تبدأ فصول القصة هناك.. بعيدًا بعيدًا بمقياس الزمان والمكان، وتتصل بحدثين عظيمين: خلق آدم وتكريمه، وإخراجه من الجنة بسبب إغواء إبليس، وبدء خلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي سيكون على يديه نهاية الصراع بين الحق والباطل بعد النزول إلى كوكب الأرض، وقبل أن تحين لحظة الرجوع من جديد. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى وجبت لك النبوة ؟ قال: “بين خلق آدم ونفخ الروح فيه”. وفي رواية: “وآدم منجدل في طينته”().
وأحداث القصة لا تخرج حول شخصياتها الثلاث: الملائكة بمادتها النورانية الطاهرة، وإبليس بطبيعته النارية المارقة، وهذا المخلوق الطيني الجديد الذي جمع الله فيه قابلية الطهر الملائكي، والعتوّ الشيطاني. وفي بقعة مباركة من الملكوت الأعلى تردَّد في الأرجاء صوت العظمة والجلال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة).
التكريم والاختبار
علّم الله تعالى آدم، وأظهر مكانته، وأمر الجميع بالسجود له إذا نفخ فيه الروح، أنزل الله تعالى آدم مسكنه الجديد في الجنة، وحذّر من كيد عدوّه، قال: (يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (سورة طه). ومن بين أشجارها الكثيرة الوارفة اختبره فنهاه عن الاقتراب من شجرة بعينها، ولكن حدث ما سبق في علم الله النافذ، وإرادة الباهرة إذ تمكن إبليس من إغواء آدم فوسوس له، وأقنعه بالأكل منها.
ظنّ إبليس أن الطبيعة الطينية ـ التي راهن عليها ـ كافية لأن تُثقل آدم، وتجعله يهوي في حمأة غرائزه وشهواته، ويتمرّد عن عبوديته لربّه.. تمامًا كما حدث معه، لكن ذلك لم يحدث، بل ظهرت شخصية جديدة لهذا المخلوق الأواه المنيب، إذ لمّا (ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة الأعراف). وسريعاً ما تداركت آدمَ الرحمةُ على إثر هذا الكلام (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)(سورة طه).
بعدها آذن الحق جلّ جلاله باختبار آخر.. شاق وطويل فأنزل آدم وعدوه من ملكوت السماء إلى الأرض، وجلّى لهما الحقيقة . وتجلت الرحمة الربانية الغامرة بذرية آدم حيث خاطبهم سبحانه وهم في عالم الغيب، وأخذ عليهم الميثاق في صلب أبيهم، وحذّرهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (سورة الأعراف)، وقضى سبحانه بأن كل مولود منهم يُولَد على الفطرة، وأن انحرافهم عنها سببه مؤثر خارجي طارئ.
بداية الاختلاف
أدرك آدم شراسة العداوة، وتنبه لشرف التوبة والاستغفار، واشتاق للعودة إلى الجنة من جديد. وفي المقابل، عرف إبليس غايته، وحدّد رؤيته، ولم يجرؤ مجدداً على إغواء آدم مدة حياته، وبات المستهدف هو القادم من ذريته! لكن أنى له ذلك وهم كثرة كاثرة، يولدون على الفطرة بحكم الميثاق الأول، ولا يزدادون بالتوحيد إلا قوة واجتماعاً؟!
وبعد ألف سنة عثر إبليس على الجواب، وأدرك بأن الاختلاف بداية الانحراف فأطلق شعاره القديم: فرّق تسد، ثم أسس مدرسته العالمية الأولى التي تضم تخصصين نادرين: نظري لتشويه تصورات بني آدم وقناعاتهم، باعتماد مناهج الكفر والإلحاد، وتحريف الأديان، وتوليد البدع، وتطبيقي لتشويه إراداتهم وسلوكهم، عبر برامج تدريبية متقدمة في تكريس الصراع، وفن الاختلاف، ونشر الفساد في البر والبحر، وبرامج أخرى موازية في التخطيط لنشر الحروب، وسفك الدماء، وحياكة المؤامرات على مدار التاريخ! ومن فصول تلك المدرسة الإبليسية تخرج قادة الأشرار وعتاة الإرهابيين من بني آدم، الذين تخوفت الملائكة من ظهورهم.. في قائمة غابرة طويلة ضمت: فرعون، وهامان، وقارون، وأبي جهل، وأبي لهب، وقوائم أخرى أطول يظهر رموزها بين الحين والآخر.
تعاظم الكيد الشيطاني شيئاً فشيئاً، ودخلت البشرية في متاهات الجهل والظلم، وازدادت حدّة المواجهة، فبدأ الشرك بالظهور ومعه دب الاختلاف والاقتتال. قال تعالى عن تلك اللحظة الفارقة من تاريخ الصراع (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً) مجتمعين متعاونين على التوحيد (فَاخْتَلَفُواْ) بسبب الشرك واقتتلوا. قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنه: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق (فَاخْتَلَفُواْ) فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
تداركت البشريةَ رحمةُ الله تعالى من جديد، فنصب لها منارات التوحيد في مسيرها الطويل الشاق، وأنزل عليها الكتب، وأرسل الرسل، وأيدهم بالدلائل والمعجزات الباهرة، قال تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) (البقرة- 213)، وتقاطر موكب الأنبياء والرسل (تترى).. نبياً إثر نبي، ورسول بعد رسول، حتى بلغوا ـ فيما قيل ـ مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، منهم ثلاثمائة وخمسة عشر رسول، جميعهم يدعون إلى كلمة واحدة (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ) وغاياتهم ثلاث مشتركة في كل زمان ومكان: تعريف الناس بخالقهم وأسمائه وصفاته، وتبصيرهم بشريعته الموصلة إلى كرامته، مع تبشير الطائعين وإنذار العاصين المعرضين.
واختص سبحانه خمسة من الرسل بمزيد شرف ومكانة، ولقبهم (بأُوْلي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) لقوة إرادتهم، وثباتهم في الدعوة، وعزيمتهم، وصبرهم على أذى أقوامهم: نوح أول الرسل، وإبراهيم أبو الأنبياء، وموسى وعيسى، أعظم أنبياء بني إسرائيل قدرا،ً وقدوات المؤمنين من أهل الكتاب، ومحمد عليهم الصلاة والسلام خاتم الأنبياء وخليل الرحمن عليهم الصلاة والسلام.
“مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح”
ظلّ مشهد الصراع يتكرر حتى آذن الله تعالى بتباشير رحمته؛ ففي صبيحة (حراء) من ذلك اليوم المبارك أشرقت أنوار الهداية، وتنزلت غيوث الرحمة، وبدأ حدث فريد، وفصل جديد من فصول السعادة ببعثة محمد ‘.. استبشر به أهل الأرض في زمن الفترة، وابتهج أهل السماء ليلة الإسراء والمعراج.. إذ ما كان جبريل يستفتح سماء فيسمعُ ملائكتُها المقربون أن معه (محمداً) حتى يبادروا بسؤال جبريل: وقد أرسل إليه؟ فيقول: نعم، فيقولون: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ثم يفتحون له أبواب السماء، فإذا دخلها والتقى بأشرف نازليها من إخوانه المرسلين ابتهجوا بقدومه وبادروه قائلين: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح.
وفي موكب التكريم العظيم كان آدم عليه الصلاة والسلام أول المحتفين بالابن القادم، والنبي الخاتم الذي حفظه في ذريته، وأخرج منهم سادة المؤمنين وأشراف المتقين. قال صلى الله عليه وسلم يحكي خبر ذلك اللقاء الفريد: فلما خلصتُ ـ إلى السماء الدنيا ـ إذا فيها آدم، فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلِم عليه، فسلمتُ عليه فردّ السلام ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح”. وفي السماء السابعة رحّب به أبوه إبراهيم ثم حيّاه بمثلها قبل أن يفد إلى ربه في البقعة المقدسة العليّة التي لم تطأها قدم، ولم يخفق فيها جناح.
المهمة الأصعب في تاريخ البشرية
لم تكن مهمة النبي الخاتم سهلة؛ فالتفريق الإبليسي ضارب بجذوره في القلوب والعقول، وصور الانحراف المجتمعي تعددت لتشمل جميع مجالات الحياة، والموحدون القلائل غرباء في اقوامهم، انزوى بعضهم في كهوف الجبال، وتتابع موت البقية واحدًا تلو آخر، وآل الحال كما قال الله تعالى لنبيه: “إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك.. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمََتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب”.
وما هو إلا قليل ـ بعدما استلم صلى الله عليه وسلم الراية من جديد ـ حتى تجلت الخصائص الأربع لدعوته المباركة: جمع بني آدم من جديد على كلمة التوحيد، وإزالة الفوارق الجاهلية التي زرعها الشيطان بينهم، ومواجهة المعرضين بالقدر الشرعي بدل الكوني، وتحديد هوية الصراع القائم في الأرض.
الدعوة إلى التوحيد، والاجتماع عليه
لم توجه لإبليس ضربة قاضية كتلك التي أعقبت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ـ استجابة للأمر الإلهي: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين)، وإعلانه عن حقيقة دعوته وأنها دعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، والضربة الأخرى التي أعقبت الإعلان الختامي الذي رسّخ فيه قيم العدل والحرية والمساواة على صعيد عرفة، ونزل على إثره: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة:3). وبينهما بلغ شأن التوحيد منزلة رفيعة لم تصل إليه أمة من قبل، اتجهت لأجله بوصلة هذه الأمة في سلمها وحربها، ودعوتها وتعليمها، في نصوص صحيحة كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه وهو يودعه: “إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب، فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه أن يوحِّدوا الله”.
إزالة الفوارق الجاهلية
تمكن الشيطان ـ طوال جولات الصراع السابقة ـ من صدّ البشرية عن سبيل ربها بإيجاد العقبات الوهمية، وغرس الفوارق الجاهلية بينها، بحسب الأوطان والألوان، والأجناس واللغات التي أثمرت الأحقاد والضغائن، وحالت دون اجتماعهم وائتلافهم. ولذا لم يتفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء ـ بعد التوحيد ـ تفرغه لتحييد هذه الفوارق عن مسرح التأثير وترسيخ العامل الأكبر الذي يتفاوت فيه بنو آدم ويتفاضلون فيما بينهم. وها هو عليه أكمل التحايا يناديهم ويوصيهم وكأنه أبوهم آدم في أول أيام نزوله إلى الأرض، يقول “يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ألا هل بلغت؟”. قالوا” بلى يا رسول الله، قال: “فليبلّغ الشاهدُ الغائب”.
دعوة وصبر وتعليم
كانت مهمة الحسم مع المعرضين مناطة في السابق بالقدر (الكوني)، وعلى إثر دعوة من رسول كريم مغلوب، كانت الآيات الكونية ترسل بالعقاب الشامل، والنهايات الأليمة التي تجتث أممًا بأكملها! قال تعالى مهددًا كفار مكة بما وقع للمعرضين قلبهم: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (سورة القمر) .
غير أن تلك الصفحات الكونية الأليمة طويت بمبعث الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم الذي اختار التفرغ للمهمة الشرعية الأصعب في التعامل مع المعرضين؛ دعوتهم، وتعليمهم، وتزكيتهم، والصبر على أذاهم، وأكد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: “إنّ لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته فاستجيب له، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة”. وظهر هذا الحرص جليًا في أيام دعوته الأولى حين جاءه ملك الجبال في واد قفر بعد الطائف، لجأ إليه أسيفًا حزينًا بعدما آذاه أهلها وأغروا به سفهاءهم، ومنعه أهل مكة من دخولها بالسلاح، قال عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات: “فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أفق إلا في قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني مَلك الجبال فسلّم عليّ ثم قال: يا محمد إنّ الله قد سمع قول قومك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربّك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أُطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا”.
تحديد هوية الصراع
استطاع رسول الله ‘ بهذه الخصائص الثلاث أن يرسخ للبشرية ضمانات الاجتماع والتآلف من جديد، ولم يبق سوى القرار الأخير بتحديد هوية الصراع القائم في الأرض، والتأكيد على أنه لم يكن في يوم من الأيام (بشرياً ـ بشرياً)، بل صراعاً (بشرياً ـ إبليسيا) ابتدأ في ملكوت السماء واشتدّت حدّته على الأرض، ومن آثاره ظهر الإرهاب. وبهذا التحديد حشد صلى الله عليه وسلم الطاقات البشرية بعد تفرقها، وجيّشها لمواجهة عدوها الحقيقي، ودعاها إلى ضمانة الاعتصام الأولي، ومصدر القوة الكبرى الذي تزول به صراعاتها، وتتجاوز خلافاتها: (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (آل عمران-64). وجعل صلى الله عليه وسلم مدار الشقاء والسعاة، والموت والحياة مقترنًا بهذه الكلمة الجامعة لبني آدم.. حتى أضحت أول واجب يؤمرون به، وآخر مطلب يموتون عليه قال عليه الصلاة والسلام “من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة”.
وتطوى فصول القصة على هذه الأرض، وتنتهي المدة المحددة للاختبار، لتبدأ مراسم الحدث العظيم لفصل القضاء وتمايز السعداء والأشقياء، ويقف إبليس خطيبًا أمام فوج النار الذين أضلّهم من بني آدم ليتبرأ منهم، ويقول في تلك النهاية الأليمة كلمته العظيمة: (إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم) (إبراهيم-22).
وعلى أبواب الجنة يفد آدم ومن صلح من ذريته، وبينما هم يترقبون لحظة الدخول إذ حدث النزع الكبير لما بقي من وحر الصدور، قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين) (الحِجر-47) والنزع هو استلال الشيء بقوة، فكأن ما تراكم في صدورهم بسبب نزغ الشيطان قد تجذر في العروق، وأصول القلوب لدرجة لا يصلح معها إلا النزع الشديد والاطّراح خارج الجنة من جديد، ليدخلوها بعد ذلك أنقياء أطهارًا كيوم خُلق أبوهم آدم. ولو قدّر لك أن ترى المشهد يومئذ لأبصرت ركام أغلال بني آدم وأحقادهم على أبواب الجنة وقد ارتفعت عاليًا في أفق السماء.. بعد الرحلة الطويلة والشاقة لآدم والصالحين من ذريته.. ابتدأت من الجنة وها هي تعود إليها من جديد.