لقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، فقد قال الله تعالى في شأنه:” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” وقد أسر قلوب أصحابه ومن عرفوه بهذه الرحمة وبهذا العطف، وفي سيرته العطرة من المواقف ما يدل على رحمته ورقة قلبه فمن ذلك بكاؤه عندما حكى له أحد أصحابه قصة وَئْده لابنته في الجاهلية، فقد كان هذا الوأد من شرور الجاهلية التي أتى الإسلام ليعالجها ذكر الأستاذ كولن هذه الرواية في النور الخالد قائلاً: ” حضر مرة أحد الصحابة مجلس رسول اللّٰه ﷺ، وذكر له هذه الوحشية الجاهلية، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الْأَوْلَادَ، وَكَانَتْ عِنْدِي ابْنَةُ لِي فَلَمَّا أَجَابَتْ -يعني: أنها كبرت قليلاً- وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِي إِذَا دَعَوْتُهَا، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا، فَاتَّبَعَتْنِي فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْرًا مِنْ أَهْلِي غَيْرَ بَعِيدٍ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ بِهَا فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِي بِهَا أَنْ تَقُولَ: يَا أَبَتَاهُ! يَا أَبَتَاهُ! فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، فَقَالَ لَهُ : “كُفَّ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ “، ثُمَّ قَالَ لَهُ : “أَعِدْ عَلَيَّ حَدِيثَكَ” فَأَعَادَهُ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : “إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنْ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ” .
لقد تأثر الرسول بهذه القصة تأثرًا شديدًا حتى بكى بكاء أثَّر في الحاضرين من حوله، وجعل بعضَهم يلومون هذا الرجل لأنه أحزن النبي ﷺ، لكن الرسول ﷺ يطلب من هذا الرجل أن يعيد القصة، فيعيد القصة ويتجدد بكاؤه أشد من المرة الأولى، ثم يطمئن خاطر الرجل الذي قد جاء مشغول البال حزين النفس يريد أن يفضي إلى الرسول ﷺ بهذا الهم الذي يؤرقه، بأن الله قَدْ وَضَعَ عَنْ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا، فغفر لهم وعفا عنهم، ومن ثم يمكنه أن يستأنف عمله الصالح في الإسلام مطمئن الفؤاد إلى سعة رحمة الله وعفوه.
نعم إنها صورة مبكية حكاها الرجل بكل شجَن، تصور عادة من أقبح عادات الجاهلية، فالبنت الصغيرة متعلقة بأبيها على عادة الصغار، تسارع إلى تلبية دعائه إذا دعاها بكل سرور، وذات مرة يدعوها لتخرج معه فتسارع كعادتها في الاستجابة له، لكنه ينزع الرحمة من قلبه، ويلقيها في أحد الآبار مغلبا نزعة الجاهلية وعاداتها الوحشية على شعور الرحمة والعطف، وتزداد الصورة ألمًا حين تصرخ البنت مرددة: يَا أَبَتَاهُ! يَا أَبَتَاهُ!، لكن قلب الوالد الذي تحجَّر لا يستجيب لهذا التوسل، ويخضع لهذه العادات الوحشية الفاسدة.
نعم لقد نجَّى الإسلام هؤلاء الأقوام من وحشية عاداتهم وقسوتها التي كانت تتغلب على وجدانهم، وما طبع عليه الإنسان من لين ورحمة بفلذات الأكباد.
يقول الأستاذ كولن معلقًّا على هذه الحادثة: “فكأن رسول اللّٰه ﷺ كان يقصد من تكرار هذه الحادثة إفهامهم: “هكذا كنتم قبل الإسلام، وما طلبت إعادة الحادثة إلا لأذكركم بالقيم الإنسانية التي منحها لكم الإسلام.”
لقد ذكر الأستاذ كولن هذه الحادثة في معرض حديثه عن رحمة بعثة النبي ﷺ إلى قومه وعقب عليها بالقول: “من هذا المثال الأليم المفجع، تدرك مدى الأزمة التي كان يعيش فيها إنسان ذلك العصر.. فإلى جانب آلاف الفظائع الأخرى، كانت تُحفَر هناك حفر عميقة في ظلام كل يوم في تلك الصحراء، ويرمى فيها أطفال أبرياء ليلقوا هناك حتفهم. أجل، لقد سبقت البشرية الضباع في الوحشية بمسافات كثيرة.. فالذي لا يملك المخلب والناب، كان مصيره الافتراس والقتل من قبل ذي المخلب والأنياب، وكان المجتمع يتقلب بين آلام أزمات حادة، ولم يكن هناك من ينهي هذه الأزمات، أو يجد لها حلاًّ ودواء.
في هذه الأثناء، يعتكف نبينا في غار حراء -الذي سيكون اسمه بين أمته فيما بعد “جبل النور”- ويفارق مجتمع الناس؛ هناك يثبت ناظريه في الأفق، وينتظر فجر الخلاص.. والظاهر أنه كان يضع جبهته على الأرض، ويبتهل لربه ساجدًا لساعات طويلة، يسأله خلاص الإنسانية، وإرسال منقذ لها، ذلك لأن الشيخين (البخاري ومسلم) عندما يقصّان هذه الفترة يستعملان تعبير “فيتحنث فيها”، وهذا التعبير يعني أنه قد اعتزل عن الناس وأسلم نفسه للعبادة.
أجل، كان رسول اللّٰه ﷺ يبقى أحياناً هناك، ولا يرجع إلى مكة إلا عندما تنفَد مؤونته، ثم يرجع إلى الغار مرة أخرى حاملاً معه ما يكفيه من الزاد. لا شك أنه كان في الغار يتأمل الوجود، وما وراء هذا الوجود.. يتأمل الخلق والكائنات، والغاية من هذا الخلق، والهدف منه.. ثم يتأمل ما آلت إليه الإنسانية من حال مفجِعة تقشعرّ منها الأبدان، وتتفطر لها القلوب.