إنَّ الباحث الدَّرِبَ هو الذي يَرُومَ الأصلَ الذي بُنِي عليه الكلامُ العالي عموما وكلامُ الله تعالى خصوصا؛ والذي هو الالتفات إلى مغارس الألفاظ، ومنابع الأفكار، واستنفار مضمرات الكلمات المبهمة المُنْدَسَة في أجراس الحروف، واستنطاق طرائق أبنيتها، مما تتناسل فيه الفكرة من الفكرة، وتتوالد فيه المعاني من المعاني، وتتنامى فيه الدلالات وتتغازر وتتكاثر حتى يراها صاحب الحس المرهف مع تعاضدها واجتماعها مُتَشظِّية منتشرة مشتتة مفرقة مُشعشعة الظلال؛ مع كونها تجري على نظام من الإبداع عجيب.
والآيات التي نَدُقُّ أبوابها في هذه المحاضرات من هذا الأصل الذي هو معرفة المعاني المُسْتَكِنَّة في الكلمات، والتدسس على مسالك الوصول إلى دقائقها وخوافيها، وليس فيها من قانون البلاغة والفصاحة إلا حرف تُثْبِتُه وحرف تَمْحُوه، أو لفظ تقدمه ولفظ تؤخره، وغير ذلك مما غمغمت به تراكيب الكتاب العزيز غمغمة تائهة لا يَقْنِصُها إلا صاحبُ القلب الواعي، ولن يستقيم ذلك إلا بمزيد من الجهد والصبر والمكابدة والانقطاع، وليس في الدنيا شيء له قيمة إلا وهو مؤسس على مثل هذا.
أمَّا هؤلاء الذين يستقبلون كلام الله بعقلٍ غشيته غيبوبة مُسكرة، وعينٍ نسج الليل عليها خيوطه، وألقى عليها سدوله فلن يرجعوا من كلامه -سبحانه- إلا برنين الحروف، وترجيع الألفاظ، وحَسْوِ كأس لذة الترديد التي لا تزال نفوسهم نَزَّاعَةً إليها من غير تفنن فيها، أو إحساس بدبيبها في قلوبهم.
ولو أنَّ صبحَ كلامِ الله انبلج لعيون هؤلاء العَجْلَى فأبصروا نوره؛ لتفجرت في نفوسهم ينابيع الإحساس به، ولو نهضت خطراته من مَجَاثِمِهَا فَأَمَّتْ قلوبهم -(أمَّ: قصدَ، ومنه ولا آمّين البيت الحرام)- لاهتزت وانتعشت ونشطت وذكت، ولأسكرها ما ذاقته من حقائق أسراره المصونة، ونفائس مخبآته المكنونة، ولَبَقِيَت هذه الدررُ الغوالي مختالة بما فيها ما بقيت في هذه الأمة نفوس سامية تحس بالجمال السامي، ويختلبها البيان الصادق.
فاللهَّ أسألُ – وهو خير مسؤول- أن يُنْهِضَنا وإياكم وإياكنَّ بهذه الآيات القوية السخية النقية، الفَوَّارة المَوَّارة الزَّخَّارة، وأنْ يَنْكُتَ لنا دقائقه ودفائنه؛ فتتجدد معانيه في نفوسنا تجدد الليل والنهار، وألا يجعلنا ممن يغسلون القرآن بألسنتهم، ويذهبون بمائه ورونقه.