سأل أعرابي ابن عباس: من يحاسبنا يوم القيامة.
فقال: الله.
قال: نجونا ورب الكعبة.
فسأله لم.
قال: إن الكريم إذا ملك عفا.
التفاءل في حياة الإنسان يعد من أهم أسباب النجاة والنجاح، والذي يتخبط في الذكريات المريرة والأحزان والآلام، ويقضي مع الساعات الماضية ويرثي لها ويرويها ثقيل الخطى، لا يرتقي إلى رجل يتأمل ويحلم بالصبح القادم الأجمل، والذي يتمرد دائمًا ويشاكس فطرته ويشاوس قدره ويثور على الواقع إنما ينجح في لفت الانتباه المؤقت الذي سيذهب أدراج الرياح بين عشية وضحاها، والذي لا يفتح فاه إلا لإثارة الفتن الدفينة، أو لإشعال الجمرات الخامدة، ويجبر قلبه على المكث في مستقنعات الفشل والخيبة، ويصر على العكوف في صوامع الخمول والعزلة، إنما ينساق إلى منحدر وعر لا ترى غايته، وإنما يضع حياته على مشارف الموت المهين.
والمسلم خلق ليكون صانع المعجزات، وكاسر المستحيلات، وموجه الخيرات، فلا بد له من قوة الإرادة، والعزيمة الفولاذية، والثقة بالنفس الحاسمة، وحسن الظن، والولاء والوفاء، والاصطبار على الانتظار حتى لحظة الانتصار، فمكونات المسلم المتقن لا تنحصر في الخمس أو في الست بل تمتد إلى ما وراءها، لأنه هو حامل الرسالة الربانية الأخيرة، وعلى عواتقه مسؤولية عظيمة، فكل رجعة قهقرى من أعباءه تعد إخفاقًا فادحًا وخطأ كبيرًا، وفي حومة الأزمات المتراكمة التي تقض مضاجع الأمة، من مشاكل داخلية منهكة، وتدخلات خارجية متربصة، وصراعات دموية، وانكسارات مضنية..
نجد دروس الحديث الشريف تملي علينا ضرورة التفاءل ولزومية الرجاء في الغد القادم الأسعد، ولم يك الدين ولا قواعده في زمن من الأزمان تشيرإلى السقوط ولا تبرر القنوط بل جاء الدين ليبث في الناس وحي الرجاء الصبحي المشرق، ويحث الناس على العمل من أجل الجنة ولقاء الله، ويبعث في المظلومين روح الحرية والكرامة، وينفث فيهم الإرادة والحياة.
إن زراعة الأمل في القلوب الضعيفة هي عملية جراحية معقدة، لا تنجح إلا إذا شخصت واستقصت كل التحركات النفسية الدقيقة، وقد جاء القرآن لهذه العملية التي تزيح من الروح الخلايا المعتلة، وتعيد إليها القوة الفطرية التي أودعها الله ليكون الإنسان خليفته وحامل أمانته.
الإسلام دين التفاءل والقرآن مكينته
ليس في الكون نظرية ولا فلسفة ولا حركة أسهمت في بناء الإنسان المتفاءل أكثر من الإسلام، فبداية دعوته انطلقت من التفاءل والأمل، وفي حنايا القرآن قصص الأنبياء الذين صبروا على جمر الغضا، ومشوا على ظباة البلايا حفاة ليرافقوا النجاح أخيرًا، ويصفق العالم جميعهم لهؤلاء الأبطال البشرية، صناع المعجزات، وفي قصة نبي الله يوسف عليه السلام أحسن القصص نجدها تحكي لنا قوة الحلم التي بددت غياهب الظلمات، الحلم الذي امتد من غيابة الجب إلى الهيبة الملكية، وفيه قصة إبراهيم الذي وفى، وخرج من نار نمرود بردا وسلاما، وفيه قصة أيوب الذي شكا حزنه إلى الله، وكبح جماح النزوات النفسية الإنسانية، وفيه قصة صاحب الحوت الذي تمسك بحبل الرجاء الإلهي المتين، ونادى في الظلمات “أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”، وإنما حكاها القرآن داخل سورة وأخرى ليصبح المؤمن على وعي عن التاريخ الذي به يستدل في زمن الخيبة والتراجع، ويتمسك به في زمن الانكسار والتقهقر، وبه يكشف الظلمات وينفك المسلم من قيد الأمنيات التائهة التي لا تعد بغد ولا تفي بعهد.
نحن في زمن أصبح الانتحار فيه وسيلة للنجاة من أثقال الحياة، ورأينا عدة دعاة ومثققين ينادون إلى حقوق المرء في الموت، وبرروها بأن الموت خيار من خيارات الإنسان التي لا دخل للدين فيها، والإسلام يدعوه إلى واحة الحياة والثورة في وجه الموت، فإذا جاء الموت فإلى تلبية نداءه بأفخم الجواب وأبش الوجه، وأبى الدين الانحناء الخاضع المطلق، والانبطاح في حضرة الموت، وجاء الحديث الشريف ” الكيس من دان نفسه هواه وأتبع لما بعد الموت”، فإن التفاءل سمت من سمات الأنبياء وصفوة الخلق، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
وبالمقابل، ماذا يورث التشاءم في حياة الإنسان غير الضغوطات الخانقة، والمضايقات النفسية التي تستنزف كل الطاقات وتسد كل الطرقات، وتعتم كل المناظر، وكيف يكسب القلوب من يرى الوجود من خلال السحب الداكنة، ويصف نفسه ذبيح القضاء والقدر، وضحية البيئة والظروف، بينما تمكن له الحياة عشرات الفرص لاسترداد بوصلة السعادة التي فقدها على حين غفلة منه، فإن من يعيش على رفات التشاؤم ويقتات من خلالته ويستسقي من زقومه لأشبه بمن استعجل الموت، واستضاف المرض.
فكن متفاءلاً في حياتك، متأملاً في الخيرات التي تلدها الليالي الحبلى، ومتحديًّا بعباءتك المهابة زوابع الأشواك والحصباء، واصغ إلى كلمات شاعر الخضراء أبي القاسم الشابي لتبعث روحك المنهارة، ويحيى حلمك المتحطم، إذ يقول:
سأظل أمشي رغم ذلك عازفًا قيثارتي مترنمًا بغنائي
أمشي بروح حالم متوهج في ظلمة الآلام والأدواء