عرف الإنسان التوقيت في شؤون حياته منذ الآف السنين، فالساعة كانت الأداة التي يتعرف بها على الوقت، لكن هذه الساعة ليست الوحيدة التي عرفها، فهناك ساعة أقدم منها بكثير وهي أعجب ساعة في الكون: إنها الساعة البيولوجية –Biological clock- وهذه الساعة تدق في أعماق جميع الكائنات الحية، حيث تحدد دورات حياتها بمهارة ودقة عالية، ولولاها لانقرضت صور كثيرة من الحياة، ولحلت الفوضى في هذا الكوكب.
هذه الساعة تحملها الكائنات الحية في خلاياها وانسجتها، لكن لا أحد يستطيع تحديد موقعها بصورة قاطعة ومؤكدة حتى الآن. ومن قديم الزمان، أيقن الإنسان أن الكون منسق طبقًا لقوانين إلهية صارمة لا يتطرق لها الخطأ، وأخيرًا جدًا اكتشف الإنسان أنه يوجد في جسمه هو الأخر ساعة تحكم حركته وحركة كل شيء فيه، لذلك اكتشف الإنسان أن أجهزة جسمه تعمل وفقًا لإيقاع معين هو “الإيقاع البيولوجي”، فكل عضو في جسمنا له إيقاع معين يسير عليه دون خلل، ولوحظ أن هناك (دورة معينة) للأحلام تتم كل 90 دقيقة، أما النشاط اليومي فيتبع دورة الـ24 ساعة، والدورة الشهرية للنساء تحدث كل 27 يومًا، حتى العواطف وبرأي العالم (ليبر) أن لها دورة معينة كل 27.5 يوما؛ أي توازي تقريبًا الشهر القمري، ولاحظ أيضا أن محاولات الانتحار أو الاعتداء على الأخرين تتركز في ظهور القمر كاملاً في السماء، لذلك أصبح الرياضيين يتبعون في أسفارهم ساعة البلد المضيف قبل السفر بأسبوع حتى يتسنى لهم فرصة ضبط ساعتهم الداخلية قبل الدخول في المسابقات، وأصبح الدبلوماسيون ينتظرون مدة أسبوع للتكيف قبل اتخاذ القرارات المهمة.
ولوحظ أيضا أن معظم الناس يفضلون السفر من الشرق إلى الغرب عن السفر من الغرب إلى الشرق لأنه من السهل أن يناموا في وقت متأخر ليلة بعد الأخرى من النوم أكثر تبكيرًا ليلة بعد الأخرى.
ضبط الساعة الداخلية
يتم ضبطها من خلال عملية التناغم على الإيقاع اليومي –24 ساعة– وسمي هذا الإيقاع (بالسيركاديان)، ويرى معظم العلماء أن هذا الإيقاع موجود في كل خلية من خلايا الجسم في الظروف الثابتة، حيث أن هناك نوعين من السر: النهاري والليلي، ويختلفان في أنهما يستعملان مؤثرات خارجية تختلف لكل منهما، لتنظيم الإيقاع اليومي الداخلي، ومن دون هذه المؤثرات الخارجية، الإنسان يتبع ايقاعًا مدته (24 ساعة)، وفي حال عدم وجود المؤثرات الخارجية يحصل عدم ضبط تام للإيقاع بحدوث فرق عدة دقائق يوميًّا بالزيادة أو النقصان، وتسمى هذه الظاهرة “الانسياب الحر”، حيث استعمل العلماء هذه الملحوظة في تفسير حدوث الأرق في بعض حالات الاكتئاب، فعندما يكتئب المريض يبدأ في فقدان الاهتمام بالمؤثرات الخارجية ويبدأ الزمن بالنسبة اليه يمر في حالة انسياب حر.
ولوحظ أيضًا، أن غالبية الأشخاص لديهم القدرة على ضبط ساعتهم الداخلية للاستيقاظ مبكرًا قبل رنين جرس المنبه في الصباح، لهذا حيرت هذه الساعة الحكماء والفلاسفة منذ قديم الزمان، فالفيلسوف اليوناني (أرسطو) أشار إليها حين طرح سؤالاً أثار ولعه وهو:
“لماذا تنتفخ أنثى قنفذ البحر كلما أصبح القمر بدرا كل شهر؟”، وجاء بعده أخر ليسأل: “لماذا تتحرك أوراق شجر التمر الهندي على مدار ساعات اليوم بنظام دقيق؟”، وجاء بعدهما علماء أخرون يطرحون ذات الأسئلة الحائرة عن الطبيعة مما حفز العديد من العلماء للسبر والكشف عن خفاياها وأسرارها.
منذ أكثر من نصف قرن نجح العالم البريطاني “كلود تومسون” في سبر الأمور الغامضة لهذه الظاهرة العجيبة، حيث انتقل من ميدان الأسئلة الحائرة إلى أفاق جديدة ورحبة أتاحت للعلماء من بعده، الأقتراب أكثر فأكثر من أسرار هذه الساعة البيولوجية المثيرة، وظهور حقائق غريبة وكثيرة تؤكد أن كل كائن حي يحمل بداخله ساعة خاصة به، تشير إلى مواقيت محددة في ضبط نشاطه وتنظيم دورات حياته بدقة متناهية.
وهنا العلماء يتلاعبون بهذه الساعة، فيقدمونها ويؤخرونها بوسائل علمية لمعرفة أثر اختلال الوقت في دورة حياة الكائنات الحية حتى امتد هذا التلاعب ليصل حياة الانسان نفسه.
يقول العلماء: إن هذه الساعة البيولوجية (خلية عصبية) في حجم حبة الرمل داخل المخ، وتربطها بالعين شبكة من الأعصاب تقوم بتوصيل الاحساسات المختلفة بأوقات اليوم – الضوء والظلام – إلى المخ وتنظيم الحركة الهرمونية للجسم، فتنشط هرمونات النمو ليلاً أثناء النوم لتزداد نسبة (الادرينالين) عند الاستيقاظ. وقد أثبتت التجارب والأبحاث تأثير الساعة البيولوجية في جسم الانسان في الاعمال التي يؤديها على مدار اليوم، وان لكل عمل له وقت محدد يكون الإنسان في أفضل حالاته عندما يمارسه، فساعات الصباح أفضل أوقات (الحب)، اذ تكون المعدلات الهرمونية في ذروتها، وساعات منتصف الصباح هي من أفضل الأوقات (للتركيز الذهني)، لأن هذا الوقت هو الأنسب للمذاكرة والأعمال الذهنية والتفكير لاتخاذ القرارات، وكما أثبتت هذه الأبحاث أن ذاكرة الإنسان تبقى في ذروة نشاطها من منتصف الليل حتى التاسعة صباحًا، أما ساعات الظهيرة فهي افضل الأوقات للعمل والاجتماعات والأعمال المنزلية للنساء، بينما ساعات ما بعد الظهيرة هي أقل أوقات اليوم للإحساس بالألم وأفضل الأوقات للنوم والراحة، لأن الايقاعات الطبيعية للجسم في هذا الوقت تجعل الإنسان يشعر بالرغبة في النوم، أما أوقات ما بعد الخامسة مساء فهي الأفضل لممارسة الرياضة.
لم تقتصر الدراسات والأبحاث على هذه الساعة البيولوجية فقط على الإنسان، بل أيضًا قام العلماء (الألمان) بدراسة علمية عن علاقة التكاثر بعوامل البيئة، كدرجات الحرارة وعدد ساعات بقاء ضوء الشمس خلال النهار، وانتهت هذه الدراسة إلى نتائج أبرزها : أن فرص الحمل عند النساء تزداد خلال الأشهر التي تظل فيها الشمس مشرقة لمدة 12 ساعة في اليوم، كما أكدت الدراسات الاجتماعية والميدانية التي أجراها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاءات بالقاهرة أن السعادة الزوجية لها مواسم معينة.
علم الإيقاعات البيولوجية
هذا العلم مع كونه جديد، إلا أنه يتطور بسرعة فائقة بفضل الدراسات والتجارب المتخصصة وهو ليس علمًا أساسيًّا فحسب، بل ينفذ مباشرة إلى تطبيقاته العلمية أيضًا، ما يمكن الأطباء من إعطاء وصفات أكثر دقة لتناول الدواء في أوقاته المناسبة والمعينة، كما أن هذا العلم يعطي حلولاً جذرية حول الإيقاع المدرسي وضرورة مجاراته للإيقاع البيولوجي، خصوصًا عند الطفل الذي عادة نجبره على القراءة والمذاكرة خلال ساعات النهار والتي يكون خلالها غير قادر على أن يستوعب شيئًا على الاطلاق.
كما بدأ الأطباء يفهمون ظهور أمراض معينة مثل: حدوث الأزمات القلبية بمعدل أكبر في أخر ساعات الليل أو بداية الصباح الباكر، حيث هناك تخثرًا مفرطًا في الدم نحو الثامنة صباحًا، نتيجة إيقاع جسمي عادي، وكذلك تقلص حجم القصبة الهوائية في الليل عادة وهذا ما يفسر الربو الليلي.
وبفضل علم الايقاعات البيولوجية تمكن فريق من الأطباء الأمريكيين النفسيين من معالجة عدد من حالات الأرق المزمن عند كثير ممن لم يفلحوا في تعديل ساعتهم البيولوجية، إما لظروف عملها أو نتيجة مشاكل اجتماعية.
وفي الطب النفسي، هناك بعض حالات الاكتئاب والانهيار العصبي والتي تتميز بتغير كثير في الايقاعات البيولوجية، خصوصًا إيقاع العمل الراحة والايقاع الحراري، ويعالج المصابون بهذه الحالات “بتطويل” نهارهم أو “تقصيره”، ومن الوسائل العلاجية التي تعيد إيقاعاتهم البيولوجية الطبيعية وضبطها هو في تعرضهم لنور مكثف ولامع جدًا للحد من إفراز هرمون “الميلاتونين” في الغدة الصنوبرية الموجودة في الدماغ والتي تنشط كثيرًا في الظلام.
هجرة الساعة البيولوجية
يعتبر العلماء هجرة الحيوانات لغزًا غامضًا، حيث اكتشفوا أنها تتبع توقيت الساعة البيولوجية في داخلها، ويؤكد العلماء أن هذه الساعة تحدث مواقيت بداية رحلة الهجرة للطيور ونهايتها.
وللنبات أيضًا ساعته البيولوجية الخاصة به، حيث لاحظ العالم (جاك دي ميران) أن أحد أنواع نبات (السنط) يفتح أوراقه نهارًا لاستقبال الشمس، حتى إذا ما أقبل الليل أغلقها، لذلك، قام بنقل هذا النبات إلى مكان مظلم لا تدخله الشمس ليبقى معزولاً عن أية عوامل بيئية لها علاقة بدورة الليل والنهار، ليستنتج من تجربته ودراسته : “ليس من الضروري ابدا أن يكون النبات في الشمس أو الهواء الطلق لكي يفتح أوراقه ويغلقها، بل إن الظاهرة نفسها تحدث لو وضع في الظلام عدة أيام متتالية، فهو يفتح أوراقه عندما يشرق ضوء الشمس على الرغم أنه معزول تماما عن ظلام الليل وضوء النهار، فهو يحس بالشمس من دون أن يراها”. سبحان الله في خلقه، وكل يمشي ويحيا وفق إيقاعه الخاص، ليطرز آية رائعة الجمال من آيات الخلاق العظيم.