الإنسان بنيان فريد، والقيم الأصيلة التي جُبل عليها هي اللبنات المشيدة لهذا الصرح وهذا الكيان الفريد، وبها يشيد الصروح ويعلي القباب وينسج معالم الحياة الراشدة التي يعبر بها إلى عالم الخلد الحقيقي.
يجهل الكثير ممن اضطربت عندهم تراتبية المصالح، أن مستلزمات العيش الكريم في هذه الحياة الدنيا عبر تاريخ الوجود الإنساني منذ آدم أبي البشر إلى آخر نبض إنساني، هي على البساطة واليسر والوضوح والهدوء ما دامت سنن تلك الحياة ثابتة، ومقاصدها ومعانيها معلومة مبثوثة، وأسرارها وحكمها طويت في التراب، لأنه أصل الخلق ومعدنه. يكفي المرء أن يمعن النظر في مقاصد الأشياء التي تحوم به، ويعرضها على متطلبات عيشه، كي يوقن بعدها أن مساحة التوسع التي أحدثها الطموح المجنون اليوم، لم تجعله يهنأ ويطمئن لحاله، بقدر ما جعلته كائنًا جشعًا مسعورًا، همه المزيد من الاقتناء والاستهلاك، لأن رغباته لا حدود يمكن أن تقف عندها.. وهكذا تضيع القيم الإنسانية في أجواء الرفاهية المفرطة والبذخ الرهيب. وكلما اعتلى الطموح الدنيوي نسينا وتناسينا المعدن الأصيل، وصرفت عملتنا ورصيدنا الخلُقي وراء الجري والاقتتال على المزيد من الطرائد التي تحقق لنا ذلك الطموح.
لما خلق الله تعالى الإنسان لم يتركه سدى، بل حباه بألطافه ورحماته بأن هيأ له موطنًا يتلاءم مع بنيانه وبنيته، ووهبه عقلاً وقلبًا يعقل بهما سر الوجود ومقاصد الحياة، وركّب فيه غرائز وأشواق متزنة ومنضبطة مع تكوينه وطموحه يندفع بها نحو جلب مصالحه التي يراها منسجمة مع كيانه، ونسج له من الشرائع والأحكام ما يعرّفه بحقوقه ويضمن له العيش بما يرضى عنه خالقه.. وهكذا فصّلت شريعة الإسلام في متطلبات الحياة، وهي على البساطة والتيسير والصفاء قبل أن تقلب إفرازات حضارة اليوم ومظاهر الحياة المعاصرة موازينها، فتعقد مسالكها، وتعكر صفاءها، وتربك أولوياتها، وتفسد نظامها بما أحدثته من أشياء ومفاتن ورغبات وأشواق جنونية.
محال أن نسلك مسالك الرشد إذا لم نكتسب عوامل الممانعة لواقع هذا الزمان، ونحيي روح النقد فيما نتلقى من سيول المظاهر الحاملة لقيم الانحطاط التي حطمت كبرياء الإنسان.
فَهِم علماء الإسلام الفطاحل المبرزون في علم المقاصد لطائفَ التشريع، وصاغوا منهجًا رفيعًا مستوحى من هدي القرآن والسنة في تراتبية المصالح التي تقوم عليها الحياة؛ حيث إن تلك المصالح مبثوثة مؤصلة في الدين الذي ارتضاه الله للعالمين، وثابتة لا يمسّها التغير مهما تغيرت الأزمان والأوطان، وهي مرتبة إلى ضرورات وحاجات وتكميليات، تشكل نظامًا رائعًا للحياة يرقى على النظم المصطنعة المعوجّة، وينسجم مع قيم الفطرة الأصيلة، ويستوعب مطامح الإنسان وحقوقه وتطلعاته.. وإذا فُقد هذا النظام (نظام المصالح) فُقدت القيم واختلت الحياة، وفُتح باب العبث بمطامع الإنسان والطيش بأذواقه، واتجه في نهاية المطاف إلى المجهول، وتلك خلاصة ما أوصلتنا إليه اليوم الحضارة المعاصرة وما أفرزته من مظاهر.
قررت شريعة السماء الغراء وهدي الوحي الوضاء، أن الحياة الدنيا مرحلة كونية عابرة، وكل ما فيها من ركام الأشياء يغدو أشلاء، وكل ما حوته من قناطير الجواهر يستحيل هباء، وما شيد فيها من أبراج وصروح وقمم مآله الفناء.. وذلك في عشرات الآيات والأحاديث الشريفة، يقول الله : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً(الكهف:46)؛ لو تأمل الإنسان قوله تعالى “زينة الحياة” لأدرك أن الحياة مظاهر، وإذا اختزل الإنسان وجوده وأحلامه وآماله في المظاهر العابرة عبور الطيف في السماء، لم تدركه الباقيات الصالحات التي تبقى له رصيدًا يوم لا ينفع المرء مال ولا بنون، ولا شيء من مظاهر الحياة التي كان يستعرضها ويبغي فيها المجد والعلياء.
ضحالة الحياة الدنيا
إن مظاهر الحياة المعاصرة مجرد فقاعات تملأ الفضاء ما تلبث تنفجر فيخبو بريقها ويبقى الفراغ مخيمًا، كذلك شأن ما يتباهى به الإنسان اليوم من حطام الأشياء وركام الأزياء، وما يستعرضه من ممتلكات أو ليس إلا مستعارات، وإن كانت براقة وفاتنة ومغرية، تبقى في نهاية المطاف كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(النور:39)، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(الفرقان:23)، وتظهر معاني زيف وأوهام المظاهر جيدًا عندما ينصرف الإنسان من نشوة الاستعراض المادي لتلك المظاهر، وينعزل وحيدًا متجردًا هو والتراب، آنئذ يصغر ويضعف وجوده وتتضاءل مطامعه المادية حين يعلم يقينًا أنه لم يرجع بشيء من تلك المظاهر، ولم يدخر منها مجدًا ولا علياء ولا اعتزازًا.
وفي عز الافتقار والحرمان المرحلي من الأشياء، ترق المشاعر، ويتهذب الوجدان، ويصحو في المخيال الزهد، وينتفض الورع، وتربو القناعة، ويتجسد الصبر والإحسان.. وكل المعاني الرفيعة التي تعرِّف الإنسان بأصله وتعيده إلى سيرته الأولى، وتنسج له تلك المشاعر من المودة والرحمة والتسامح ما لا ينسجه الكبر والأنانية والترفع على الآخرين، وكلها لطائف من لطائف التشريع التي ما تفتأ تذكِّر الإنسان بالتراب، تنجلي في سجود الإنسان على الأرض في الصلاة، وتجرده بلباس الإحرام في الحج، وإمساكه عن الملذات من مطعم ومشرب في الصوم، وزهده في ماله بالزكاة.
لا بد أن يدرك الإنسان أن سبيل الاعتلاء القيمي لم يكن ولن يكون يومًا بالانخراط المفرط في الملذات وإن كانت مطلوبة بالقدر الذي يخدم الأصل ولا يحيد بالإنسان عن الرشد.
انفراط عقد منظومة القيم
أفول الفضيلة هي النهاية البئيسة لأطماع الإنسان التائه بين ركام الأشياء الفارغة، وحطام الأزياء التافهة التي لم تستطع بزخارفها أن تستر السوءة، وتعلي من جواهر الفضائل التي غرزت في الفطرة، بقدر ما كشفت الستار عن كل ما هو غير مستحسن عقلاً وشرعًا في الفكر والقول والسلوك، منبئة بانفراط عقد القيم. وبذلك تكون حضارة اليوم المادية بوسائل إعلامها الساحرة، وببهرجتها وسيولها الجارفة لكل موروث قيمي، قد نجحت في نزع القدسية عن المقدس، والمهابة عن المهاب، والهالة التي هالت على الشرفاء والأفاضل من الأنبياء والصالحين والعارفين الزاهدين معاقل القيم ومترجمي الفضيلة، في الفكر والمنطق والسلوك، ونصَّبت الرديء والوضيع والخسيس منصب الأكارم، وصارت للقيم معاني أخرى ومعايير مغايرة، واختلط الحق بالباطل، والجدّ بالعبث، والتنظيم بالارتجال، في صفحة وإشراقة واحدة جمعت كل المتناقضات، والنتيجة الاعوجاج والزيغ عن الهدى.
وبناء عليه، محال أن نسلك مسالك الرشد إذا لم نكتسب عوامل الممانعة لواقع هذا الزمان، ونحيي روح النقد فيما نتلقى من سيول المظاهر الحاملة لقيم الانحطاط التي حطمت كبرياء الإنسان.
والمؤسف حقًّا أن تلتمس تصرفات الناس أعذارًا، بأن تعرض رغباتهم في قالب مفاهيم التدليس كمفهوم الحرية الذي يعتبر مبررًا قويًّا لسلوك الناس، فصار كل تصرف مرفوض عقلاً وشرعًا، مستساغا في عالم اليوم، بدعوى تلك الحرية في الاختيار والتملك والاستعراض للمظاهر، سقط الإنسان في مستنقع الشهوات وورد من حنظلها، وصار قوته اليومي ما أفرزته وتفرزه تلك الحضارة من معرفة غير ممنهجة وقيم هابطة.
شذرات من ملامح العودة للفضيلة
بعد أن يشفي الإنسان غليل غرائزه ويروي عطشها، ويقبل بنهم على اقتناء ومشاركة واستهلاك أشياء الحياة، ويتخم حتى الثمالة من موادها مطعمًا ومشربًا وتفكها ومركبًا ومأوى وقرارًا وتجملاً، يستيقظ في وجدانه عطش جديد للفضائل ونهم فريد للقيم، ينبئه بحرمانه لعنصر الرقي والارتفاع إلى الطموح الحقيقي، ويقتنع حينها بأن مظاهر الحياة التي فرضتها حضارة اليوم، تبقى في نهاية المطاف مجرد فقاعات فارغة، تحمل الوهم بقدر تسحر الفهم، وتجيش الغرائز وتفسد الضمائر، تمتع الأبدان وتحرم الوجدان، تجمل المظهر وتشوه المخبر.. حينها يتفطن من يتفطن إلى خدعتها وكيف غيرت ببهرجتها نظم الحياة وحادت عن المنهج الرشيد، وأزاحت عن الوجود قيم الإنسان الأصيلة، وأفقدت المعنى والطعم الحقيقي للحياة وبوأت الصدارة لقيم الحياة المادية. حين يعي الإنسان ذلك كله، ويوقن أنه قد بعثر المجهود في طلب المفقود، سوف يتجه حتمًا نحو تصحيح المسار في درب الحياة.
لا بد أن يدرك الإنسان حجم الهوة بين الأصول والقيم الموجهة للفعل الإنساني، وما أحدثته نظم الحياة المعاصرة من رغبات وتطلعات زائفة صارت هم الإنسان ومطلبه، لا بد من ردم هذه الهوة وإلا سوف يتحول وجوده إلى العدم.
لا بد أن يلتقط الإنسان الإشارات، ويستنير بومضات الوحي كتابًا وسنة، فهو خطاب الزمان والمكان، وهو نبراس الهدى والمرشد إلى الجنان، ويكفي لهذا الإنسان أن يستضيء بأنوار الشريعة الغراء ويستظل بظلالها الوارفة، ففيها الملجأ والمأوى من جرافات الفضائل ومفسدات الأذواق.
لابد أن يتذكر الإنسان غاية وجوده في هذه الأرض وأدواره الحقة، وينسجم في حركاته وسكناته مع قيمه الأصيلة وإن أبت الحضارة المادية إلا أن تختزلها في الجانب الغرائزي البهائمي.
لا بد أولاً وانتهاء، أن يخلو الإنسان بنفسه؛ هو والتراب كلما استعصى عليه الفهم، وماجت في خاطره الأشواق للترف في النعم، وأسره جمالها وزخارفها، لا بد أن يدرك أن سبيل الاعتلاء القيمي لم يكن ولن يكون يومًا بالانخراط المفرط في الملذات وإن كانت مطلوبة بالقدر الذي يخدم الأصل ولا يحيد بالإنسان عن الرشد.
(*) كاتب وباحث مغربي.