أعلم أننّي أكثرتُ الحديث عن الكتابة، ولكن ما حيلتي؟ فإن مثلي كمثل طفل لمّا يحسن التعبير بعدُ، خرج لمهرجان مليء بالألعاب والمُتع التي تخلب ألباب الصغار، فعبّ من تلك السعادة الغامرة ما استطاع أن يعبّ، ثم عاد ركضًا لبيته حتى يحكي لأهله عما رأى وسمع، ولكن أنّى له التعبير؟ وأين تراه يجد الوصف الذي يسعفه؟ فيريد لو يخرج لهم قلبه ليروا ما رآه، مُوثَّقًا بالصوت والصورة.. ولكن هيهات. فيطفق المسكين يتلعثم ويقفز ويصرخ، ليقرب لهم الصورة ما وسعه أن يفعل، والأهل غارقون في ضحكهم، يسخرون من منظره الطريف. فكذلك أجدني لما أعود من عالم الكتابة، على تواضعي وقلة زادي، لا أعرف كيف أصف الذي رأيت، وإنما أجتهد ما استطعت، فأقول – مثلاً – أنه مكان أشبه ما يكون ببحيرة طويلة لا نهاية لها، تحفّها الأشجار الباسقات، وماء تلكم البحيرة من الصفاء بحيث ترى القاع البعيد، تتراقص فوقه الظلال تراقص الأشباح، وأنتَ تنساب فوقه بقاربك، وتحتك تمرق أفواج السمك بسلام، والجو هادئ ساكن، يلفك بهدوئه وسكونه حتى تغدو جزءًا لا يتجزأ من ذاك المشهد البديع، وطرفًا لا غنى عنه من جمال تلك اللوحة الزاهية، فتلمس بأناملك الماء الهادئ كأنما تلمس الجمال نفسه، وترى وجهك على صفحته كأنما هو وجه روحك ذاتها، فتراه جميلا بلا سكرة من كبر، وتشعر بعقلك متوازنًا، مرتب المنطق بلا ذرة من تكلف. ثم تطفق – وأنت على تلك الحال – تصطاد بقصبتك من تلك البحيرة الدافئة، فإذا السمك يخرج في هيأة كلمات.. فيا لجمال تلك البحيرة ويا لغرابتها! كلا بل هي شيء آخر غير الجمال، ومفهوم مغاير لمفهوم الغرابة المعروف. لأن الجمال والسعادة والغرابة كلها معان محجوزة سلفًا، ولا يمكن حشر هذا الشعور الجديد الفريد بجانبها، إذ أنه ليس من جنسها، ولا يمتّ إليها بسبب من الأسباب إلا ما كان من قبيل القياس والتشبيه، فالفرحة والراحة والطمأنينة والسكينة، كل أولئك مشاعر من نفس العائلة، عائلة السعادة. ولا يمكن أن ندخل عليها هذا الشعور الجديد، الذي ليس من عالمنا المعاش، والذي ورطت نفسي – يا ويحها – في وصفه وتحليله.
أفيكون شعور الكاتب وهو ينهي ما أراد كتابته هو شعور هاو الصيد وقد وضع آخر سمكة، ليمتلئ بها سطله باللحم الطريّ الشهي؟ أم هو شعور الأم وهي تمدّ ذراعيها لتمسك مولودها الجديد؟ لا، ليس هذا ولا ذاك، وإنما هو شيء آخر لا يحسّه إلا الذي يحمل بداخله جينات هذه الهواية.
هذا عن جمالية الكتابة وبهجتها، فأما عن غرابتها فمن وجوه عديدة لا من وجه واحد، وقد لا أعرف من هذه الوجوه إلا بقدر توغّلي في ذاك العالم. من ذلك – مثلاً – معاناة الكتابة التي لا تُفسد جماليتها، بل تزيدها بريقًا! ومن ذلك غموض المحلّ الذي تأتي منه مادّة الكتابة، وتولدُ من رحمه هذه السطور المنتظمة كأنها صفوف الجند! مع أن الفكرة – الأساس – تكون واضحة، بسيطة، مُصمتة لا يتوقّع المرء أن تخرج منها أوراقٌ أو مجلدات! كالبذرة الصغيرة المحتقرة، يخرج منها – بقدرة قادر – جذع غليظ عريض طويل، لا يزال يتطاول حتى لتحسبه بالغ قبة السماء! فالفكرة التي خطرت لي – مثلاً – قبل لحظات من تسويد هذه السطور، كانت شيئًا من قبيل (عن متعة الكتابة وبهجتها)، فنبتت منها كل هذه الكلمات التي ترون، والتراكيب المتشابكة المعقدة التي لا تفتأ تتوالد وتتقاسم كخلايا المضغة في عنق الرحم.
وأين أنا من هذا كله؟ ومالي أراني كأني لا دخل لي بما يحدث أمام ناظريّ من (إنكتاب)، اللهم إلا حركة يدي، وعيني التي تقرأ بصمت كما تقرأ كلمات أي كتاب من الكتب. أليس في هذا غرابة (فلسفية) تُعجز عن الوصف؟
ربما تبدو الكتابة من أقلّ العمليات الإنتاجية تكلفة، إذ لا تتطلب إلا شيئًا يُكتب عليه ولو كان ورق الشجر، وأداة تترك أثرًا مقروءًا ولو كان الحجر! أما ما يكلّفك ذلك – نفسيًا وماديًا – مع كرور الأيام وتراكمها من دون أن تنتبه لذلك، فحدّث عنه ولا حرج.. إنه الوقت الذي تبذله في البحث عن كل ما يُقرأ، والمال الذي تدفعه لشراء ما يسيل له لعابك من المقروءات، مع أنك لن تقرأ – في الغالب – الكثير منها. ثم الساعات الطويلة من الوحدة والصمت والتأمل والقراءة، والصراع الرهيب الذي ستثور ثائرته بينك وبين نفسك (الناقدة)، التي لا يكاد يعجبها شيء، والتي ليس لها من هدف سوى أن تثبطك وتثني عزمك، وتثبت لك أنك لست – ولن تكون – كاتبًا أبدًا (ولو سوّدت وجهك بالمداد!)، فيكون عليك ألا تحفل بما تقول، وتكتب رغمًا عن أنفها كل ما تقول أنه سخيف ومبتذل ومكرر وسطحي.. لتجد كل تلك الأحلام تتبدّل -غالبًا- عند نقطة النهاية، فتسكت تلك الناقدة خاسئة، خجلى.
إذا صبر الكاتب على كل تلكم الضرائب والرسوم التي لا مفرّ من تسديدها، فإنه يسترجع كل أتعابه السابقة – إن شاء الله – ويزداد كيلاً من المتعة والنشوة، وشيئًا من ذلك الشعور الغريب الذي لا وصف له، والسر المستغلق الذي لا مفتاح له، والحجر الكريم الذي لا وجود له.. إلا في عالم الكتابة، في قاع من قيعان تلك البحيرة المترامية الأطراف! وأما إذا شاء الله بالكاتب خيرًا فإنه يصوّب رأيه ويسدّد رميه، فيفتح على يديه ليبلغ أثره في الإنسانية مبلغًا لم تبلغه أعتى العساكر قطّ.