من العبارات التي تجري على لسانك وتوظفها كثيرا، وتفتتح بها خطاباتك مع أغلب من تلتقيهم يوميا، عبارة ” كيف أصبحت” في حال التقيت بشخص ما صباحا، أما إذا كان اللقاء مساء فلا شك تبادره بالكلام فتقول له ” كيف أمسيت”، وقد تتصرف في العبارات فتقول ” صباح الخير ” أو ” تصبحون على خير” وكذلك ” مساء الخير” أو ” تمسون على خير” وهذا أمر جرى به الخطاب وعرف لغوي متجدر في اللسان، ولكن هل تساءلت يوما عن أصل هذه العبارات، وهل يمكن أن يكون لها ارتباط بحدث ما، وهل في السنة ما يدل عليها؟
إذا بدأنا بالسنة الشريفة ورجعنا إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلربما لن نظفر بشيء يخص هذه العبارات ” كيف أصبحت” “كيف أمسيت ” ” صباح الخير” و” مساء الخير” ، لأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو إلقاء التحية بعبارة “السلام عليكم” مع استحباب زيادة عبارة “ورحمة الله وبركاته” وهي عبارة لها ارتباط باسم من أسماء الله تعالى وهو اسم “السلام” روى البخاري في الأدب المفرد عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن السلام اسمٌ من أسماء الله تعالى، وضَعه الله في الأرض؛ فأفشوا السلامَ بينكم”.(حديث حسن) وروى البخاري أيضًا (في الأدب المفرد) عن عبدالله بن مسعود قال: “إن السلام اسمٌ من أسماء الله، وضعه الله في الأرض؛ فأفشوه بينكم، إن الرجل إذا سلَّم على القوم فردُّوا عليه، كانت له عليهم فضل درجةٍ؛ لأنه ذكَّرهم السلام، وإن لم يُرَدَّ عليه، رد عليه من هو خيرٌ منه وأطيب“(يعنى الملائكة)؛ (حديث صحيح).
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَلَا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم“.
وهناك أدلة كثيرة من السنة تشهد لكون تحية المسلمين في الدنيا هي السلام عليكم، وهي تحيتهم أيضا غدًا يوم القيامة كما جاء القرآن الكريم قال الله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ )(الرعد: 23، 24)، وقال سبحانه: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(يونس: 10)، وقال جل شأنه: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)(الأحزاب: 44)، وقال سبحانه: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)(الواقعة: 25، 26).
وهكذا إذا استقرأنا كل الآيات والأحاديث الواردة في التحية فسنجدها تتكلم عن عبارة ” السلام”، ولا نكاد نجد أثرا للعبارات الأخرى ” تصبحون أو تمسون على خير”. إذن فمن أين جاءت هذه العبارات وكيف استطاعت أن تستحوذ على لسان البعض لدرجة قد لا تسمع معها السلام عليكم منهم قط.
يشهد التاريخ أن طاعونا ضرب بلاد المسلمين وفتك بأرواح كثيرة، وقد سمي هذا الطاعون بطاعون عَمْواس هو طاعون وقع في ولاية بلاد الشام الإسلامية التابعة للخلافة الراشدة في أيام خلافة عمر بن الخطاب سنة 18 هـ/639م بعد فتح بيت المقد ، وهو أول وباء يظهر في أراضي الدولة الإسلامية.
وقد اختلف المؤرخون في أعداد الموتى في الطاعون ما بين خمسة وعشرين ألفًا إلى ثلاثين ألفًا. قال الواقدي: توفي في طاعون عمواس من المسلمين في الشام خمسة وعشرون ألفًا”، وقيل: “ثلاثون ألفًا”. وقد مات عدد كبير من الصحابة في هذا الطاعون أشهرهم أمير أجناد الشام أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل وزوجتيه وابنه عبد الرحمن، ويزيد بن أبي سفيان، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وغيرهم كثير.
ونظرا لخطورة هذا الطاعون والذي لقب بالموت الأسود وفتكه بالأرواح صباح مساء، فقد عم جو من الاضطراب والهلع والسؤال عن أحوال المصابين في كل لحظة، وكان الترقب يبلغ ذروته خاصة في الصباح إذ الكل ينتظر الأخبار التي سيسفر عنها الليل بخصوص المصابين، فكان الأصحاء بمجرد أن يصبحوا يتوجهون مباشرة للمرضى يسألون عن أحوالهم قائلين “كيف أصبحتم”، ونفس الشيء في المساء، حيث من كان يصبح حيا قد لا يمسي كذلك فالمرض فتاك ولا يمهل، ولذلك لم يكن هناك بد من السؤال عن أحوال من أصبحوا سالمين هل سيمسون كذلك أم لا ومن هنا جاءت “كيف أمسيتم”، أما عبارة صباح الخير ومساء الخير فهي عبارات كذلك وظفت لبعث الأمل والتفاؤل في نفوس المرضى والاستبشار بالخير وبالغد الأفضل الذي يتقلص فيه عدد الوفيات والإصابات وتنجلي معه الغمة ويرتفع فيه الوباء عن الأمة، يقول الإمام الونشريسي رحمه الله تعالى في المعيار : ومنها قولهم : كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ وإنما كان السلف يقولون: السلام عليكم ورحمة الله. وقد جاء في الخبر: من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه. وقال إنما حدث قولهم كيف أصبحت وكيف أمسيت من طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع، كان الرجل يلقى أخاه غدوة فيقول له كيف أصبحت من الطاعون؟ ويلقاه عشية فيقول له كيف أمسيت من الطاعون؟ لأن أحدهم كان إذا أصبح لا يمسي وإذا أمسى لا يصبح فبقي هذا إلى اليوم. (المعيار المعرب /ج 2 ص477)
ولا شك أن الناس في هذه الظروف العصيبة وهم يسألون عن أحوال المرضى صباح مساء ويتفاءلون ويستبشرون بالخير وبفرج الله لم يكن غرضهم الابتداع في الدين، أو أنهم أحدثوا هذه العبارة وقصدهم النيل من عبارة ” السلام عليكم”، والأعمال بالنيات كما هو مقرر وكذلك الأقوال .
وعليه إذا تبين أن لهذه العبارة سياقا استدعاها ودافعا وراء استخدامها، وهذا الدافع قطعا لم يكن هو هدم تحية الإسلام أو إقصائها، وإنما كان هو عيادة المرضى والسؤال عن حالهم والاطمئنان على صحتهم لا أقل ولا أكثر فإنه لا حرج في استخدامها بشرط أن تأتي في زمننا الذي سلمنا فيه من الطاعون بعد إلقاء تحية الإسلام ، فتكون الصيغة ” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ” ثم بعد ذلك قل ما شئت ” كيف أصبحت ” أو كيف أمسيت ” أو صباح الخير ” أو مساء الخير ” لأن الأصل أن لا تنسى السنة وتطمس وتستبدل بغيرها من العبارا ، وإذا كان الإمام الونشريسي استدل بالأثر القائل ” من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبونه ” فإنا نفهم من ذلك أن من بدأنا بالسلام قبل الكلام حتما نجيبه، والسلام عليكم ورحمة الله .