كيف يكون بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق، وهو منسوج من أقوى الخيوط على الإطلاق وأكثرها مرونة؟ وكيف يجتمع في منشأة واحدة الحد الأدنى من الوهن، والحد الأقصى من القوة والمرونة؟
يقول الدكتور محمد الفار أستاذ ورئيس شعبة الكيمياء الحيوية بعلوم المنصورة، في مقال له نشر في جريدة الأهرام: والعجيب أن من هذه الخيوط (القوية) تصنع بيوت العنكبوت (الضعيفة) الواهية والواهنة. وإلى هذا يشير المولى عز وجل في قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).باختصار: لو كان القرآن الكريم من تأليف النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لما وجد حرجًا أن يقول: “إن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت”، فمن كان سيكذبه بحسب معارف ذلك الزمان؟ وسبحان منزل القرآن.
خيط العنكبوت
إن خيوط بيت العنكبوت حريرية دقيقة جدًا، يبلغ سمك الواحدة منها في المتوسط، واحدًا من المليون من البوصة المربعة، أو جزءًا من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان. وهي على الرغم من دقتها الشديدة، فهي أقوى مادة بيولوجية عرفها الإنسان حتى الآن، لدرجة أن الجيش الأمريكي يصنع منها ملابس مضادة للانفجارات. وتعتبر الخصلات الحريرية التي تكون نسيج العنكبوت، أقوى من الفولاذ، ولا يفوقها قوة سوى الكوارتز المصهور، ويتمدد الخيط الرفيع منه إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع، ولذلك أطلق العلماء عليه اسم “الفولاذ الحيوي”، أو “الفولاذ البيولوجي”، أو “البيوصلب”؛ وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة، ومن الألمنيوم 29 مرة وتبلغ قوة احتماله 300.000 رطلاً للبوصة المربعة. فإذا قدر جدلاً وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت، فيمكنه حمل طائرة “جامبو” بكل سهولة.
لقد صنع العلماء خيطًا من الحديد الصلب في مثل سمك خيط بيت العنكبوت، وجرّبوه في شؤون الهندسة بما يسمى “قوة تحمل الشد”؛ فوجدوا أنه ليس هناك مقارنة بين قوة خيط بيت العنكبوت وخيط الحديد الصلب “بنفس السماكة”، بل على العكس، وجدوا أن خيط بيت العنكبوت يتحمل قوة الشد أضعاف المرات ما يتحمله خيط الحديد الصلب، بمعنى أن خيط الحديد الصلب انقطع في مراحل مبكرة قبل خيط العنكبوت في هذا الاختبار العلمي. وقد أثبت العلم الحديث أن بيت العنكبوت أقوى من بيت الحديد الصلب. فقد نجحت شركة كندية في استنساخ الطبيعة من خلال إنتاج خيوط العنكبوت الحريرية، وهي مادة تبلغ قوتها ومتانتها خمسة أضعاف متانة وقوة الفولاذ إذا ما قورنت وزنًا بوزن.
ويقول رئيس شركة نكسيا للتكنولوجيا الحيوية الدكتور “جفري تيرنر” في تصريح لـ”بي بي سي أون لاين: إن المادة المنتجة لها ملمس الحرير الذي تنتجه دودة القز، ولها مرونة وقوة مذهلة.
يشار إلى أن العناكب تنتج خيوطها الحريرية -بشكل طبيعي- من بروتين ممزوج بالماء، تخرجها من فتحة صغيرة جدًا من أبدانها لتشرع في نسجها كما هو حال الخيط العادي. وقد استنبت علماء الشركة الكندية موروثات العنكبوت في خلايا حيوان ثديي، بهدف الحصول على نسختهم الخاصة بخيط العنكبوت، حتى أصبحت الشركة تمتلك ماعزًا معدلاً وراثيًّا ينتج البروتين نفسه في حليبها.
ويعرف عن خيط العنكبوت، أن له مواصفات ممتازة في تصنيع مواد مهمة؛ مثل الدروع التي تحمي الأجسام، والخيوط الجراحية، وحتى خيوط شباك صيد السمك وخيط الصنّارة.
لكن المشكلة التي تواجه القطاع الصناعي، تتمثل في إيجاد طريقة لإنتاج هذه المادة بكميات صناعية مجدية. وقد سبق للجيش الأمريكي أن أعرب عن اهتمامه بالموضوع منذ الستينيات، بعد أن تعرض آلاف الجنود الأمريكيين إلى الموت بفعل الطلقات النارية ذات الفعالية النافذة القادرة على تحقيق اختراق شديد في الجسم، والتي تعرف في بعض الجيوش العربية بالرصاص الحارق الخارق. ولم يكن بالإمكان حماية جسد الجندي منها إلا بارتداء دروع ثقيلة الوزن معيقة للحركة؛ وقد وجد الجيش الأمريكي أن خيوط العنكبوت هي المادة المثالية لإنتاج درع واق خفيف الوزن وفعال جدًّا.
نجح العلماء أخيرًا في استخدام طرق الهندسة الوراثية لإنتاج خيوط العنكبوت، عن طريق جينات مستخرجة من العنكبوت نفسه، وهي أقوى من خيوط الحرير. ولذلك فإن هذه الطريقة ستتيح لهم التوسع في استخدام تلك الخيوط العنكبوتية لصناعة سترات واقية من الرصاص من نسيجه، وخيوط جراحية بمواصفات جيدة، كما قال الدكتور محمد الفار في المقال السابق الذكر. وقد روي عن سكان جزر السلمون أنهم كانوا يقومون قديمًا بصنع شباك صيد الأسماك من خيوط العنكبوت.
بيت العنكبوت
لم كان بيت العنكبوت أوهن البيوت؟ قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(سورة العنكبوت:4).
لنركز في هذه الآية على قوله تعالى: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ). هذا النص القرآني المعجز يشير إلى عدد من الحقائق المهمة التي منها:
1- الوهن المادي: إن بيت العنكبوت هو من الناحية المادية البحتة أضعف بيت على الإطلاق، لأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة، تتشابك مع بعضها البعض تاركة مسافات بينية كبيرة في أغلب الأحيان، ولذلك فهي لا تقي حرارة شمس، ولا زمهرير برد، ولا تحدث ظلاً كافيًا، ولا تقي من مطر هاطل، ولا من رياح عاصفة، ولا من أخطار المهاجمين، وذلك على الرغم من الإعجاز في بنائها.
2- الوهن في بيت العنكبوت وليس في الخيوط: فقوله تعالى (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ)، فيه إشارة صريحة إلى أن الوهن والضعف في بيت العنكبوت وليس في خيوط العنكبوت، وهي إشارة دقيقة جدًّا؛ لأن “خيط العنكبوت” ليس أوهن الخيوط، بل على العكس هو من أقواها نسبيًّا.. فـ”خيط الفولاذ مثلاً” أوهن منه.
3- الوهن المعنوي: إن بيت العنكبوت من الناحية المعنوية هو أوهن بيت على الإطلاق؛ لأنه بيت محروم من معاني المودة والرحمة التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد، وذلك لأن الأنثى في بعض أنواع العنكبوت تقضي على ذكرها بمجرد إتمام عملية الإخصاب، وذلك بقتله وافتراس جسده، لأنها أكبر حجمًا وأكثر شراسة منه. وفي بعض الحالات تلتهم الأنثى صغارها دون أدنى رحمة، في بعض الأنواع تموت الأنثى بعد إتمام إخصاب بيضها الذي عادة ما تحتضنه في كيس من الحرير.. وعندما يفقس البيض تخرج العناكب فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض، فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام، أو من أجل المكان، أو من أجلهما معًا ،فيقتل الأخ أخاه وأخته، وتقتل الأخت أختها وأخاها حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العنيكبات التي تنسلخ من جلدها، وتمزق جدار كيس البيض لتخرج الواحدة تلو الأخرى، والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسة، لينتشر الجميع في البيئة المحيطة، وتبدأ كل أنثى في بناء بيتها، ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العنيكبات. ويكرر من ينجو منها نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية، وانعدامًا لأواصر القربى. ومن هنا ضرب الله تعالى به المثل في الوهن والضعف، لافتقاره إلى أبسط معاني التراحم بين الزوج وزوجه، والأم وصغارها، والأخ وشقيقه وشقيقته، والأخت وأختها وأخيها.
قام أحد العلماء بدراسة طبيعة البيت العنكبوتي من الداخل، فوجد أن الذكر بعد أن يقوم بتلقيح الأنثى، تقوم الأنثى بافتراسه وتتغذى على لحمه طيلة فترة الحضانة للبيض، وبعد أن يفقس البيض تتغذى اليرقات على أضعفها، ثم بعد أن يقوى ويشتد عود ما تبقى من الصغار، تقوم بأكل أمها لأنها أصبحت أضعف الموجود، ثم يلقح الذكر الأنثى ثم تقوم بأكله وهكذا دواليك.
ومن هنا فإن الضعف في بيت العنكبوت، في ضعف الترابط الأسري بين أعضائه.
كلمة أخيرة
إن هذه الحقائق المدهشة، تدفعنا للتساؤل عن كيفية التوفيق بين وهن البيت في الآية الكريمة، وقوة المادة التي يبنى منها، وكيف يجتمع في منشأة واحدة الحد الأدنى من الوهن والهشاشة، والحد الأقصى من القوة والمرونة.
إن وصف بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت فيه دلالة واضحة على إعجاز القرآن وأنه من عند الله، حيث لم يقل القرآن خيط العنكبوت أو نسيج العنكبوت، لأن الخيط بذاته له صفات خاصة تجعله من الخيوط القوية، وإنما قال بيت العنكبوت، ولعل التفريق بين وهن البيت، وقوة المادة التي يبني منها، يثبته استعمال الآية الكريمة لكلمة “بيت” وليس “خيطًا” أو “شبكة”، ليبقى القرآن يسطر لنا آيات وبينات معجزة، تخرس لها الألسن الحداد، وتذهل لها العقول المنصفة.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون، وعضو الجمعية الرمدية المصرية.