمصالحهم الشخصية، فهذا لا يمكن أن يتفق مع القيم الإنسانية. بل يمكن القول إنه ينبغي لنا أن نعتبر الانشغال حتى بالجنة إساءةً لغايتنا السامية؛ إذ ينبغي لنا أن نطلبها من فضل الله تعالى، وعلينا أن نفعل كلَّ ما في وسعنا من أجل إثارة هذا الشعور في أجيال اليوم، لأن من سيغير وجه الدنيا إلى الأفضل، هم الأفذاذ الأخيار الذين يمثلون هذا الشعور.
مفتاح القلوب السحري
يُعتبر الهمُّ من المقومات اللازمة لإنتاج مشاريع التعمير والإصلاح وتنفيذها، ومن يمكَّن منه هذا الشعور فلن يُحرم -بإذن الله تعالى وعنايته- من الحصول على ما يأمله من أجل التعمير.. وبناء عليه هلمُّوا بنا جميعًا نطلب من الله تعالى أن يرزقنا همَّ التفكير في الأمة، وهمَّ التفكير في العالم الإسلامي الذي خارت قُواه، ولنتضرع إليه قائلين “اللهم اقدح الهمَّ في قلوبنا مثل الشَّرَر!”، ولنفكر في مشاكل الإنسانية جمعاء أينما وكيفما نكون، ولنبحث عن حلول لها.
ومع أن الدين يقوم على قاعدة اليسر، إلا أن مهمة مهندسي العقل والفكر في هذا الموضوع صعبة للغاية، فعليهم أن يعملوا ويجتهدوا بكل طاقاتهم، لأن هناك أناسًا كثيرين يقتدون بهم، يترقبون نظراتهم ويصغون إليهم وقد يتحركون تحت تأثير الحالة النفسية الجماعية.. فيجب عليهم التفكير في “الإحياء” أكثر من “الحياة”، وعليهم أن ينسجوا حياتهم حول محور هذه الغاية.. ولا بد من إعلاء الهمة وشحذِها جيدًا في هذا الشأن، والنظر إلى القضية على أنها قضية الإنسانية جمعاء.. فإن لم تستطيعوا أن تضعوا لَبِنَةً في كل مكان من أجل غايتكم السامية، عجزتم أن تكونوا حيث تريدون وأن تحقّقوا الإصلاح الذي فيه ترغبون، وحُرِمتُم من المكان الذي يجب أن تكونوا فيه.. وعليه فإننا مطالَبون ومضطرون أن نتحرك كأناس عالميّين.
وعلينا -ونحن نضطلع بهذا- ألاّ نتخلى عن اللين والرفق أبدًا، وأن ندخلَ في القلوب باستخدام لغة الحب والمودة، لأنها مفتاحٌ سحري لا يستعصي عليه أيّ قفلٍ مهما كان صدِئًا.. فربما تنفتح لكم كل الأبواب الموصدة إذا استطعتم استخدام تلك اللغة بشكل صحيح، وتدخلون في جميع الصدور المتمردة، وقد قيل في أحد الأمثال: “الكلمة الطيبة تُخرج الحية من جحرها”.. وكما أن حركات عازف الناي أو الصوت الذي يصدره تجعل الحية تتراقص، فإنني أحسب أن بعض التصرفات والسلوكيات الروحانية ستذيب بعض مشاعر العداء، وكما جاء في القرآن الكريم: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(فصلت:34)، وعندها ستنشرح لكم صدورُ من يعادونكم، ويقولون لكم “كنا في انتظاركم منذ أمد بعيد”.
فدائيُّو المحبة
إن أجيال عصرنا لا يقدِّرون المسألة حقَّ قدرها، ومع هذا فإن التعمير والإصلاح الذي ستضطلع به القلوب المؤمنة يعني إصلاحَ الأرض قاطبة، ذلك أن من كانوا قبل اليوم بحوالي ثلاثين سنة ما كانوا يستوعبون ما سيقوم به فدائيُّو المحبة المنفتحون على مختلف أنحاء العالم يومًا ما، غير أن المنصفين يقدِّرون اليوم تلك الخدمات التي يضطلع بها مَنْ سافروا إلى ما يقرب من مائة وسبعين دولة في العالم وكأنهم سفراء فخريّون.. ولذلك فربما تتعذّر الآن رؤية المستقبل المتوقّع بعد حوالي خمس وعشرين أو ثلاثين سنة، فإن تم الحفاظ على الصفاء والصدق المتوفر في أول العمل وعلى القِوَام والمنهَج والإبقاء على روح التضحية والفداء، وعدم التشوّف لأي شيء، فيُتوقع أن تعيش الأرض قاطبةً انبعاثًا جديدًا فريدًا.
كذلك ينبغي لنا ألاّ ننسى أن بعض الخدمات التي استعمل الله تعالى لها أناسًا أدَّوها في الماضي حقّ الأداء فَمنَّ عليهم بالنجاحات المتعددة، لَتُعتَبَرُ هي أكثر الأدلة والبراهين إقناعًا وتأييدًا للخدمات التي سيستعمل فيها آخرين والنجاحاتِ التي سيوفقهم إليها مستقبلاً.. فليس ثمة عائق يحول دون أن تتحقق اليوم وغدًا أيضًا، تلك الأمور التي تحققت بالأمس، غير أنّ المهم هو أنْ نتمكن من أدائها على النحو الذي قدمه سادتنا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، وأن نتمثل القوام والمنهج الذي تمثّلوه، وأن نكون فاعلين ونشطين دون أن نَبْلَى أو نَضعُف، وأن نتمكنَ من إنتاج المشاريع دائمًا، ونستخدم جميع الإمكانيات التي لدينا من أجل تنفيذ هذه المشاريع والخطط.
(*) نشر هذا المقال في كتاب الجرة المشروخة 16، تحت عنوان “Asırlardır Tahribe Uğramış Kalenin Tamiri”. الترجمة عن التركية: هيئة التحرير.
الهوامش
(1) عبد الحق حامد طرخان (1851-1937م)، أديب وشاعر تركي.
(2) ضياء باشا (1825-1880م)، شاعر تركي، وكان من دعاة التجديد، له ديوانان “ظفرنامه” و”خرابات” في ثلاثة مجلدات.
(3) محمد عاكف أَرْصُويْ (1873-1936م)، من أكبر شعراء الأدب التركي المعاصر، وهو ناظم النشيد الوطني التركي.