أثار موضوع الصلة بين العلم والدين الكثير من النقاشات والصراعات عبر تاريخ البشرية الطويل، فهو جدال قديم قدم الصراع بين العقل والإيمان، وتدافعٌ تغيرت مظاهره حسب الزمان والمكان، وازدادت حدته وتجددت بعد التطورات الهائلة في المعرفة والثورة العلمية الكبرى التي عرفتها الحضارة الغربية، وهذا ما جعل علماء الغرب يفكرون ويطيلون التفكير في هذه الصلة، حتى أضحى هذا التفكير سبيلهم إلى صنع تاريخ لهم جديد، تاريخ أضفوا عليه من جميل الأوصاف ما أضفوا، وانتهى الأمر عندهم، بعد هذا التفكير الطويل، إلى فصل الدين عن العلم وعن كل مجالات الحياة، ونعتهم له بالجفاء العلمي وبعجزه عن مسايرة التقدم العلمي ووضعه في الرفوف باعتباره من مخلفات الماضي لتنفرد بعد ذلك العلوم بالقيادة والريادة.
ما حصل في الغرب لا يمكن تنزيله على المجتمع الإسلامي، لأن العلاقة بين الدين والعلم في الأصل ليست علاقة صراع، فالصراع نشأ بين علماء الغرب وأرباب الكنيسة، أو قل بين الفكر العلمي الغربي والفكر الديني الكنسي، وقد ذهب طه عبد الرحمن إلى أننا لم نفكر كما فكر غيرنا في هذه الصلة، كما لم نطل التفكير فيها كما أطالوا، وذلك لخلو تفكيرنا ومخرجاته من الإبداع، إذ لا تفكير بحق إلا مع وجود الإبداع، وأكد أن مفكرينا استوردوا هذه الأزمة المزعومة واستنسخوا هذا الصراع، واكتفوا بترديد ما ردده غيرهم في شأن هذه العلاقة، وقرر طه بعد ذلك أن ثمة ثلاثة اتجاهات حول طبيعة العلاقة بين العلم والدين:
الاتجاه الأول: يدّعي أصحابه أن هناك تناقضًا صريحًا بين العلم والدين؛ تناقض لا يقبل الترجيح ولا التفريق، ولا مخرج منه إلا بانتصار أحدهما على الآخر، فمن غير الممكن تعايشهما وبقاؤهما معًا، وقد حُسم هذا الصراع في الفكر الغربي لصالح العلم، مدعين في ذلك أن العلم سبيل التقدم، وأن سيادة الدين سبب التأخر، فالتفكير الديني مرحلة فكرية بائدة، وهو ما يترتب عنه في الأخير صرف الدين عن العلم وإقصاؤه تماما عن مضمار المعرفة.
وانساقت طائفة من بني جلدتنا مع أنصار هذا الاتجاه وانتصرت لدعواهم، ودعت إلى الحذو حذوهم واتباع منهجهم من باب تقليد المتأخر للمتقدم علميًّا وحضاريًّا، بعيدًا عن التفكير والتحليل العلمي الصحيح واستنادًا فقط إلى الواقع، حجتهم في ذلك أن الغرب تقدم ونحن تأخرنا ومرد ذلك التقدم والتأخر هو طبيعة العلاقة بين العلم والدين، دون الانتباه إلى أن الأزمة التي نشأت في الغرب بين العلم والدين شديدة الخصوصية، ولم يشهد التاريخ الإسلامي مثيلاً لها من قبل، وحقيقة الدين عندهم غير حقيقته عندنا، فلا خلاف بين الدين الحق والعلم الصحيح، بل لقد عرفت العلوم في ظل الدين الإسلامي تقدمًا وازدهارًا لا مثيل له، حيث أحدث الدين نقلة نوعية في التقدم العلمي وتم تجاوز التفسيرات الخرافية لظواهر الكون إلى التفسيرات العلمية، فأسباب الصراع والأزمة بين العلم والدين عندهم في الغرب لا وجود لها البتة عندنا في البيئة الإسلامية، كما أن الفجوة بيننا وبين سوانا في هذا الأمر لا هي حفرة تُردم ولا هي هوة تُعبر.
الاتجاه الثاني: يدعي أصحابه أن العلم والدين متمايزان، بمعنى أنهما منفصلان ومختلفان تماما، “فما يشتغل به العلم لا يشتغل به الدين، وما يشتغل به الدين لا يشتغل به العلم”، لذا يجب التعامل معهما على أساس أنهما مستقلان عن بعضهما البعض، فلكل منهما مناهج وغايات ومواضيع لا يختص بها الآخر؛ فميدان اشتغال العلم هو المعرفة والحقيقة، ويستند في بحثه على المنهج التجريبي والاستدلال العقلي والتحليل المنطقي، بينما موضوع اشتغال الدين هو الشعور والحدس ويأخذ بمنهج التسليم القلبي لما تتضمنه النصوص المنزلة، وبذلك “فلا النقد العلمي بمقدوره أن ينال من الدين، ولا السلطة الدينية بمقدورها أن تنال من العلم”، وهو ما أفضى في الأخير إلى تقديم العلم عن الدين وتنزيله رتبة أعلى منه.
ووُجد من بين جلدتنا أتباع مقلدون لأنصار هذا الاتجاه يرددون أقوالهم ويتحججون بحججهم، ويؤكدون أن لا سبيل للمجتمع إلى التقدم والازدهار وبلوغ الحياد الفكري والموضوعية العلمية، إلا بالاعتماد على الاستدلال العقلي على شرطهم، لأن -في نظرهم- الدين ذاتي بينما العلم موضوعي، وأكد طه أنهم وجدوا في تراثنا سندًا لهم متمثل في ابن رشد الذي قرر وجوب الفصل بين العلم والدين بدعوى أن العلم طريقه البرهان الذي يناسب العلماء وأن الدين طريقه الإيمان الذي يناسب العوام، وهنا نبه طه عبد الرحمن أنصار هذا الاتجاه إلى الارتباط القوي بين البرهان والإيمان وعدم قدرة أي منهما الاستقلال عن الآخر والاستغناء عنه.
الاتجاه الثالث: يدعي أنصاره أن العلم والدين متباينان، وينفون كونهما متناقضين أو متمايزين، فهما يشتركان في الموضوع المتناول ولكن يختلفان في جهة البحث، حيث إن الاعتقاد في العلم غير الاعتقاد في الدين، والمعرفة في هذا غير المعرفة في ذاك، والفعل هنا غير الفعل هناك، فيكون العلم والدين بمنزلة شكلين متباينين من أشكال الحياة، بل بمنزلة عالمين اثنين لا مجال للمقارنة بينهما ولا لمقايسة أحدهما بالآخر، وترتب في الأخير عن هذا الاتجاه جعل العلم في نفس رتبة الدين.
ووجد هذا الاتجاه أتباعًا مقلدين له في مجتمعنا الإسلامي، يدعون ما يدعي، مستندين في ذلك إلى “ما قاله بعض أسلافنا من كون الدين يعبر عن الأشياء بلغة المجاز والإشارة، في حين أن العلم يعبر عن هذه الأشياء بلغة الحقيقة والعبارة”، بمعنى لا يصح الحكم على الإشارة بما يجب في حق العبارة كما لا يصح الحكم على العبارة بما يجب في حق الإشارة، فهو تباين شبيه بتباين لغة الشعر ولغة المنطق، واعترض طه على أنصار هذا الاتجاه بقوله: “وما درى هؤلاء أن الإشارة ليست درجة واحدة، وإنما درجات كثيرة، وأن العبارة هي الأخرى ليست درجة واحدة وإنما درجات مختلفة، وحينئذ، لا مفر من أن يتعذر عليهم الفصل في الأقوال التي تنزل الدرجات الوسطى هل وردت على وجه الإشارة أم على وجه العبارة”.
اتجاهات ثلاثة وقفها الغرب حول الصلة بين العلم والدين، الأول يفضي إلى صرف الدين والثاني يقدم العلم عليه والثالث ينزل العلم في رتبة الدين، اتبعناهم فيها وردّدنا أقاويلهم دون تبصر ودون بحث عن جذور هذه المواقف، وكأننا في استغلاق لا نستطيع الخروج منه.
وفي محاولة منه لمعالجة آفة التقليد التي وقع فيها مفكرونا فيما يخص الصلة بين العلم والدين وإزالة هذا الاستغلاق الذي وقعوا فيه، أرجع طه عبد الرحمن جذور هذه المواقف الثلاثة إلى تصورين اثنين؛ أحدهما “اختزال العلم في علوم الطبيعة”، وثانيهما “اختزال الدين في أحوال الإيمان”.
اعترض طه عبد الرحمن على التصور الأول (اختزال العلم في علوم الطبيعة) مرتكزًا على مبدأين اثنين يمنعان هذا الاختزال وهما:
المبدأ الأول: هو “مبدأ مراتب العقل”، فالعقل عند طه عبد الرحمن مراتب متعددة ومتدرجة بعضها أعقل من بعض، “وحيثما وُجدت رتبة من هذه الرتب العقلية، فثمة علم على قدرها”، فإذا فاق العقل رتبة العقل المتعلق بعلوم الطبيعة يصبح العلم فوق العلم الطبيعي، وبهذا نقض طه هذا التصور بقاعدة لهذا المبدأ مفادها أن “العلم أوسع من أن يستوعبه العلم الطبيعي وحده”.
المبدأ الثاني: هو “مبدأ استكمال العلم”، وبيانه أن الأصل في كل علم طلب الكمال، وهو ما يقتضي التوسل بعلم أعلى وأرقى لتجاوز آفات وحدود العلم الذي دونه، “وهكذا، فالعلم الطبيعي لا تذهب عنه مناقصه ويكتمل حقا إلا بعلم طبيعي يسمو عليه”.
كما اعترض على التصور الثاني -اختزال الدين في أحوال الإيمان- بالاستناد إلى مبدأين اثنين يمنعان هذا الاختزال وهما:
المبدأ الأول: هو “مبدأ تعدد شعب الحياة”، فأصل الدين عند طه عبد الرحمن هو الجواب على سؤال: “كيف أحيا؟”؛ وبذلك يكون الأصل في الدين هو الحياة الطيبة، مستشهدا في ذلك بقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(النحل:97)، والحياة الطيبة شعب متعددة، أجملها طه عبد الرحمن في ثلاث كبرى وهي: “شعبة الإيمان”، وتدخل فيها كل الاعتقادات، ثم “شعبة العلم”، وتدخل فيها كل المعارف، ثم “شعبة العمل”، وتدخل فيها كل الأفعال، ولا حياة طيبة –يقرر طه عبد الرحمن- إلا بتكامل هذه الشعب فيما بينها، فالفرد منا يعيش بها جميعًا إيمانًا وعلمًا وعملاً، وهو ما يقتضي التداخل والتكامل بين الشعب الثلاث؛ الإيمان والعلم والعمل، وهكذا، صاغ طه عبد الرحمن قاعدة لهذا المبدأ مفادها أن الدين أوسع من أن تستوعبه حال الإيمان وحدها”.
المبدأ الثاني: الذي استند إليه طه عبد الرحمن في الاعتراض على اختزال الدين في الإيمان هو “مبدأ استكمال الشعبة”، وبيان هذا المبدأ عنده هو أن كل شعبة من شعب الحياة تطمح إلى الكمال، وهو ما لا يمكن تحصيله إلا بالتداخل والتكامل مع الشعبتين الأخريين، “فلا بد إذن لكل شعبة من أن تظل موصولة بغيرها من شعب الحياة، وهكذا، فالشعبة الواحدة لا تبلغ غاياتها وتكتمل حقا إلا بباقي الشعب”.
بعد التقريرات السابقة التي أبطل بها طه عبد الرحمن التصورين الذين يقضيان باختزال العلم في العلوم الطبيعية واختزال الدين في الإيمان، اجتهد، اجتهادًا يطبعه التجديد والإبداع، في بيان وتوضيح معالم الصلة بين العلم والدين وهي كما يلي:
أ – أن مفهوم “العلم” يصبح، بمقتضى “مبدأ مراتب العقل”، أوسع من المفهوم المتداول “للعلم”؛ كما أن كل علم يصبح، بمقتضى “مبدأ استكمال العلم”، محتاجا إلى ما فوقه من العلوم.
ب- أن مفهوم “الدين” يغدو، بموجب “مبدأ تعدد شعب الحياة”، أوسع من المفهوم المتداول للدين؛ كما أن كل شعبة تغدو، بموجب “مبدأ استكمال الشعبة”، محتاجة إلى ما يناظرها من الشعب.
هذا التوسع الذي حصل في مفهومي العلم والدين عند طه عبد الرحمن أفضى إلى نتائج أساسية حصرها في أربع:
الأولى: أن العلم لا يتناقض مع الدين ولا يتمايز معه ولا يتباين؛ إنما العلاقة بينهما علاقة تداخل، حيث يصير العلم بموجبها أحد أجزاء الدين الثلاثة إلى جانب الإيمان والعمل.
الثانية: أن العلم، خلافا للتصورات السابقة، لا يرِد في ترتيب واحد مع الدين، ولا في رتبة أعلى منه، ولا في نفس الرتبة التي ينزلها الدين، وإنما العلم «ينزل رتبة أدنى منه كما ينزل الجزء أدنى من الكل، إذ إن العلم يدخل في الدين دخول الإيمان والعمل فيه.
الثالثة: أن العلوم التي هي جزء من الدين لا تقتصر فقط على ما يسمى بالعلوم الدينية، بل تشمل كل العلوم؛ الدينية والدنيوية، فكل علم منضبط بالمبدأين المذكورين: “مبدأ مراتب العقل” و”مبدأ استكمال العلم” يصح أن يتعبد ويتقرب به، أي “يتدين به”.
الرابعة: أن التطور العلمي يزيد في توسع رقعة الدين وفي تأثيره وقوته، عكس ما هو متداول عن أهل الحداثة الغربية، ولبيان ذلك يقول طه عبد الرحمن أن العلوم، لما كانت جزءا داخلا في بنية الدين نفسها، كانت الأطوار التي تتقلب فيها والتي يفضُل لاحقها سابقها تفتح في الدين آفاقا معرفية غير مسبوقة وترقى بفهمنا له درجات على قدر هذه الأطوار، بل إنها تتعدى ذلك إلى كونها تجدد قدرتنا على التدين وتنوع سبل تحققه لدينا.
وخلاصة الأمر أنه ليس في الإسلام صراع بين الدين والعلم، وليس فيه سبب يؤدي إلى إقصائه عن مضمار المعرفة، بل الإسلام منهج شامل للدنيا والدين، على عكس المنهج الغربي القاصر الذي يقوم على تأليه العقل، وتحميل العلم ما لا طاقة له به، وتضخيمه ليشمل كل أسرار الكون، وقد فتح الإسلام الباب على مصراعيه للعلم والنظر، كما حثّ على البحث العلمي ورفع من قدر العلماء، وأشار القرآن الكريم في مناسبات عديدة إلى مناهج البحث العلمي العقلية والحسية والنقلية، كما أنه بتوجيه من الوحي والتزام بتعاليمه قامت الحضارة الإسلامية والنهضة العلمية التي اكتشف تحت ظلها العلماء المنهج العلمي الاستقرائي، وهو المنهج الذي طبقوه في أبحاثهم العلمية وحققوا بواسطته إنجازات علمية كبرى في مختلف المجالات.
فصلة العلم بالدين من منظور طه عبد الرحمن هي صلة تداخل يكون العلم فيها جزءا من الدين، وهو ما يؤكد أن الفكر الذي يفصل العلم عن الدين هو فكر دخيل على الأمة الإسلامية استورده بعض المفكرين العرب المستغربين ودافعوا عنه باستماتة كبيرة واعتبروه المنقذ من التخلف الفكري الذي تعاني منه الأمة، فهو فكر موطنه الغرب ولوجوده هناك مبررات وقناعات فكرية شديدة الصلة ببيئتها، حيث جاء كرد فعل على تسلط أرباب الكنيسة وعلى بعض المظاهر السلبية التي يعرفها الدين الكنسي، فكان الاصطدام مع الكنيسة وتصدع سلطتها، حيث وجد العلماء أنفسهم أمام منعطف إما التوافق والخضوع لتفسيرات الكنيسة لظواهر الوجود أو الاصطدام معها ورفع راية العلم والتقدم العلمي خارج عباءتها، فالفكر الكنسي عاق التقدم العلمي واحتكر المعرفة، فكل اكتشاف علمي يجب أن يمر عبر قناته، فكانت الكنيسة بمثابة الوسيط بين الناس والواقع، وتم القضاء على هذا الوسيط وشرعت الأبواب أمام آليات جديدة لتشغيل العقل بعيدا عنه، ومع الاكتشافات العلمية المتسارعة بدأ ينمو عند بعض العلماء تصور وصول العلم درجة من القوة يستطيع من خلالها فك أسرار هذا الكون والسيطرة عليه وبالتالي الاستغناء عن الإله وتأليه الإنسان.
أما منظور التداخل الذي قال به طه عبد الرحمن والذي يكون فيه العلم أحد أجزاء الدين الثلاثة فيلزم بحسبه «أن نقدم الدين على العلم، لا تقديم الفاضل على المفضول، وإنما تقديم الكل على الجزء، كما يلزم بحسبه أن ندخل في الدين كل العلوم، لا دخول التابع في المتبوع، وإنما دخول العنصر في المجموع»، ومثل لذلك بالاكتشافات العلمية التي تشهد بصحة أخبار الوحي وأحكامه وتزيد من منسوب التفكر والاعتبار.