المفاهيم القرآنية وحدة كلية لا تتجزأ، وهذه خاصية من خصائص القرآن الكريم، ووجه من وجوه إعجازه الكثيرة التي ليست لغيره من الكتب، إذ إن مفاهيمه التي تكونه سواء في المجال العبادي أو في المجال العادي أو في أي مجال من المجالات تعلقت به هذه المفاهيم، هي شبكة ومنظومة بينها من الوشائج ومن الترابط، وبينها من الوحدة والتكامل ما يجعل كل مفهوم يستمد من المفهوم الآخر قليلاً أو كثيرًا. ولهذا يستحيل أن يؤخذ مفهوم مفردًا منفصلاً عن سائر المفاهيم الأخرى، وقد قيل إن القرآن وحدة، أو كلمة، أو بنية، أو نسق، أو نظام …إلخ، وكل هذا يشير إلى أن المفاهيم القرآنية مفاهيم ذات وحدة كلية تحدد تصورًا معينًا، ثم بعد ذلك تنتقل إلى الوحدات الجزئية المنضوية تحت هذه الوحدة الكلية. ومعروف أنه قبل مجيء الإسلام، كانت للعرب ألفاظ، وكانت لها مصطلحات، وكانت لها لغة عربية متداولة، والقرآن نزل بهذا اللسان العربي الذي كان متداولاً، ونزل بهذه الألفاظ التي كانت متداولة. لكن كما يذكر كثير من علماء اللغة، فالقرآن مارس ثلاثة أنواع من التعديلات على الألفاظ التي كانت متداولة في اللسان العربي عند نزوله، فالقرآن إما أن يعدل اللفظ تعديلاً كاملاً ويعطيه دلالة شرعية جديدة لم تكن له قط في السابق، وإما أن يعدل في اللفظ تعديلاً بسيطًا فيحافظ على جزء من دلالته ويضيف عليه دلالة أخرى، وإما أن يحافظ عليه كما هو إذا كانت دلالته معتبرة من حيث الناحية الشرعية، وهذا في سائر الألفاظ التعبدية والعادية؛ فالحج كان في اللغة القصد ولا يزال معناه القصد، لكن أخذ معنى آخر ودلالة شرعية جديدة هي أركانه وواجباته ومستحباته ومكروهاته …إلخ، وقل مثل ذلك في الصلاة والزكاة والكفر والإيمان وغيرها.
إن خصائص الألفاظ والمفاهيم القرآنية كثيرة أذكر من بينها ما يلي:
أولاً؛ هذه الألفاظ والمفاهيم القرآنية هي ألفاظ ومفاهيم مطلقة تابعة لإطلاقية الوحي، فنحن إذا آمنا بأن كتاب الله تعالى المنزل الخاتم لسلسلة الرسالات السماوية مستوعب للزمان والمكان والإنسان، فكل مفهوم فيه يمتلك هذه الخاصية كذلك، أي خاصية الإطلاق المستوعبة للزمان والمكان والإنسان حيث كان. فلا يمكن لأي مفهوم من هذه المفاهيم أن يتحيز في مرحلة زمنية معينة، فنقول -مثلاً- إن مفهوم الإيمان أو البر أو التقوى، هو خاص بمرحلة دون أخرى، كالاجتهادات البشرية أو الاصطلاحات المدرسية أو المذهبية. إذ يمكن للاصطلاح المدرسي أن يكون خاصًّا بهذه المدرسة في القرن الأول أو الثاني أو الثالث، وأن تظهر اصطلاحات أخرى جديدة. لكن المفاهيم القرآنية لا يمكن فيها هذا؛ لأن المفهوم القرآني وإن كان مفهومًا واحدًا فهو يستمد إطلاقيته من إطلاقية الوحي نفسه، فله هذه الخاصية التي ليست لغيره، خاصية كونه وحيًا مطلقًا مستوعبًا للزمان والمكان والإنسان.
الخاصية الثانية؛ وهي أن المفاهيم القرآنية مفاهيم مستوعبة، نسق مفتوح غير منغلق، ولهذا، استطاع الإسلام عندما جاء أن يستوعب كل الفضائل وكل المفاهيم التي لها صفة إيجابية في التراث الجاهلي العربي، أو حتى في تراث الأمم المخالفة للإسلام. إذن ليس هناك مشكل في الثقافة الإسلامية وفي المفاهيم الإسلامية أن تستوعب مفاهيم أجنبية على أساس أن تصبح لهذه المفاهيم الأجنبية وظيفة أخرى داخل النسق القرآني أو داخل النسق الإسلامي عمومًا. ولهذا، اختلف علماؤنا قديمًا -علماء اللغة والأصول وغيرهم- في الألفاظ التي وقعت في القرآن، حيث قيل إنها ألفاظ عربية، وقيل أعجمية وقعت في القرآن، وقيل أعجمية تعربت، وهذا خلاف معروف عند اللغويين والأصوليين. مهما يكن من هذه الألفاظ كالعهن والطور والاستبرق وغيرها، فاستعمال القرآن لها، أعطاها وظيفة جديدة، وأصبحت لها دلالة جديدة داخل النسق والسياق القرآني، بل أصبحت جزءًا من القرآن تتلى بتلاوته. ولهذا فخاصية الاستيعاب خاصية مهمة في المفاهيم الإسلامية، لأنها قادرة على أن تلتقط كل ما هو إيجابي. وهي موازية لإطلاقية المفاهيم القرآنية، أي إن لها هذه المقدرة على استيعاب كل إيجابي في الحضارات والثقافات والأديان واللغات والعادات.
الخاصية الثالثة؛ أن المفاهيم القرآنية محفوظة بحفظ القرآن، لا يمكن أن يطرأ عليها التحريف أو الانتحال أو التغليط، فالقرآن محفوظ بحفظ أصوله وبحفظ كلياته، فهي محفوظة من هذا الجانب. ولمتسائل أن يتساءل: كيف يطرأ الخلل والتشويش على مفهوم محفوظ لدرجة الاختلاف المفرق؟ نقول: يكون ذلك إذا قصرنا نحن في فهم هذا المفهوم أو في التعرف على دلالته وعلى معانيه وعلى الحكم والأحكام المرادة منه، أو حمّلناه ما لا يحتمل من المعاني التي في أذهاننا انتصارًا لأهواء أو آراء معينة. أما المفهوم في أصله فهو محفوظ بحفظ القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الخاصية الرابعة؛ أن مفاهيم القرآن تامة، ولهذا، عندما نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(المائدة:3)، لم يكن المراد بها إكمال الجوانب التعبدية في الإسلام فقط، بل هو إتمام كل شيء في الإسلام بما في ذلك كلمات الإسلام، كما قال الله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(الأنعام115)؛ فهي تامة بمعنى أننا لا يمكن أن نجد بناء أكمل وأحسن وأصح من البناء القرآني للمفهوم، لأنه من الله تعالى، ولأنه وحي، ولأنه مطلق، ولأنه محفوظ… وهذه كلها خصائص لا يمكن أن تكون من الألفاظ والمفاهيم التي يبنيها فكر الإنسان النسبي القاصر المتغير حسب الزمان والمكان.
الخاصية الخامسة؛ أنها سننية نظامية، أي إن بناءها المنهجي بناء نسقي منتظم، منضبطة مواقعه وتراكيبه ودلالاته ضمن نسق كلي ناظم، ثم ضمن أنساق فرعية وجزئية تفصيلية كما قال عنه منزِّله سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(هود:1)، وكما قال عنه المنزَّل عليه صلى الله عليه وسلم ضمن الحديث المشهور: “لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد” (رواه الحاكم). وهذه البنائية أو السننية النظامية -كما يذهب بعض أهل العلم- في كتاب الله تعالى، معادلة للسننية وللنظام الموجود في خلق الله تعالى. فمواقع الآيات في الكتاب كمواقع النجوم والكواكب في أفلاكها ومداراتها، كما قال الله تعالى: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ((الواقعة:75-80). ولذلك نفوا الترادف والتكرار في ألفاظ القرآن والقول بالنسخ والغريب فيه، وما إليها من القضايا الموروثة من غير تدقيق وتمحيص منهاجي في ضوء البنائية والنسقية والنظام الذي نحن بصدده.
ولقد ارتبطت آيات النص بآيات الآفاق والأنفس ارتباطًا وثيقًا، وجُعل بعضها دالاًّ على بعض، كلها تهدي إلى الحق وترشد إليه. وقصدنا بإيجاز في هذا الجانب، التنبيه على الوحدة الكلية -مفهومية كانت أم قيمية أم تشريعية- من مدخل البناء النسقي المنتظم مهما تفرعت قضاياه، وإلى أن أي عمل -كيفما كان- إذا لم يأخذ بعين الاعتبار أن ثمة منهجًا سننيًّا حاكمًا لتفعيل الآيات في الأنفس والكون والمجتمع -إصلاحًا أو تغييرًا- لا يمكنه أن يعود بفائدة أو ثمار مرجوة. ولن يكون في أحسن أحواله إلا كسائق سيارة لا دليل سياقة معه يبصره بالعلامات المبثوثة في كل مكان، فانظر ما سيصنع من الحوادث ويلحق من الأضرار بنفسه وبغيره. وذلك للأسف شأن كثيرين ممن يتصدون للتغيير باسم الإسلام فيسيؤون وهم يظنون أنهم يحسنون.
إن كل مفهوم قرآني له هذه الخاصية السننية النظامية والمنهجية الآياتية، التي تحدد وظيفته البنائية الخاصة به ووظيفته الكلية ضمن المجموع النسقي للمفاهيم، يشتغل لذاته ولغيره في الوقت نفسه. وذلك أشبه ما يكون بعمل أعضاء الإنسان، فكل عضو له وظيفة خاصة لا يقوم بها غيره، ووظيفة عامة يقوم بها مع غيره في شكل نظامي مطرد إذا تعطل وقع الخلل.
الخاصية السادسة، أن المفاهيم القرآنية عملية وواقعية أو حركية، وذلك باعتبار أنها نزلت إلى إنسان مكلف مستخلف مدعو إلى أن يتمثل هذه المفاهيم حسب جهده وطاقته، وأن يبني بها حضارته وأن يعمر بها الكون، وأن يحقق بها استخلافه ووراثته. فهي مطلقة كونية، لكنها أيضًا عملية واقعية ودينامية حركية، توجه وتسدد عمل الفرد والجماعة على حد سواء، وتصلح من حال الفرد والجماعة على حد سواء.
هذه بعض من الخصائص التي تميز المفاهيم القرآنية عامة وإن كانت هناك خصائص أخرى أكثر تفصيلية يمكن استخلاصها باعتبارات وترتيبات مختلفة.
(*) جامعة السلطان مولاي سليمان، كلية الآداب، بني ملال / المغرب.