البعوضة حشرة ضئيلة من ثنائيات الأجنحة (Diptera)، لا يتغذى ذكَرها على الدماء وإنما على رحيق الأزهار، وليس له أيّ دور لِلّسعات المعهودة من البعوض.. لكن الأنثى، فمها مصمم بشكل يناسب ثقب جلد الإنسان والحيوانات ذات الدماء الحارة.
تُعتبَر الأنثى مصدرًا غنيًّا بالبروتين لإنتاج البيض، تفرز على الجرح سـوائل من غدتها اللعابية تؤدي إلى الاحتقان، وتمنع تجلط الدم؛ فتجعله ينساب بسهولة إلى فمها. ولكن إذا كانت الأنثى حاملة لكائنات دقيقة تسبب الأمراض؛ انتقلت إليها من لسعة سابقة لإنسان أو حيوان مصاب، فيُحتمَل أن تَنقل هذه الكائنات عبْر سوائل الغدة اللعابية وتنشر الأمراض في محيط واسع.. لذا ليست خطورة هذه الأنثى في طنينها المزعج، أو في لسعاتها التي قد تكون مؤلمة ومسببة للحكة والاحتقان فحسب، بل خطورتها فيما تنقل من كائنات تسبب الأمراض الوبائية الخطيرة أو الفتاكة؛ وهي طفيل الملاريا (Plasmodium)، وطفيل الفلاريا الذي يسبب داء الفيل (Elephantiasis)، والفيروسات المسببة لمرض الحمّى الصفراء (Fever Yellow)، والحمّى المخية (Encephalitis)، ومرض أبو الركب أو حمّى الدنج (Dengue Fever)، والحمّى النازفة (Fever Hemorrhagic)، وحمّى الوادي المتصدع (Rift Valley Fever).. ويمتد خطرها إلى عديد من الطيور والثدييات كذلك، ومن تلك الأمراض؛ مرض دودة القلب (Heartworm Disease) الذي يصيب الكلاب خاصة، ونادرًا يصيب الإنسان، وهو ناتج عن الإصابة بنوع من طفيليات الفلاريا.
تتكون حشرة البعوض من رأس وصدر وبطن كباقي الحشرات. ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الطويلة النحيلة، ولها زوج من الأجنحة وعضوان بجوارهما في موضع زوج آخر ضامر من الأجنحة يستخدمان كأعضاء توازن، وتوجد قشور عديدة على أوردة الجناحين تزيد من قدرة الجناح على الطيران.
تبيض البعوضة 100-400 بيضة، وتفرز منها آليات التوازن البيئي أعدادًا قليلة تستطيع إكمال الحياة وبلوغ طور النضوج، في مدة تبلغ 7-10 أيام في بعض الأنواع. كما يمكن أن تولد البعوض في حدود أسبوعين بعد وضع البيض إذا ما توافر الماء؛ لأنه ضروري لفقس البيض وحياة اليرقات والعذارى، ويمكن للبيضة الكُمونَ لفترات طويلة في انتظار الماء. وقد تفقس البيضة بعد 1-3 أيام من وضعها، لتتحول إلى يرقات تمكث بدورها من خمسة أيام إلى عدة أسابيع، قبل أن تتحول إلى عذراء. واليرقات أو الدعاميص نشطة الحركة، لذا تسمى بـ”الهزازات”، تأكل بشراهة، وتتغذى على الطحالب والمواد العضوية في الماء. وهي من النهم والشراسة، إذ تتغذى على يرقات أمثالها.
تتنفس اليرقات عن طريق أنبوب ناحية الذيل، وعند إثارتها، تأتي بحركة لولبية، لذا تسمى بـ”البهلوان”. تمكث اليرقات يومين أو ثلاثة أيام قبل خروجها من غلافها حشرة كاملة، وتتهيأ بعد مدة قليلة للتزاوج. يوجد من البعوض أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف نوع ينتشر في بيئات مناخية مختلفة، ليبلغ كل منطقة يعمرها الإنسان، ويمتد من المناطق الاستوائية حتى الدائرة القطبية، ومن الأودية إلى رؤوس الجبال.. ولكن كيف تستطيع البعوضة أن تتحول؟ من أين أصبحت لها هذه القابلية في تغيير جلدها ثلاث مرات، وبعدها تصبح بعوضة كاملة؟
إنها عناية الله تعالى وبديع صنعه، قال عز وجل: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)(النمل88)، وقال سبحانه وتعالى:(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)(الأعلى:3). إذن، الله سبحانه وتعالى قدّر لها أن تعيش فهداها لطريقة عيشها.. إنه الله سبحانه وتعالى الذي وضع خطة التكوين، وقدّر المقادير لكل شيء، وهو العليم الحكيم.
البعوض يدرك الكائنات الحية
إن البعوضة لها قابلية الحس بالكائنات الحية بواسطة حرارتهم. فإن البعوضة تستطيع أن تلتقط حرارة الأجسام بشكل ألوان. ولكن هذا الحس للحرارة، لا يعتمد على أشعة الشمس أي على الضوء؛ فإن مقدار الحس البصري لديها يعادل 1/1000 درجة بالنسبة للحس الحراري. والبعوضة تملك حوالي 100 عيينة، وهذه العيينات موجودة في الرأس على شكل يشبه قرص العسل. تقوم عين البعوضة باستلام هذه الإشارات وتنقلها إلى الدماغ. والإناث من البعوض -كما أسلفنا- هي التي تتغذى على الدم، أما الذكور فتتغذى على رحيق وعصارات النباتات.
تستعمل البعوضة تقنية تجلب الحيرة للعقول؛ فالنظام المعقد المستعمل كالتالي:
1- عندما تحط البعوضة على الهدف، أولاً تقوم بشم الدم ومعرفة إنْ كان دمًا مناسبًا لها أو غير مناسب. فإن وجدته غير مناسب تركته وبحثت عن غذاء آخر.. وبناء على ذلك تتعامل مع الإنسان باعتبار رائحة دمه. لذا نجد بعض الناس لا يتأثر بلسعات البعوض حتى ولو كان في وسط موبوء بالملاريا.
2- بعد التأكد أن نوع الدم مناسب لها، تقوم بالبحث عن مكان مناسب رقيق وفيه كمية دم غزير، كالأوردة والشعيرات الدموية التي تحت الجلد، ثم تحدد البعوضة مكانًا معينًا بواسطة الشفاه الموجودة في الخرطوم، لأن للبعوضة إبرة مغلفة بغلاف خاص، تخرجها عندما تقوم بمص الدم (وهي عبارة عن تجويف في الشفة العليا). إن الجلد لا يثقب بواسطة هذه الإبرة كما هو يُتَصوّر، ولكن بواسطة الفك العلوي الذي يشبه السكين، والفك السفلي الذي يحتوي على أسنان مائلة نحو الداخل. فالفك السفلي يعمل مقام المنشار؛ أي يتحرك مثل المنشار في الجلد والأوعية الدموية.. ويحتوي تجويف الشفة السفلى على سائل لزج يساعد بقية أجزاء الفم على التجمع معًا كأنها عضو واحد. والجلد ينشق بمساعدة الفك العلوي الذي يكون بمقام السكين، ومن المكان المنشق تدخل الإبرة المكونة من تجويف الشفة العليا واللسان إلى أن تصل إلى العرق وتقوم بعملية مص الدماء.
وكما هو معروف عن جسم الإنسان؛ عندما يخرج الدم من مكان، فيتخثر في مدة قصيرة بمساعدة الأنزيمات الموجودة في الجسم. إذن تبدو هذه الأنزيمات مشكلة للبعوضة؛ لأن الثقب الذي أحدثته البعوضة سينغلق بعد مدة قصيرة، مما يعني أنها لن تستطيع امتصاص الدم بالقدر الكافي.. ولكن الحقيقة ليست كذلك، لأن البعوضة تقوم بصنع مادة في جسمها تفرزها في جسم الإنسان في تلك المنطقة.. مادةٍ تمنع من تخثر الدم، كما تقوم هذه المادة بإحداث تهيج في الجلد، مما يسبب توارد الدم إليه، وبذلك تكمل عملية امتصاصها للدم. والبعوضة عندما تلدغ الإنسان من مكان معين، فإن هذا المكان ينتفخ ويحمر، فيحس الإنسان بحكة، وسبب ذلك هو الأنزيم الذي قامت البعوضة بإفرازه لمنع التخثر.
لا شك أن هذه الأعمال تضعنا أمام أسئلة كثيرة، منها: كيف تعرف البعوضة صلاحية الدم من عدم صلاحيته؟ كيف تعرف البعوضة وجود هذا الأنزيم الذي يخثر الدم؟ كيف تبطل البعوضة مفعول أنزيم التخثر بصنع أنزيم خاص؟ وما هي هذه المادة الكيميائية، ومتى يحدث هذا؟ كيف تستطيع البعوضة أن تصنع هذا الأنزيم داخل جسمها، ثم تقوم بنقله -بواسطة تقنيتها- إلى جسم الإنسان؟
جواب هذه الأسئلة بسيط؛ إن البعوضة لا تستطيع أن تفعل أي شيء، لأنها لا تملك عقلاً مدركًا، ولا معلومات حول الكيمياء، ولا مختبرًا لتصنيع هذه الأنزيمات.. فالحشرة التي نتكلم عنها، لا يزيد طولها عن بضع ملليمترات، ولا عقل لها ولا علم. فالذي خلق الإنسان وخلق هذه البعوضة -الحشرة غير العادية الخارقة- وجعلها صاحبة هذا النظام الدقيق الخارق المعجز الذي يصيب الإنسان بالذهول، هو الله الخالق البارئ المصور.. هو الله القادر على إعادة الخلق مرة أخرى، ويبعث الخلق إذا أراد.
هل لنا أن نتأمل كيف أن البعوضة تمتلك جهازًا لتحليل الدم دون أن يدخل الدم إليه.. فهي على بعد من الدم تستطيع أن تحلل الدم إن كان صالحًا لها أو لا قبل أن تخترق الجلد. وهل لنا أن نتأمل جهاز التخدير الذي أودعه الله في البعوضة، إذ لولاه لكانت عندما تقف على جلد الإنسان وتغرس خرطومها، لشعر بها ولقتلها، لكنه لا يشعر بها إلا بعد أن تمص دمه وتذهب. كما تختار البعوضة الضحايا الأصغر سنًّا، بسبب ارتفاع نسبة الهيموجلوبين في دمهم عن الكبار.
هل لنا أن نتأمل مد الجناح في ظلمة الليل البهيم وهي تعرف طريقها إلى الإنسان؟ هل لنا أن نتأمل عظمة الله في خلق البعوضة، تلك الحشرة المعجزة المدركة للكائنات الأخرى؟ وتم دراسة السلوك الفطري الغريزي للبعوضة، فأظهرت أنها تقوم بعدة جولات سريعة فوق الضحايا، والغرض هو قياس معدل الأيض لكل جسم نائم عن طريق كمية الماء في الزفير والإشعاع الحراري، لأنه كلما ارتفع كان الضحية أصغر سنًّا.
أما بالنسبة للحشرة التي فوق البعوضة فهي بيضة من حشرة أخرى تفقس لمجرد جثوم البعوضة على جسم دافئ وتخرج منها يرقة من البيضة التي على جسم البعوضة (Pupa)، وتتجه إلى الثقب الذي أحدثته البعوضة، لتتغذى على الأنسجة في الداخل، وتكون دودة تحت الجلد على شكل دمل كبير مؤلم جدًّا، وهي تابعة لنوع من الذباب يعيش في أمريكا الجنوبية.
(*) كلية العلوم، جامعة الملك عبد العزيز / المملكة العربية السعودية.