إذا ما ألقينا نظرة شاملة إلى المنازل التي عاشت فيها الأسرة العثمانية، نجد معظمها تحتوي على فناء واسع في أحد أركانه، لأن هذه المنازل كانت بمثابة عالَم خاص لسكانها. أول ما يلفت الانتباه في هذه المنازل، هي الأسوار العالية المحيطة بها والخالية من النوافذ، وذلك لحفظ سكان المنزل من الأنظار، وتأمين راحتهم وسلامتهم في الداخل. أما المدخل الوحيد في هذه المنازل، فيقع في الجهة المطلة على الشارع من السور. وعند تدقيق النظر في الباب الخارجي للمنازل العثمانية، نرى ثقافة تعكس مستوى الأخلاق، وتبين حسن الجوار، ومبادئ العرف والتقاليد لدى الشعب العثماني؛ فهذا الباب الذي يبلغ عرضه وكذلك ارتفاعه 3-3,50 مترًا، مغطى بسقف صغير يقي الواقف أمامه من أشعة الشمس وقطرات المطر. والجدير بالذكر أن الأبواب الخشبية هذه، تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ مصراعان كبيران، وباب صغير مفتوح في أحد هذين المصراعين. أما المصرعان الكبيران لا يتم فتحهما إلا عند خروج العربات ودخولها إلى فناء المنزل، كما يتم استخدام أحد هذين المصراعين، عند إخراج الحيوانات وإدخالها إلى الفناء، ويظل المصراع الآخر ثابتًا لا يُفتح، أما الباب الصغير المفتوح داخل المصراع المتحرك فهو خاص بالأشخاص، وهو باب ترتفع عتبته عن الأرض بـ25-30 سنتيمترًا، ولهذا الارتفاع فوائد عديدة منها منع الأطفال من الخروج من المنزل دون مراقبة. وفي ضوء الأخلاق وحرمة المنزل لدى الأسرة العثمانية، كان الزائر لا يدخل المنزل إلا بعد إذن من صاحبه.
ومن الملفت للنظر في هذه المنازل أيضًا، مطرقات الأبواب، وهي -بلا شك- تبيّن مستوى الحضارة والأخلاق الذي وصلت إليه الدولة العثمانية في تلك الأيام؛ كانت المطرقة عبارة عن حلقتين من حديد متداخلة في بعضها البعض، أما الحلقة الكبيرة منهما فتصدر صوتًا خشنًا، والحلقة الصغيرة فصوتها أنعم من الكبيرة.. فإذا كان الزائر رجلاً دقّ الكبيرة فعلم أهل المنزل أنه رجل، أما إذا كان الزائر امرأة دق الحلقة الصغيرة فعلم أهل البيت أنها امرأة، وبذلك يتمكن مَن في الداخل مِن معرفة جنس الزائر، وبناء على ذلك يتم فتح الباب من قِبل النساء أو الرجال. وبالتالي يكون الدخول من الباب، إلى الفناء مباشرة وليس إلى غرف المنزل، وذلك لحفظ الحُرمة.
وفضلاً عن غرف المنزل، يوجد أيضًا في إحدى زوايا الفناء -وذلك وفقًا لحاجيات أهل المنزل- إسطبل، وتبّانة، وبيت لصناعة دبْس الفواكه، وورشة للحياكة والنسيج، وفيما تبقّى من المساحة، يوجد تنّور للخبز، وصخرة لغسيل الملابس، وأشجار، وأزهار، وبئر ماء، إلى غيرها من الحاجيات الأساسية التي يحتاجها أصحاب المنزل. ومن الأمور الجميلة في هذه المنازل أيضًا، تخصيص مساحة واسعة في فنائها لزرع الخضار. وبذلك يكون المنزل بكل أركانه عالمًا مثاليًّا لسيدته؛ حيث تستنشق فيه الهواء النقي، وتروّح عن نفسها، وتعمل براحة بال، وتستضيف جيرانها في فنائه.. وقد تحدثت الرحالة “جوليا باردو” عن هذه الأفنية في ذكرياتها عن إسطنبول عام 1835 فقالت: “ليت شكسبير رأى هذه الأفنية قبل أن يكتب مشهد الحديقة لمسرحية روميو وجولييت”.
هذا وقد بني السكن في ركن مناسب من أركان الفناء على شكل طابق أو طابقين، وثمة معايير أساسية أُخذت بعين الاعتبار أثناء إنشاء البيت، أهمها تعيين القِبلة، ورعاية الحرمة لمنزل الجار وسلامته من الأنظار.. وأهمّ هذه الأمور لدى الأسرة العثمانية المسلمة هي القِبلة.. ليس من أجل العبادة فقط، بل كانت تراعى القِبلة حتى في النوم والجلوس، وتعتبر جزءًا لا غنى عنه في الحياة.
تطل واجهة المنزل -المكوّن من طابق أو طابقين- إلى الشارع كما ذكرنا آنفًا، أمّا الطابق السفلي فيحتوي على غرفة جلوس، ومطبخ، وبيت للمؤنة، وعنبر، وفرن لطهو الخبز.. ولم يكن لهذا الطابق نوافذ تطل على الشارع، وإن وُضعت فتكون صغيرة جدًّا؛ وذلك لحفظ سكانه من أنظار المارة وتأمين تحركهم بأريحية داخل المنزل. أما الطابق الثاني فيتم الصعود إليه عن طريق سلّم. يحتوي الطابق الثاني على صالة كبيرة تسمى “ديوان خانة”، وعلى جناح للحريم يسمى “حرملك”، وجناح للضيوف يسمى “سلاملك”. وكان يوجد في بعض المنازل صالة صيفية أيضًا. وبالتالي زوِّدت إحدى هذه الغرف التي تسمى “كوشك”، بمشربية تطل على الشارع. ولا شك أن هذه المشربيات، أضفتْ جمالاً على المنازل العثمانية، وصبغتْ الشوارع بلون متميز يسر الناظرين.. صُمّمت نوافذ هذه المشربيات بطريقة تمكِّن سكان المنزل من مشاهدة الخارج دون أن يراهم أحد، كما أتاحت لصاحب المنزل أن يعرف طارق الباب دون أن يُرى.
يوجد في كل غرفة مدفأة، وموقد للطبخ، وموقد للإنارة. وأهم ميزة لهذه الغرف، احتواؤها على حجرة تتكون من حمام في إحدى زواياها، ومن خزانات يوضع فيها الفرش والألحفة، والأغراض المنزلية. ومما يجدر ذكره هنا، أنه لم يخصص في هذه المنازل غرف للجلوس أو للنوم أو للضيوف أو للأطفال كما في يومنا الحالي، بل كان سكان المنزل جميعهم يتناولون الطعام ويقضون ما تبقى من وقتهم في الغرفة نفسها، ثم إذا ما حل المساء بسطوا فرشهم وناموا في نفس الغرفة أيضًا، وفي الصباح يطوون الفرش ويواصلون حياتهم اليومية على نفس هذه الوتيرة.. كانت مفروشات المنازل العثمانية التراثية متواضعة للغاية، فبدلاً من الأثاث والأرائك التي نفرش بها منازلنا اليوم، كان يُجلس على المصاطب التي تبنى في كنار النوافذ، وغالبًا ما كان يُمدّ على الأرض بساط أو حصير، وأحيانًا سجادة مع طرّاحات على الأرض.
إذا أمعنا النظر في الطراز المعماري للمنازل العثمانية هذه، سنرى بوضوح تأثير الحياة الترحالية الرعَويّة؛ حيث أنشئت من مواد قصيرة العمر كالخشب، والطين، واللبِن، الأمر الذي يوحي بأن فكرة الهجرة والترحال لدى هؤلاء الناس حاضرة دائمًا.. ولعل هذا الأمر، يعكس نظرة المجتمع العثماني إلى الحياة؛ فهم ينشئون منازلهم بمواد سريعة التفتت والاندثار، ولكنهم حين يقيمون المنشآت للدولة أو للأوقاف الخيرية أو يقيمون المساجد.. فإنهم يستعملون موادًّا من الصخور والأحجار قويةً تبقى إلى ما شاء الله، وكأنهم يريدون بذلك أن يقولوا: إن منازلنا التي تمثلنا نحن البشر فانية، وإن المنشآت التي تمثل الدولة باقية.. بمعنى أننا نحن الفانون، والله هو الباقي.. واللافت للنظر أيضًا، أن هذه المنازل شبيهة ببعضها البعض بشكلها وطريقة عمارها، لذا يصعب تمييز منازل الأغنياء عن منازل الفقراء، وهذا -بدوره- يعكس لنا القيم المشتركة التي تبناها المجتمع العثماني، والتي لعبت دورًا كبيرًا في تقليل الفوارق بين طبقات المجتمع في الدولة العثمانية.
لم يكن اهتمام الشعب العثماني في منازلهم بالخضرة والنباتات فقط، بل كان للحيوانات أيضًا نصيب في ذلك؛ حيث كانوا يربّون الحيوانات في منازلهم للإفادة من لحومها وألبانها من جانب، ومن جانب آخر يعتنون بالطيور التي تتخذ المداخن والسقوف مسكنًا لها؛ كطائر اللقلق، وطائر السنونو، بل كانوا يعتبرون هدم أعشاش الطيور هذه ذنبًا كبيرًا.
لا شك أن الاعتناء بداخل هذه المنازل أكثر من خارجها، وثيق الصلة بهيكلة الأسرة الإسلامية.. فرغم انغلاق هذه المنازل على العالم الخارجي، فإنها كانت تلبي كل ما تحتاجه الأسر في تلك الآونة.
ولكن مع تحوّل الفهوم حول عالم المنزل، وتبدّل طراز العمارة والهندسة، بدأنا نبتعد عن تراث أجدادنا العريق هذا، الذي ركّز بالدرجة الأولى على الإنسان وإصلاحه وبالتالي سعى إلى تأمين راحته وسعادته.. ولكن رغم ذلك تبقى تلك المنازل التراثية واحدة من نماذج هندستنا المعمارية النبيلة، تذكرنا بماضينا العريق، وتدفعنا إلى بناء مستقبلنا المضيء.
كاتب مقال: د. ممتاز أيدين