تميزت الشريعة الإسلامية بابتكار أنظمة مالية لم يسـبق لها أن طبقت من قبل، بل وجعلتهـا فرضـا دينيـًا كالـزكاة ، أو وسـيلة لتطبيق أحكام شرعية كالميراث، فامتازت هذه الأنظمة بمزج روحي ومادي. وأعطى الإسلام الميراث اهتمامًا كبيرًا، وعمل على تحديد الورثة، أو من لهم الحـق في تركـة الميـت، ليبطـل بـذلك مـا كان يفعـله العرب في الجاهلية قبل الإسلام من توريث الرجال دون النساء، والكبار دون الـصغار، فجـاء الإسلام ليبطـل ذلك لما فيـه مـن ظـلم وجور، وحدد لكل مستحق في التركة حقه، فقال سبحانه: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إن كَانَ لَهُ ولَدٌ فَإن لَّمْ يَكُن لَّهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا” [النساء: ١١]. ولقد ألغى الإسلام كل النظم الاستبدادية، وسن أحكام الإرث ليضمن للضعيف حقه ويحفظ له كرامته ويساوي بينه وبين القوي، وبين الكبير والصغير، وبين الرجل والمرأة، فلكل واحد منهم نصيبا مفروضا وحقا محددا في كتاب ﷲ المجيد.
والميراث يعمل على تفتيت الثروة المتجمعة ويعيد توزيعها من جديد مما لا يدع مجالاً لتخيم الثروة وتكدسها في أيد طبقات قليلة وهو بهذا أداة مؤثر فعالة في إعادة التنظيم الاقتصادي في الأسرة ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من الدولة،فتقبل عليه الأنفس بالرضا والتسلم. فإذا كان في العائلة أبناء وبنات وأب وأم وزوج فإن كلاً من هؤلاء تكون له حصة في الإرث بما يضمن تفتت الثروة وانتشارها بين الأفراد.
فالقضية في توزيع الميراث ليست قضية ترضية الوارثين ومتابعة الأهواء، وإنما هي قضية نظام يحقق العدالة ويعمل على توزيع الثروة بانتظام وعدم ظلم فلا يحابي أحداً، ولا يقصي غيره فهو تقسيم ما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً للرجال وكذلك للنساء على أسس الكرامة الإنسانية التي نص القرآن الكريم على احترامها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا ونِسَاءً واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)( سورة النساء: 1). وعلى أساس العدل الذي يجب اعتباره وإعماله لتحقيق استقرار المجتمعات وبناء طمأنة الأفراد فيها على اعتبار أن الغرم بالغنم فمن يخسر يستفيد ومن يستفيد يجب أن يخسر فبمقابلة الغنم غرم، وكذلك الميراث فمع الكرامة والعدالة يجب أن تراعى الحقوق والواجبات والمنافع والمخاسر لمن تترتب له وعلى من تقع عليه.
الجانب الاقتصادي لنظام الميراث الإسلامي
وفي باب المواريث وجوه عدة للإعجاز الاقتصادي، هذا بعض منها:
أولاً: إعادة توزيع الثروة بشكل عادل
يلعب التوريث بالصورة التي وضعها الفقه الإسلامي دورًا مهما في إعادة توزيع الثروة بين الأفراد من الجنسين ممن يحق لهم الإرث، ويلاحظ على هذا التوزيع أنه ثابت بثبات التشريع الإسلامي عكس الضريبة التي تخضع لتقلبات القوانين الوضعية، وبالتالي يمكن الاعتماد عليه في رسم التوقعات الاستثمارية لدى الأسر التي تتمتع بثروات مهمة. كما أن خضوع توزيع الإرث لتحديد الفقه الإسلامي يحول دون الخطأ في تقدير أنصبة الأفراد ويجعل من تلك التوقعات أداة ناجعة في سلوك الاستثمار بالنسبة للأفراد.
ونظام الميراث يؤدي إلى تداول الثروة، وهذا هو الهدف الأسمى للنظام الاقتصادي الإسلامي عامة، حيث تنتقل الثروة من يد إلى يد وهكذا يتم تداولها بين جميع الناس، ومن المعروف أن تداول المال في الميراث يكون من الميت إلى أبيد جديدة ما زالت في إقبال على العمل بجد ونشاط، وهذه الأيدي الجديدة لا بد أن تقوم بواجب الاستثمار في المال الذي وصل إليها، ويترتب على ذلك تحقيق التنمية والاستثمار وتداول المال. وبتتبع نظام الإرث الإسلامي نجد أنه يمكن أن يسهم في تحقيق هذا الأثر من خلال المحاور الأتية:
- إن الشارع في تقسيمه للمال الموروث على المستحقين له شرعا يتجه إلى التوزيع الشخصي دون التجميع، حيث لم يجعل وارثا معينا ينفرد بالتركة في أغلب الأحيان، وإنما قسمها على عدد كبير من أقرباء الميت وجعل لكل منهم نصيبا مفروضا فأعطى الأبناء والبنات، والآباء والأمهات والأجداد والجدات، فضلا عن الأزواج والزوجات والإخوة والأخوات والأعمام وأبناء الأخوة وأولاد البنات وفي بعض الأحيان يكون لذوي الأرحام نصيبا مفروضا من التركة مما يحول دون تجمع الثروة في يد فئة قليلة من أفراد المجتمع من جهة. بنص قوله تعالي: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم.(سورة الحشر:7). وفي نفس الوقت يوسع من دائرة الانتفاع بالتركة من قبل الورثة على حسب صلتهم بالميت وحاجاتهم من جهة أخرى.
- للدولة من خلال نظام الإرث (مال من لا وارث نه) أن تنفق على المصالح العامة للمسلمين والمتمثلة في الطرق والجسور وسد الثغور ونحوها مما ينتفع به عامة الناس وهي مصالح غير محددة بمن جهة. ومن جهة أخرى قد تقدم بعض هذه الخدمات مجانا من قبل الدولة أو بأسعار رمزية مما يعني إعادة توزيع الثروة لصالح هذه الفئة في المجتمع. . .
ثانيًا: محاربة الفقر وخدمة هدف التشغيل
إذا كان الورثة من الفقراء والمحتاجين، ففي الغالب سوف يزيد حجم الاستهلاك بسبب زيادة الميل الحدي للاستهلاك عند الفقراء، سواء أكان هذا الاستهلاك سلعي أم خدمي، ومن المعلوم أن أي زيادة في الاستهلاك سوف تؤدي إلى زيادة الاستثمار، فسيكون هناك استثمارات جديدة من أجل مواجهة الطلب الفعال للاستهلاك الجديد، بسبب انتقال التركة إلى مالكين جدد، فهذا يزيد من الطلب على المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج، وهو بدوره يؤدي إلى زيادة الاستثمار والتشغيل وبالتالي يقلل من البطالة والكساد.
وتقسيم الميراث فرصة لإعادة تشكيل رأس المال في بعض الحالات التي يزيد فيها نصيب الأفراد عن الحاجات الاستهلاكية، وهكذا وبدل أن تنحصر الثروة في صاحب مفترض واحد لرأس المال يصبح لدينا عدة أفراد مفترضين، وهذا يخدم فرضية تشكيل القطاع الخاص، وبالتالي يخدم الاستثمار.
وعندما تبلغ الثروة حدًا معينًا، يتشبع صاحب الثروة من حيث الاستهلاك ويصبح الميل الحدي للاستهلاك لديه قريبا من أو يساوي الصفر، كما هو مبين في النظرية الاقتصادية، وفي هذه الحالة يلجأ المستهلك إلى التخزين أو إلى الإدخار، ولكن في حالة العائلات ذات الثقافة الاقتصادية المحدودة فإن تركز الثروة لدى فرد واحد يؤثر سلبًا على تخصيص الموارد.
أما بعد تقسيم الميراث فإن الأنصبة تذهب إلى عدة أفراد يكون احتمال كونهم دون حالة التشبع، مما يؤثر إيجابًا على الميل الحدي للاستهلاك، وبالتالي يخدم الطلب الداخلي، والطلب الإضافي بدوره يدفع بالإنتاج ويخدم أهداف السوق. وفي حالة تطبيق الفقه الإسلامي للمواريث ينال الأفراد نصيبهم بصورة عادلة، ويتم تحويل الثروة إلى الأفراد المعوزين والفقراء بصورة آلية ودون تدخل السلطات، مما يخدم هدف محاربة الفقر، كما أن حصول الرجال على ضعف حقوق النساء في الميراث حسب الفقه الإسلامي إشارة معجزة إلى ضرورة تحويل الثروة إلى أداة للتشغيل سواء عن طريق الاستثمار الفعلي أو التجارة. وهكذا يتيح الميراث لمستحقيه من الفقراء فرصة حيازة أدوات الإنتاج لأنه يوفر لهم السيولة اللازمة لذلك.
ثالثًا: التأثير الإيجابي على المتغيرات الاقتصادية
نظام الميراث يدفع إلى مزيد من بذل النشاط والجهد، فالإنسان لا يعمل لنفسه فقط، ولكنه يعمل كذلك لمن يهمه أمرهم من أفراد أسرته وأقاربه، فهو يتعب ويكد من أجل أن يسد الجوع عنهم ويوفر لهم حاجتهم وحاجته هو، كما يبذل جهدًا من أجل تأمين مستقبلهم، فإذا ظل على قيد الحياة، تولى هو بنفسه الإنفاق عليهم، وإن مات تولوا هم الإنفاق على أنفسهم من خلال التركة، وهذا أكبر الحوافز التي تحفز الفرد إلى الجد وبذل الجهد من أجل الاستثمار والكسب، ولو منع التوارث بين الأفراد لضعفت الهمم وقل البذل -أي بذل الجهد للإنتاج- وضعف النشاط الاقتصادي عامة، لأن الإنسان يعلم بأن ثمرة جهده لا ترجع إلى أسرته، ولذلك يعتبر منع التوريث بين الأفراد قتلاً للحافز. الدليل على ذلك التوجيه النبوي للمورث: “… انك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس”، وإن كان في هذا الحديث تقييد لتصرف المورث بحيث يحفظ للورثة غناهم عن طلب الناس، فإن فيه حافزًا لكي يؤمن مستقبلهم بالجد والعمل والاستثمار فيدخر لهم ولمستقبلهم .إذن فالميراث حافز للمورث لبذل الجهد من أجل تأمين الحاجات عمومًا، وهو كذلك حافز للوارث لكي يساعد المورث في النشاط الإقتصادي لأنه يعلم بأن ثمرة جهوده لن تكون لغير الورثة، ولعل هذا الحافز يعد من الحوافز التي لها تأثير مباشر على الاستثمار.
وتتضح علاقة نظام الميراث بالإدخار من خلال تأثير الميراث على سلوك المورث بحيث يجعله سلوكًا رشيدًا، فإذا علم أن جهده وثمرته سوف تعود لورثته من بعده، فسوف يكون سلوكًا عقلانيًّا وسطًا بين الإسراف والتقتير، ولا يكون هذا لولا نظام الميراث، فالإنسان مدفوع بهذا للادخار من أجل الورثة، ونستطيع الجزم بأن معظم التركة تصب في زيادة الدخل وكلما زاد الدخل كلما زاد الميل الحدي للادخار. فإن كان هؤلاء الورثة أغنياء فإن التركة تزيدهم غنى، وهذا يزيد من القدرة على الادخار وبالتالي الاستثمار . وإذا كان الورثة فقراء فان التركة تزيد في دخولهم ولكن ستوجه هذه الزيادة للاستهلاك وهذا ما يحدث عند الطبقات الفقيرة، فيزيد من الطلب الفعال على السلع، مما يتبعه زيادة مضاعفة في الاستثمار.
من جهة أخرى فان نصيب الأنثى في الغالب هو نوع من الادخار، حيث لا يجب عليها أن تنفق منه شيئا، فالأنثى وهي بنت نفقتها على أبيها وهي أخت نفقتها على أخيها وهي زوجة نفقتها على زوجها، حتى لو كانت غنية وهي أم نفقتها على أولادها إن لم يكن لها زوج، وهكذا فهي غير مطالبة بالإنفاق على أحد، ولا يجوز إجبارها على الإنفاق، وعلى هذا فنصيبها من التركة محفوظ لا نفقة فيه، فهو حقيقة نوع من الادخار والذي ينبغي أن يصب في قناة الاستثمار، فعلى هذا يعمل نظام الميراث من خلال نصيب الأنثى، على زيادة التراكم الرأسمالي، مما يساعد في توفير المال اللازم للاستثمار والتنمية، ومن هنا يشكل نظام الميراث أحد وسائل تكوين المدخرات.