الوباء بشكل عام، ما هو إلا امتحان لمعرفة مدى مناعتنا وقدرتنا على تجاوز المحن، والمحنة هنا تتجاوز كل ما هو مادي إلى ما هو نفسي، لأن توهم فكرة المرض أخطر من عيش تجربة المرض بكثير. وهو نداء مجهول يدعونا إلى عقد الصلح مع الآخر؛ أن أحيا في العالم لا يعنى ذلك أنني سأحيا بدون الآخر، وإلا ما الذي يجعلني أستشعر قيمتي.. والأكيد أنني بدون هذا الغير لا يمكنني معرفة من أنا، أي أن وجودي ليس وجودًا ماديًّا وحسب، بل هو وجود تفاعلي يشترط توفر الأنا الذي ليس أنا، بهذا المعنى تصبح ذاتي أمام ذات أخرى، أقيس عليها محاسني وعيوبي، وكذلك تفعل الذات الأخرى بدورها.. الأمر هنا أشبه ما يكون بالعلاقة التي تجمع الطفل بالمرآة حسب التحليل النفسي عند جاك لاكان، بحيث يتم للطفل التعرف على ذاته من خلالها. إننا وإن اختلفنا فيما بيننا، إلا أننا نعيش كلنا في عالم واحد، فشرط العيش هنا هو نحن بدل أنا، لكننا ننسى ذلك وربما نتناساه وهذا ما يجعل القضية أكثر غموضًا.
وُسم الإنسان بسمة الأنانية والعيش في معزل عن الآخر، فكان أن تشكلت بينهم الحواجز والمسافات. وأضحى الواحد يرمق الآخر بنظرة الحقد والعداوة، لذلك طُبع تاريخ الإنسانية بالصراع واللاتوافق. أن أعيش في العالم؛ الأمر مشروط بضرورة الانتماء لطرف ما -وإن حصل العكس نكون أمام حالة مرضية أو شاذة- كأننا أمام إنسانيات وليست إنسانية واحدة، وهذا ما لا يتماشى وجوهر الخلق الذي يهدف إلى التعاون بوضع خطة للعيش معًا.
عملاً بقاعدة أننا نحيا جميعًا وسنموت جميعًا، وانسجامًا مع تفشي وباء كورونا، تسلل إلينا وعي ما بضرورة مواجهته معًا، فالوضع أكبر من أن يواجهه الأفراد، كما أن خطورة هذا الوباء تكمن في أنه يعرف الانتشار كلما تهاون الأفراد في التصدي المشترك له، لقد شاءت الطبيعة -بعد مشيئة الله- أن تعطينا درسًا لائقًا بضرورة العيش المشترك، فعلى المستوى التاريخي لم تتوافق الإنسانية، إلا في الحالات التي يكون فيها العدو -خارجي أو طبيعي- الذي يتهدد الجميع.
من إرهاب التطرف إلى إرهاب كورونا
لا غرو في أن العالم ما قبل كورونا، عاش ظروفًا صعبة من حروب ومجاعات وكوارث طبيعية، غير أن ما شغل حيزًا مهمًّا من تاريخ ما قبل كورونا، هو التطرف الذي عانت من ويلاته العديد من البلدان، وهو الذي رسخ هاجس الخوف والهلع لدى فئة كبيرة من الناس، وهنا نتحدث عن التطرف الديني الذي راحت في سبيله العديد من الأرواح ولا زالت جروحه لم تلتئم بعد. ومن المؤكد حقًّا أنها ستترك في الذاكرة الجمعية ندوبًا لن يَمحوها التاريخ، وهو الشاهد على تكرار المآسي منذ كم سنة إلى اليوم.
لقد عاش العالم العديد من صور المحن، لكنها لم تزد الإنسان إلا مناعة وإصرارًا على مجابهة كل النوائب التي قد تجود بها الحياة.. من الأكيد أن التجارب الحياتية تكسب الإنسان المناعة على حد تعبير “سينيكا”، وهكذا كان على الإنسان أن ينتظم بفعل هذه الكوارث، فتاريخنا لا يحتفظ فقط بالصورة الجميلة بقدر ما يحتفظ كذلك بالعديد من المحطات السيئة.
إن القاسم المشترك ما بين التطرف الديني وفيروس كورونا، هو الخوف من المجهول والتوجس في كل لحظة، إنها حالة أشبه ما تكون بالوسواس القهري الذي يعاني منه المريض النفسي، بحيث يصبح له شك مفرط في كل شيء.. غير أن الاختلاف الحاصل ما بين التطرف الديني والفيروس، هو أن هذا الأخير أصبح بين ليلة وضحاها عدوًّ مشتركًا بين كل الشعوب، وهي وضعية قلما آل إليها الإنسان المعاصر، إذ ارتبط مسار الإنسانية بالصراع والعنف، فكان عليه انتظار هذه الجائحة التي أعادت الإنسان إلى أصله الأول؛ وهو حب الخير للغير، فكان أن حدث نوع من التعايش بفعل هذا الوباء، وهذا من حسنات الفيروس إن صح الحديث عن حسناته.
الوباء فرصة لتقدير الذات
شكل الوباء فرصة سانحة أمام الإنسان لإدراك قيمته بالعودة إلى الذات، فبعد أن فقد الإنسان البوصلة في زمننا الراهن، عاد إلى إحكام القبضة عليها من بوابة هذا الوباء الفتاك الذي أعاد للإنسان مصالحته مع ذاته، والأدهى من ذلك أنه تمكن من إدراك قيمته وأهميته في ظل هذا الوضع الذي أشكل على الإنسان تجاوزه.
في كتابه “فن العيش الحكيم” يقول “شوبنهاور”: “إن النعم الذاتية هي التي تدل بحضورها على توافر أسباب وموجبات السعادة، وتشمل الطبع النبيل والعقل الراجح والمزاج الرائق والنفس المرحة والجسم السليم. ومن أوجب الواجبات علينا أن نصون هذه النعم وننميها، بدل اللهاث وراء النعم الخارجية ومظاهر الشرف والأبهة”. فكل الرغبات التي يتطلع الإنسان إلى كسبها هي تسكنه على نحو ما، لكنه يجهلها أو يتجاهلها، وبالتالي فقط نحتاج إلى محن وفتن كبرى تعيد إلينا كل الوشائج التي تربطنا بذواتنا والتي ضيعناها.. نحتاج إلى إعادة تقييم النعم الذاتية حتى نقدر ذواتنا حق قدرها، بمعنى أن ما يتعلق بالذات هو الذي من المفترض أن يتغياه الإنسان، وطبعًا هذا لا يحدث إلا في الحالات التي نحقق فيها أكبر قدر ممكن من الوعي بقيمة من نحن. فمعرفة الذات هي الأخرى لا تتم من خارج الذات، تماشيًا مع قول سقراط: “اعرف نفسك بنفسك”. فأنا من يجد ربي عليّ أن أفهم ذاتي وليس الآخر، إننا لسنا أمام أخصائي التحليل النفسي بحيث يجلس المفحوص أمام المحلل النفسي، ليخبره عن أشياء يجهلها هو عن نفسه.
لقد كان على الإنسان انتظار مجيء هذا الوباء للوعي بمدى قيمة ذاته والعودة إلى تقدير الذات. فلا يختلف اثنان أننا استشعرنا والعالم بما لا مجال فيه للشك أننا نعيش غربة مع ذواتنا، فاهتماماتنا بتفاصيل العيش عرضتنا للتيه بشكل أو بآخر عن الجوهر الأساسي، وهو فهم الذات وبالتالي البحث عن المصالحة. ففي وقت الأزمة أصبحت ذات الإنسان هي أغلى ما يملك، وبالتالي نفتعل كل ما من شأنه أن يدعنا أحياء، ولأرسطو قولة بليغة في هذا الشأن: “الأشياء عارضة والطبيعة سرمدية”. ففي الوقت الذي استشعر فيه الإنسان خطر الموت، أصبحت كل الأشياء التي حققها والتي يرغب في تحقيقها، غير مرغوب فيها ولا تحمل أية قيمة. فالواقع أن الإنسان في المحنة، يستشعر قيمته، والموت باعتباره النهاية التي يخشاها بالرغم من إيمانه بحدوثها، تجعلنا نعيد النظر في تصوراتنا للعالم. فللموت -إذن- هذا الفضل، كونه يضع الإنسان أمام اختيارين لا ثالث لهما؛ فإما النجاة وإما الهلاك، “وتبدأ هذه الحقيقة، التي لا اسم لها سوى الموت، في إقلاق هؤلاء البشر الضعفاء”. الوباء شكل مظهرًا من مظاهر النقص في الوجود، وأعطى فرصة سانحة لربط الوشائج مع ذواتنا، وعليه “فالتعايش لا يتم خارج حدود أنفسنا بل داخلها”.
بما أننا “لا نرغب إلا في الأشياء التي تنقصنا” كما يقول أفلاطون، فإننا لا نعجب من أن الرغبات التي كنا بالأمس القريب نرغب فيها، قد انتفت أو عُلقت إلى أجل غير مسمى أمام رغبة العيش؛ فلا وجود لأي رغبة أكبر من الرغبة في الحياة. كما أننا في ظل هذا الوضع المأزوم، أدركنا أن ما ينقصنا حقًّا هو “نحن” بمعنى علاقتي مع الذوات الأخرى، أما الحاجات والرغبات الخارجية تبقى ثانوية بالمقارنة مع الذات والذات الأخرى، فكم من حاجة لسنا بحاجة إليها.
في نهاية المطاف تبقى هذه العودة محمودة، إنها تدخل في إطار رد الاعتبار للذات، فهي الأصل الذي وجب السعي من أجل الحفاظ عليه. وقد وعى الأنبياء والفلاسفة والمتصوفة قيمة الذات، لذا نجدهم حققوا تلك المصالحة مع ذواتهم، وهي دعوة إلى وجوب الاكتفاء بالذات، أي أن يجد المرء في ذاته كل ما يبتغيه: “فالسعادة هي من نصيب المكتفين بذواتهم”. كيف ما كانت الأسباب، تبقى لهذه المصالحة مع الذات دورها في إيجاد نوع من الاستقرار النفسي والاجتماعي؛ فقبولنا للآخرين ما هو إلا تأكيد لقبولنا لذواتنا والرضا عنها، فـ”كل الشرور مصدرها عدم الاختلاء إلى الذات والاكتفاء بالنفس”.
كورونا وأفق المشترك الإنساني
إن الانتقال من الأنا إلى نحن، أو التفكير في المشترك الإنساني، هو هم طال انتظاره حقيقة. فبالرغم من تزايد عدد الشعارات الدولية المطالبة بذلك، إلا أنه ظل مطلبًا تعذَّر على الإنسان تحقيقه اللهم في زمن الوباء؛ فأن يرتبط فعل المشترك الإنساني بوباء، كان من الأمور المستبعدة عن المخيال الإنساني، ولم يكن أكبر المتفائلين ليفكر في ذلك، لكن الذي حصل هو أنه -وبتفشي الوباء- انسلخ الكل عن أنانيته وأصبح يتملكه هاجس الآخر، ولنا في الحالة التي وصل إليها العالم اليوم أكبر دليل على ذلك. فالعديد من المبادرات أطلقت في العالم متجاوزة بذلك الحدود الجغرافية، وبالتالي فالطبيعة حققت ما عجز الإنسان عن تحقيقه، وهي إرادة مجهولة تدفع بالإنسان لفكرة العيش معًا، لاحتواء الآخر بالرغم من الاختلاف على مستوى الفكرة والمعتقد والجنس.. فدول لم تكن تسمح بالجهر بمعتقدات الآخر المخالف تملكها اليوم وعي بذلك، ودول كانت إلى الأمس القريب تعتبر نموذجًا للتحضر باتت اليوم تستنجد بدول أقل حظوة منها.. لقد أَوجد الوباء نوعًا من التمرد على القواعد التي وضعها البشر سلفًا، فلم يعترف بالقوة الاقتصادية ولا العلمية، لذلك تملك الإنسان هذا الشعور بالانتماء للإنسانية، وبالتالي مواجهته بـ”نحن”.
إن من حسنات الوباء، أنه وحد كل الشعوب وجعل الهاجس الوحيد والأوحد هو تجاوز هاته الأزمة، التي تشترط بدورها نوعًا من التوافق بين كل الشعوب. فمن الواضح أن الأزمة بهولها، لا يمكن أن يتجاوزها الأفراد، فهي هم مشترك بين بني الإنسان، وبالتالي العيش معا يفضي بنا إلى مواجهة الأزمة معًا، وهما شرطا المشترك الإنساني، فإما أن نموت جميعًا أو أن نحيا جميعًا، “وهكذا يجد التعايش مقامه المناسب وهو أن نلتقي الغير فيما أبعد من قدرة الأنا”.
ولما كان من الصعب على الإنسان “أن يكون الشخص الواحد موضوعًا للتقدير والحب في آن واحد”، كان عليه البحث عن الآخر ليضفي على وجوده الرونق المفقود، وهي فكرة تهدف إلى مد جسور التواصل والتفاعل بين بني الإنسان، وأضحت مطلبًا ملحًّا في وقتنا الراهن، الذي فيه ما فيه من السجالات والصراعات التي منبعها يعود إلى أصل واحد وهو التعصب (تعصب للفكرة-للمعتقد-للجنس). وبالتالي فالتعايش أصبح مسألة راهنية، ولعلنا اليوم أمام صور متعددة لتحقق هذا المطلب في أرض الواقع.. ففيروس كورونا، أسهم بشكل أو بآخر في تعميق الوشائج بين بني الإنسان، لمواجهة عدو واحد وهو الفيروس، وبالتالي تحقق الانتقال من الأنا إلى نحن، فما يهم الواحد فينا أصبح يهمنا جميعًا. لنقل -إذن- إن الإنسان يحنّ إلى الإنسان كلما كان حجم الخطر أكبر، أو في الوضعيات التي يكون فيها العدو واحدًا وهو الطبيعة والبحث عن السيادة (السطوة على الطبيعة).
إذن، يمكن اعتبار الوباء محطة من التاريخ تستوجب منا استخلاص الدروس والعبر، فإنسانية الإنسان فوق كل اعتبار، وهي دعوة لبداية عهد جديد يؤمن بضرورة الآخر.. فمتى تشكل لدينا الوعي بضرورة الغير، نصبح قادرين على تجاوز كل الأزمات كيف ما كانت طبيعتها. فالتفكير في العيش المشترك اليوم أضحى غاية مشتركة، وبالتالي وجب التفكير في إستراتيجيات استمرار هذه الغاية حتى بعد انتهاء هاته الأزمة، على اعتبار أنه ضرورة عيش لا يرتبط فقط بلحظية وزمن الوباء، وإنما بسيرورات الحياة.
إن التفكير فيما بعد كورونا، ما هو إلا محاولة للتخلص من رِبقة الحاضر ومن هذا القلق الوجودي الذي بات يتهددنا.. إننا لم نعد نقوى على العيش الآن بتفاصيله المملة والمقلقة، لذلك نبني وهم الانعتاق من شراك الفيروس وعناق غد أفضل قد يأتي أو لا يأتي، لكننا نأمله حقًّا.
(*) باحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية / المغرب.
المراجع
(1) فن العيش الحكيم، آرتور شوبنهاور، ترجمة عبد الله زارو، منشورات ضفاف، ط1، 2018.
(2) بناء الكون ومصير الإنسان، هشام طالب، دار المعرفة، طـ1، 2016.
(3) مفارقات للسعادة لوك فيري، ترجمة أيمن عبد الهادي، التنوير للطباعة والنشر، ط1، 2018.
(4) الهجرة إلى الإنسانية، فتحي المسكيني، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، ط1، 2016.