في الوقت الذي تعتبر فيه النزعة المادية هي المحرك الأساس لأغلب أعمال الناس والخدمات التي يقومون بها حتى وإن تعلقت بالدعوة إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، فإن ذا القرنين قدم لنا نموذجًا راقيًا لما ينبغي أن يكون عليه الانسان الخدوم للدين وللإنسانية، وهو النموذج الذي أرّخ له القرآن الكريم وخط معالمه بمداد الوحي الإلهي المقدس ليكون نبراسًا لكل جند من جنود الله، ولكل غيور على دين الله ولكل متلهف لخدمة عيال الله.
إن ذا القرنين وكما جاء في التعريف القرآني له رجل متمكن في الأرض (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ)(الكهف 84) وهو بالإضافة على ذاك رجل طواف عاشق للتجوال والمغامرة، مولع بالفتوحات القلبية، مهوس بالدعوة إلى التوحيد والعدل، مدمن على تأديب الظالمين الخارجين عن طريق الحق لا يخشى في الله لومة لائم ولا يحركه شيء غير الدوافع الايمانية، كما أنه يتمتع بمنصب سام ورفيع قد توفرت له أسباب الحياة الكريمة بحذافيرها خاصة وأن الله تعالى قد من عليه بكل ما يحتاج إليه من مال وخدم وجيش وعلم وما إلى ذلك من النعم (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا)(الكهف 84)، ومع ذلك لم يكفر النعم ويجحدها كما يفعل الكثير ممن إذا أُنعم الله عليهم سادوا في البلاد وأفسدوا العباد وأهلكوا الحرث والنسل أو على الأقل يخلدون للكسل ويتركون العمل ويكتفون بالتمرغ في النعم طيلة حياتهم دون أدنى هدف أو مقصد إنساني يذكر.
إن سورة الكهف بحديثها عن ذي القرنين تكون قد جلّت لنا صورة رجل متواضع خدوم للناس محب لهم يبذل قصارى جهده لنفعهم ولدفع البلاء عنهم، ولا أدل على ذلك من رحلاته التي قام بها شرقًا وغربًا متكبدًا عناء السفر بعيدًا عن موطنه الأصلي باحثًا لا عن توسيع دائرة نفوذه وجغرافية مملكته، ولكن عن توسيع دائرة الموحدين المحبين لله سبحانه السائرين في طريق العدل بعيدًا عن متاهات الظلم والتسلط (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)(الكهف87-88)، كما أن سورة الكهف عكست لنا أيضًا صورة رجل عظيم لا يجد حرجًا في تقاسم خبراته وعلومه ومعارفه مع غيره، طالما أن المحرك الرئيسي لكل أفعاله هو محرك ودافع إيماني محض، ولذلك وجدناه بعد بلوغه بين السدين واستغاثة أهل المنطقة به لتخليصهم من فتنة يأجوج ومأجوج لم يدخر جهدًا للاستجابة لطلبهم وتحقيق رجائهم ببناء ذلك السد العظيم الذي حال بينهم وبين أجيج وأمواج الفاسدين المفسدين قائلاً( آتُونِي زُبَرَالْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)(الكهف 96) وهو السد الذي لا شك وظف فيه ذو القرنين بعضًا من خبراته فشيده على غير المعهود في بناء السدود مازجًا الحديد بالفضة المذابة مشكلاً في النهاية أعظم سد على وجه الأرض( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَااسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)(الكهف97).
وهنا وجب الانتباه إلى إشارة قوية في هذا الفعل وهي أن ذا القرنين وهو يقوم بهذه الخدمة النبيلة لرفع الظلم والفساد عن أولئك المستضعفين لم يطلب مقابلاً ماديًا لخدمتهم مستغلاً حاجتهم إليه بل أداها بإخلاص وفي سبيل الله (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)( الكهف 94) وهو العرض الذي رفضه ذو القرنين متذكرًا فضل الله عليه وما حباه به من نعم، كابحًا شهوته ولهفته المادية، مطلقًا العنان لقيمه الإنسانية السامية قائلاً( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)(الكهف95) مشترطًا شيئًا واحدًا وهو أن يعينوه بالقوة البدنية لا المادية (فَأَعِينُونِيبِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)(الكهف 95) متعمدًا وهادفًا من وراء ذلك إلى شيء واحد وهو إشراكهم في العمل لتعويدهم الاعتماد على أنفسهم، دفعًا لأي ضرر مستقبلي قد يتربص بهم فكان الأمر أشبه ما يكون بدورة تدريبية تكوينية مجانية أدخلهم فيها ذلك الخبير المحنك الذي لم يمل قيد أنملة عن فعل الخير بسبب المال راميًا إلى توطينهم على حب التوكل والعمل ومقت التواكل والكسل، وهو العمل الذي قل ما نجد إنسانًا في زماننا يقوم به دون مقابل، وخاصة إذا كان هذا الإنسان ذا منصب أو مكانة مرموقة أو صاحب خبرة في مجال ما فتجده لا يشتغل إلا بمقابل بل لا يكاد يخطو خطوة إلا وشهيته مفتوحة لتلقف أكبر قدر من الدراهم واليوروهات في غفلة تامة عن المقابل الأخروي المتمثل في الأجروالثواب المدخر ليوم الحساب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .