يبدو أن الإنسان منذ أن انفصل عن الطبيعة وشعر بذلك الانفصال، راح يعمل بشتى الوسائل للعودة إلى التناغم مع حركة العالم. لقد خلق كونًا صغيرًا ازرق اللون لا يمت بصلة الى الكون الارضي الكبير. ولقد جعله هذا الانفصال النسبي دائم الحنين إلى الجنة الضائعة، الجنة التي اغترب عنها بصنعه أدوات ووسائل أبعدته عنها، فصار يتصل بها بالأدوات بعد أن كان يحيا فيها ويتحسسها بحواسه… بعد أن كان قريبًا من الشمس والقمر.
لقد ألف جسده الحنين لوقع قطرات المطر طوال آلاف السنين الماضية، وكانت له مع الليل ونجومه حكايات وأساطير، وكانت له أفراح وأمنيات، ثم ها هو ذا ينفصل عن أسرار الليل بالنور الاصطناعي، وينفصل عن العالم الواقعي بالعالم الافتراضي. لقد انتقل من عالم الحوار والانسجام والتناغم إلى عالم الرفض والتوجس والوهم إلى عالم صنعه عقله فتلاشت منه الظلال الموحية بغربة الحياة والتوحد في عالم الذات وهدر الأخر. وكم في العالم من أشياء وهمها أجمل من حقيقتها كالأنا الغارقة في الضمير المستتر الذي لا يقبل حوار العقل ولا الإيمان.
نعم، الاختلاف إشكالية كانت ولا تزال ترافق البشر في مشروع بناء الحضارة الإنسانية، فالكثير من المشاكل والخلافات والأزمات والحروب كان أحد أسبابها عدم وجود ثقافة الحوار وقبول الرأي الأخر. ورغم أن عملية الإثراء الثقافي والعلمي ومقياس تطور المجتمعات والشعوب، تقوم على ثقافة اختلاف الرأي، إلا أن انغلاق العقول جعل من الاختلاف خلاف أضعف المجتمع.
إن الإسلام احتضن كل القيم الإنسانية العليا التي تنظم المجتمع الإنساني من التعاون والتضامن والسلم والأمان والمحبة والاستقرار، وضبط هذا السلوك الإنساني بكل ما يكفل كرامة الإنسان
والإسلام له دور كبير في تعزيزه هذه الثقافة، وهذا بيِّن في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(آل عمران:159)، في إشارة إلى أهمية احترام الرأي والاختلاف للتوصل إلى حقيقة المشروع الإنساني في الأرض.
لماذا لا نملك هذه الثقافة؟ ولماذا لا نهتم بها؟
في الحقيقة هناك سببين: الأول الموروث الاجتماعي السلبي، مثل بعض العادات والتقاليد العصبية العشائرية البدوية.
والثاني عدم وجود توجيه وإرشاد ينمي هذه الثقافة في العملية التربوية وكذا التعليمية، كما لا يتم توجيه وسائل الإعلام لنشر هذه الثقافة وتعزيزها من خلال البرامج والطروحات، واستيراد أفكار وتجارب تفعيل هذه الثقافة من الدول الأخرى، إضافة إلى تقديم الندوات والمؤتمرات وورش التوعية والحلقات الحوارية وإعطاء الفرصة للأخر، وتعليم كيفية السيطرة على الانفعالات، ليتغلب على الموروث الاجتماعي السلبي، فتنمية هذه الثقافة تحتاج الى عمل يستمر سنوات يرافق الأجيال في كل مستوى من دراستهم وحياتهم بل حتى على مستوى وجودهم .
من هنا تبدأ مرحلة التغيير، حيث تنتشر ثقافة احترام الرأي والاختلاف من العائلة والمدرسة الى أعلى الهرم.. عندها إذا شعر المواطن بأن الحكومة تدعم هذه الثقافة يزداد إيمانه وعمله بها، ليحل التسامح والترابط بين مكونات المجتمع.
من ناحية أخرى نجد أن الانطلاق نحو الخروج من أزماتنا وبناء وتدعيم البديل الحضاري العالمي يكمن في فهم الحالة الراهنة للإنسانية جمعاء؛ عبر دراسة مآسيها وأزماتها التي تزداد كثافة وظلاما عبر الزمن، وهذا الذي أدى إلى تقاطعات وخلافات خطيرة سرعان ما تحولت إلى صراعات فكرية مذهبية وطائفية دينية بين حملة الأديان المختلفة، وانقسامات داخل الذين يدينون بالدين الواحد، وانشطارات داخل الفرق والطوائف .
ولذلك صار واجب على المفكرين والباحثون والعلماء من المسلمين وغيرهم، الاهتمام بموضوع التعايش والتقارب؛ نظرًا لتعلق الموضوع بحياة الناس وتعاملاتهم في شتى جوانب الحياة؛ ونظرًا لكثرة الشبهات المثارة حول الموضوع نتيجة للظرفية الخاصة والحرجة التي تمر بها المجتمعات العربية والغربية على حد سواء. وهذا بدوره يستوجب التأكيد على أن الأصل الشرعي في العلاقات الإنسانية السلم لا الحرب، والرفق لا العنف، واللين لا الشدة، والرقة لا الغلظة، لأن الإسلام دين ينبعث عن مفهوم إلهي كوني.
الحوار سنة إلهية وفطرة إنسانية، وعدم استنفاد الوسع في حل المشكلات بالحوار واللجوء إلى القوة والتعصب، هو ما يضع البشرية جمعاء في خطر.
وكما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً داعِياً، وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِياً”، أي أن نبي الرحمة بعث مبشرًا وهاديًا وميسرا، وداعيًا إلى الله على أسس وقيم ثابتة وجامعة، كالإحسان والتسامح والحرية والمساواة، بل إن الإسلام احتضن كل القيم الإنسانية العليا التي تنظم المجتمع الإنساني على أساس التعاون والتضامن والسلم والأمان والمحبة والاستقرار، وضبط هذا السلوك الإنساني بكل ما يكفل كرامة الإنسان وينمي وشائج الاتصال بين الجميع، والرسول محمد عليه الصلاة والسلام عمل على اقتلاع جذور التعصب، وسد كل منافذها، حينما قال: “لَيْسَ مِنّا مَنْ دَعا إِلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنّا مَنْ قَاتَلَ عَلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنّا مَنْ ماتَ عَلى عَصَبِيَّةٍ”، وحرم حمية الجاهلية فقال: “دَعُوها فإِنَّهَا مُنْتِنَة” فلا شدة ولا عسر ولا تعصب ولا بغض ولا حقد، بل الرحمة واليسر والسماحة والعطف والمحبة والتعايش.
لهذا ليس التعايش أمر صعب إذا ما تصرفنا بمنطق العقل والدين ونظرنا إلى إنسانيتنا وزرعنا الحب في نفوسنا، عندها سنجد مجالاً واسعًا للعيش والتعايش بسلام، في المقابل ومع ما تقدم ذكره تسعى الثقافة المسيسة والمؤدلجة إلى تخريب وازاحة قيم الآخر بتضخيم سلبياته ونواقصه عمدًا، ومنها إقصاء الدين ورموزه وقيمه ومعانيه من الحياة.
إن الفوقية والتمركز والسعي إلى إقصاء ثقافة الأخر والسخرية من جنسه أو لونه أو دينه، لا ينبغي أن يدفع المسلمين إلى سلوك مماثل تجاه الثقافات والأديان والشعوب الأخرى، لا ينبغي ولا يصح الوقوع في فخ التمركز وإلغاء الأخر، كما لا يكون بالمطابقة والتماثل مع الغرب ومسايرته بالتفكير والشعور والعيش.. وإنما بممارسة الاختلاف من موقع الحوار والتواصل وإظهار القدوة الحسنة التي تنتج في حياة المسلم سلوكًا وحركة في الحياة راقية مثمرة مشاركة في صنع الحضارة الإنسانية. وهكذا قام المنهج الحواري في القران الكريم على فرضية أن الأصل في الوجود الإنساني هو الحوار والتعايش، كما أن الأصل في الحوار هو الاختلاف، فلا يمكن الكلام إلا بوجود طرفين يشكلان حالة الاختلاف والتضاد، قد يكونا فردين أو فريقين أو قومين أو أمتين، فالحوار سنة إلهية وفطرة إنسانية، وعدم استنفاد الوسع في حل المشكلات بالحوار واللجوء إلى القوة والتعصب، هو ما يضع البشرية جمعاء في خطر.