لا شك أن الحالة الراهنة للأمة تبعث حالة من الأسف في نفوس الغيورين عليها، ويكثر بين أفرادها تكرار الحديث الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل : يا رسول الله، وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا، وكراهية الموت(
يتردد هذا الحديث في المساجد والمؤتمرات والكتابات بل والمقالات، والحالة المصاحبة لتلاوة الحديث هي حالة الأسى على الأمة، والشعور المصطنع بالحزن على مآلاتها.
ليست تلاوة الحديث والوقوف عليه في مظانه، والعلم به والشرح له تعني أن نبوءة عظيمة تم اكتشافها، أو أن حدثًا هائلًا قد تمت إماطة اللثام عنه، وليس إسقاط الحديث على الواقع ابتكارًا، بل هذا الحديث ينطبق على حال الأمة منذ عشرات السنين، ودون في كتب السنة منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان .
مدد الغثاء
مدد الغثاء هو الذي وقف على رباط من أربطة الإسلام فأسهم في نفاذ العدو من خلالها، يأتي في هذا السياق الذين ضيعوا معنى الإنسانية في معاملاتهم فبدوا كأشخاص لا يعنيهم إلا أنفسهم يعيشون ويموتون لها، تلك المعاني التي ربما نستلهمها في إشارة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” ثم أشار لبعض هذه الأخلاق التي منها نصرة المظلوم، وهي ذات المعاني التي هدأت بها روعه أم المؤمنين حين دخل عليها يرتجف قائلًا : ” زملوني زملوني” فقالت له : (والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، ففطرة الطاهرة قادتها لأن تعرف أن مكمن النصرة وعدم الخذلان هو في بذل المعروف والنصرة والعون لكل محتاج، وأن صاحب تلك المعاني العظيمة له من الله تسديد .
ويذكر السيوطي أن هذه الصفات كانت في أبي بكر رضي الله عنه، حيث يصفه قائلًا: (كان ذا مال جزيل في قومه ومروءة تامة وإحسان وتفضل فيهم كما قال ابن الدغنة : إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتقري الضيف) وقد قالها ابن الدغنة لأبي بكر وقد رآه خارجًا تاركًا مكة، لكنه ما رضي خروج الصديق من بين أظهرهم وهو بهذه الصفات الإنسانية المجتمعية العظيمة .
وحين يحاصر أهل الفتنة عثمان رضي الله عنه كان من ضمن مآثره التي يذكرها لهم قوله: (…فو الله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام) وهي قيمة خلقية عظيمة في حياة الإنسان حين لا يكون ثمت شرع، ويتعفف وينأى بنفسه عن الفحش ويدرك بفطرته شر الزنا. حين تضيع معاني الصلة، والوفاء، ونصرة العاجز، وإكرام الضيف، وعون الضعيف، تكون هذه ثلمات ينفذ منها المتربص للأمة بموجب السنن الإلهية .
وانظر إلى هذه الواقعة التي يحكيها جعفر بن أبي طالب بعد قدومه من الحبشة؛ فقد لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «حدثني بأعجب شيء رأيته بأرض الحبشة» قال: مرت امرأة على رأسها مكتل فيه طعام، فمر بها رجل على فرس فأصابها فرمى بها، فجعلت تنظر إليه، وهي تعيده في مكتلها، وهي تقول: ويل لك من يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه! فقال: “كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفها من شديدها حقه وهو غير متعتع” فإحدى علامات الضياع هو تظالم الناس فيما بينهم، حين يأمنون المؤاخذة أو العقوبة، حين تسري روح الظلم عند من يقدر تجاه من لا يقدر، أو حين يكون القادر في مأمن من مغبة ظلمه، فقد اختل الرباط الذي هو عليه، فقد يرتد بصر القارئ للقصة عند حدود دفع العجوز من الشاب القوي، وهذا غير مراد، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: “كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفها من شديدها حقه وهو غير متعتع” فالضعيف في المجتمع على أي وضع كان ضعفه؛ فقد يكون طالبًا أمام أستاذ، أو مريضًا أمام طبيب، أو ذا حق أمام قاض، أو ذا حاجة أمام مسؤول أو موظف، حين يشعر أنه لا سبيل لأخذ حقه، وأنه يعتمد على ما يستقبله في الدار الآخرة من وفاء الحقوق نسيئة فيها، فصاحب التضييع قد حل الرباط الذي يقف فيه، ووصل بنفسه إلى كونه واحدًا من أمة الغثاء.
حين تكون في صلب الأمة
كون المرء يريد أن يعيش في صلب الأمة وفي قلبها يؤثر في أحداثها ويصنع بعضها همة الكبار، وقد يكون المرء مغمورًا لا يلتف إليه أحد، لكنه واحد ممن هم على الحق ظاهرين، وتلك غاية يسعى لها كل من سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون”
فكأن هناك أقوام مدخرون لكل عصر ولكل مكان- يقومون بأمر الله تعالى، ويرى الناس فيهم صدق الوحي المطهر تنظيرًا وسلوكًا، لا تهزهم الأعاصير ولا تجرفهم الأمواج، بل هم من يجعلون من كل عاصفة مغنمًا، ومن كل إعصار طاقة تتجدد، يشير النووي لبعض صفات هؤلاء فيقول : (ويحتمل أن هذه الطائفة معرفة بين أنواع من المؤمنين، منهم: شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع آخري من الخير، ولا يلزم أن يكون مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض) فحيث لم يكن المرء في موقعه واحدًا ممن تُرى فيه الصورة المثلى لأخلاق الشريعة وأحكامها، فليدون بنفسه نفسه في صف الغثاء.
وحين تكون النعمة على صاحبها سابغة، والفضل من الله تعالى عليه واسعًا، فليقم للنعمة بحقها حتى لا تتحول النعمة التي آلت إليه، ويتحول بتحولها من رجل الفاعلية إلى شخص الغثاء، قال الله تعالى:{هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) فمجرد البخل بالنفقة في سبيل الله عرضة للاستبدال، وعرضة لمحق النعمة من أساسها، فما دامت النعمة قائمة فلها عليك حق لا يتحول .
إن عناية المرء اليوم يجب أن تكون في تحديد هدفه، وهدفه يجب ألا يتخطى أن يكون سعيًا موصولاً دؤوبًا للفرار من كونه لبنة في أمة الغثاء، إلى كونه واحدًا من الظاهرين على الحق، ولا يعامل الله بطريقة عبد السوء، الذي يبذل وينتظر جزاء وفق مراده، بل البذل في طريق الله يكون لأنه طريق الله لا أنه مشروط بنتائج محددة في نفس صاحبه يقول المولى عز وجل:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } (الفجر: 15، 16) فجعل الإكرام والإنعام بلاء، وصور بعض النفوس على أنها تسير في تقييم أمورها وفق العطاء المشروط في النفس الذي يراعي فيه صاحبة سنن الناس وطرائقهم. فأي إنعام حظيه حمزة ومصعب بن عمير وجعفر بن أبي طالب وهم من خاصة أهل الإسلام والسابقين إليه، وقد مضوا إلى الله، لم يروا نصرًا ولا فتحًا؟!
فمن عامل الله تعالى عامله هكذا، بذل وتضحية، ورجاء وطمع خالص في الله والدار الآخرة، قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (الشورى: 20)
وروي عن النابغة الجعدي، قال:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : أنشدني، فأنشدته :
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرًا
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إلى أين يا أبا ليلى؟” قلت : إلى الجنة، قال : “نعم إن شاء الله”
فهذا هو غاية من يكون من أمة الخير لا أمة الغثاء، حيث يضع الجنة مطلبه لا مغانم أخر مهما زانتها أعراف أهل الدنيا، يرضى بحصولها، وييأس أو يتولى بتأخرها .
حاصل الأمر أن الحياة كالكتاب، من الناس من يعيش في المتن، ومنهم مَن مكانه في الحاشية، ومنهم مَن لا تحمله الصحائف لا في المتن ولا في الحاشية، وهم الغثاء الذي لا قيمة له سرعان ما يختفي وتصطلمه عجلة الحياة ويموت كالسائمة وهو مصير لا يليق بمسلم.