يعد كتاب “الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل” موسوعة تاريخية وجغرافية متكاملة، شملت مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية والفكرية لمدينة القدس وما حولها من مدن ومناطق، في عصر صاحبه المؤرخ الكبير مجير الدين العليمي الحنبلي، الذي يعد من أهم المؤرخين الذين كتبوا عن القدس وعمارتها وحضارتها وجغرافيتها. وتعد كتبه من أهم المراجع لتاريخ المدينة المقدسة، والتي اعتمد عليها الكثير من العلماء والباحثين الذين جاؤوا من بعده.
ولد مجير الدين الحنبلي في الرملة عام 860 هـ– 1456 م، وفيما بعد انتقل للعيش في القدس ليتعلم في رحاب المسجد الأقصى وفي مدارس بيت المقدس، ثم انتقل إلى القاهرة ومكث فيها عشر سنوات للاستزادة من العلوم، حيث أجاد الكثير منها، كالتفسير والحديث واللغة والتاريخ.. وعاد بعد ذلك إلى القدس ليتولى القضاء لأكثر من ثلاثين عامًا، في كلٍّ من الرملة والخليل والقدس ونابلس، وذلك في عهد الدولة المملوكية. لُقِّب مجير الدين الحنبلي بقاضي القضاة، واستمر في هذا المنصب حتى ما بعد دخول العثمانيين القدس، وتوفي عام 927 هـ- 1516 م، وله عدة كتب في التاريخ والعلوم.
ما أهمية كتاب الأنس الجليل؟
يعد “الأنس الجليل” من أوسع الكتب والمصنفات التي تناولت تاريخ بيت المقدس منذ فجر التاريخ وحتى سنة 900 هـ- 1494 م، ومن أوفر المصادر التي تناولت الحياة العلمية في بيت المقدس في العهدين الأيوبي والمملوكي، حيث وفر المادة العلمية الصحيحة عن تاريخ كل من القدس والخليل، ويؤرخ للمدينتين المقدستين بشكل خاص، ولفلسطين في فتراتها المتعاقبة بشكل عام. فقد وصف القدس وعمارتها وصفًا دقيقًا، كما وصف الكثير من مدارسها ومساجدها وزواياها وغيرها من المراكز التعليمية، وذكر تراجم لعدد كبير من علمائها وفقهائها والعلماء الوافدين إليها، الذين شاركوا في الحياة العلمية في فلسطين في العهدين الأيوبي والمملوكي.
وتبرز أهمية الكتاب في احتوائه على مادة تاريخية وجغرافية كبيرة، تغطي فترة زمنية طويلة بطريقة موجزة امتدت من خلق آدم عليه السلام، مرورًا بالرسل والأنبياء وكثير من الأمم والدول حتى عام 896 هـ- 1490 م، ومن هنا تظهر براعة المؤلف بإخراج مصنف بهذا الإتقان.
دوافع التأليف
كان الدافع وراء تأليف مجير الدين لهذا الكتاب، الرغبة في تقديم مادة تاريخية تغطي أكبر فترة زمنية لباد العرب والمسلمين، لأهمية المنطقة منذ أقدم العصور، كونها مهبط الديانات السماوية، ومطمعًا للغزاة على مر التاريخ. واتسم أسلوب مجير الدين في جمع مادة كتابه، بالاعتماد على الطريقة النقلية عمّن سبقه من الكتَّاب، كما انتهج طريقة الاختصار في تقديم مادته، وهذا ما أشار إليه في مقدمة كتابه، وحذف الأسانيد في الأخبار التي أوردها. واستشهد بما يزيد على تسعين آية قرآنية، وستة وسبعين حديثًا شريفًا، ومائة وخمسة عشر بيتًا من الشعر في ثلاث وأربعين مقطوعة شعرية، وظفها لخدمة أغراض الكتاب في الحقب التاريخية التي شملها.
وصف القدس وعمارتها
عندما نقف عند وصف الحنبلي لمدينة القدس في موسوعته، نجده يصفها وصفًا مسهبًا شمل جغرافيتها وعمارتها وأراضيها وحاراتها وأبوابها وأسوارها ومساجدها ومدارسها، وكل مظاهر الحضارة والعمران فيها، وذلك خلال القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي). يقول عنها: “وأما مدينة القدس في عصرنا، فهي مدينة عظيمة محكمة البناء، وهي بين جبال وأودية، وبعض بناء المدينة مرتفع على علو، وبعضه منخفض في واد، وغالب الأبنية التي في الأماكن العالية مشرفة على ما هو دونها من الأماكن المنخفضة. وشوارع المدينة بعضها سهل وبعضها وعر، وفي غالب الأماكن يوجد أسفلها أبنية قديمة وقد بني فوقها، فهي بناء مستجد على بناء قديم، والبناء مشحون بحيث لو تفرق على حكم غالب مدن مملكة الإسام لكان حجم المدينة ضعف ما هو الآن، وهي كثيرة الآبار المعدة لخزن الماء، لأن ماءها يجتمع من الأمطار. وأما بناء بيت المقدس، فهو في غاية الإحكام والإتقان، جميعه بالأحجار البيض النحت، وسُقُفه معقودة، وليس في بنائه لبن، ولا في سقفه خشب. وقد ذكر المسافرون أنه لم يكن في جميع المملكة أتقن عمارة ولا أحسن رؤية من بناء بيت المقدس، وفي معناه بناء بلد سيدنا الخليل عليه السلام لكن بناء القدس أمكن وأتقن، وبقرب منه بناء مدينة نابلس. فهذه المدن الثلاث بناؤها متقن لكونها في الجبل، والحجارة فيها كثيرة متيسرة.
وصف المسجد الأقصى
يقدم مجير الدين في موسوعته وصفًا دقيقًا للمسجد الأقصى محددًا مفهومه للمسجد. فمن المتعارف عليه عند الناس، أن الأقصى هو الجامع المبني في صدر المسجد من جهة القبلة الذي به المنبر والمحراب الكبير، وحقيقة الحال أن اسم الأقصى هو لجميع المسجد وما دار عليه السور. فإن هذا البناء الموجود في صدر المسجد وغيره من قبة الصخرة والأروقة وغيرها محدث، والمراد بـ”المسجد الأقصى” هو جميع ما دار عليه السور.
يقول تحت عنوان “ذكر صفة المسجد الأقصى وما هو عليه في عصرنا”: “المسجد الأقصى الشريف -شرفه الله وعظمه- ليس له نظير تحت أديم السماء، ولا بني في المساجد صفته ولا سعته، وكان في الزمان الأول على الصفات العجيبة التي تقدم شرحها.. وأما صفته في هذا العصر، فهي أيضًا من الصفات العجيبة لحسن بنائه وإتقانه، فالجامع الذي هو في صدره عند القبلة التي تقام فيها الجمعة -وهو المتعارف عند الناس أنه المسجد الأقصى- يشتمل على بناء عظيم به قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة، وتحت القبة المنبر والمحراب، وهذاالجامع ممتد من جهة القبلة إلى جهة الشمال، وهو سبع أكوار متجاورة مرتفعة على العمد الرخام والسواري، فعدد ما فيه من العمد خمسة وأربعون عمودًا، منها ثلاثة وثلاثون من الرخام، واثنا عشر مبنية بالأحجار”.
الصخرة الشريفة ومسجدها
يصف الحنبلي الصخرة الشريفة ومسجدها فيقول: “هي في وسط المسجد على الصحن الكبير المرتفع عن أرض المسجد، وعليها بناء في غاية الحسن والإتقان، وهي قبة مرتفعة علوها واحد وخمسون ذراعًا بذراع العمل الذي تذرع به الأبنية، وهذا الارتفاع من فوق الصحن، وأما علو الصحن من أرض المسجد من جهة القبلة عند قبة النحوية فهو سبعة أذرع، فيكون ارتفاع القبة من أرض المسجد ثمانية وخمسين ذراعًا، وهي مرتفعة على عمد من رخام وسواري مبنية في غاية الإحكام والإتقان، وعدد أعمدة الرخام اثنا عشر عمودًا، والسواري أربع. والصخرة الشريفة تحت هذه القبة، يحوطها درابزين من خشب، ويحوط بالعمد والسواري الحاملة للقبة درابزان من حديد، وخارج القبة سقف مستدير من الخشب المدهون المذهب على عمد من رخام وسواري، عدة العمد ستة أعمدة، والسواري ثمان، وأرض القبة وحيطانها مبنية بالرخام باطنًا وظاهرًا، ومزينة بالفصوص الملونة في العلو من الباطن والظاهر، والبناء الذي حول القبة على حكم التثمين وذرع دائرة، في سعته من الباطن مائتا ذراع وأربعة وعشرون ذراعًا، ومن الظاهر مائتا ذراع وأربعون ذراعًا وإن كان فيه نقص أو زيادة فهو يسير”.
قباب الحرم القدسي
ثم يصف مجير الدين قباب الحرم القدسي واحدة تلو الأخرى، مثل قبة السلسلة، وقبة المعراج، وقبة سليمان، وقبة موسى، ولا يترك أثرًا واحدًا من آثار الحرم القدسي إلا ووصفه وصفًا دقيقًا، مثل الأسبلة والزوايا والأبواب التاريخية والمساطب والبوائك والمدارس والخانقاوات. فيذكر من مدارس القدس المدرسة التنكزية، والمدرسة الخاتونية، والمدرسة الأشرفية، والمدرسة العثمانية، والمدرسة أو الخانقاة الفخرية، وغيرها من المدارس.
أسواق القدس
وبعد وصف عمائر وآثار الحرم القدسي، يتحدث الحنبلي عن أسواق القدس، فيقول: “وأما ما في القدس الشريف من الأماكن المحكمة البناء، فسوق القطانين المجاور لباب المسجد من جهة الغرب؛ وهو سوق في غاية الإتقان لم يوجد مثله في كثير من الباد. وأيضًا الأسواق الثلاثة المتجاورة بالقرب من باب المحراب المعروف بـ”باب الخليل”، وهي من بناء الروم ممتدة قبلة الشام، ومن بعضها البعض منافذ، فالأول منه -وهو الغربي- سوق العطارين الذي وقفه الملك صلاح الدين -رحمه الله- على مدرسته الصلاحية، والذي يليه وهو الأوسط لبيع الخضراوات، والذي يليه لجهة الشرق لبيع القماش، وهما وقف على مصالح المسجد الأقصى الشريف. وقد ذكر المسافرون أنهم لم يروا مثل الأسواق الثلاثة في الترتيب والبناء في بلد من البلاد،وأن ذلك من المحاسن التي لبيت المقدس”.
الساهرة أرض المحشر
ثم يتحدث مجير الدين عن الساهرة، وهي من البقاع المشهورة في ظهر بيت المقدس، فيقول: “الساهرة هو البقيع الذي إلى جانب طور زيتا من جهة الغرب. وفي حديث ابن عمر أن أرض المحشر تسمى الساهرة. وهذا البقيع المعروف بالساهرة، ظاهر بمدينة القدس الشريف من جهة الشمال، وبه مقبرة يدفن فيها موتى المسلمين، وبها جماعة من الصالحين، والمقبرة مرتفعة على جبل عال، وأسفل هذا الجبل كهف من العجائب، وهو زاوية للفقراء الأدهمية داخل هذا الجبل في صخرة عظيمة، وتسمى مغارة الكتان. والمقبرة التي هي الساهرة علو سقف هذه المغارة، بحيث إنه لو أمكن حفر القبور من أسفلها لنفذ إلى الكهف الذي هو زاوية الأدهمية ولكن المسافة بعيدة. فإن الصخرة سميكة ضخمة جدًّا، وقد عمر هذه الزاوية الأمير منجك نائب الشام ووقف عليها هو وغيره من أهل الخير، وفيها قبور جماعة من الصالحين وعليها الأنس والوقار. ومقابل الساهرة من جهة القبلة تحت سور المدينة الشمالي، مغارة كبيرة مستطيلة تسمى مغارة الكتان أيضًا، يقال إنها تصل إلى تحت الصخرة الشريفة، ودخلها جماعة وحكوا عنها أشياء من الأمور المهولة.
أبواب بيت المقدس
وبعد ذلك يتجه الحنبلي في موسوعته، إلى وصف العمارة الدفاعية والتحصينية في القدس وعلى رأسها الأبواب والقاع، فيقول عن أبواب القدس: “وأما الأبواب التي للمدينة فأولها من جهة القبلة باب حارة المغاربة، وباب صهيون المعروف الآن بباب حارة اليهود، ومن جهة الغرب باب سرّ صغير لصق دير الأرمن، وباب المحراب وهو المسمى الآن بباب الخليل، وباب يعرف بباب الرحبة. ومن جهة الشمال باب دير السرب، وباب العامود، وباب الداعية المتوصل منه إلى حارة بني زيد، وباب الساهرة. ومن جهة الشرق باب الأسباط.
قلعة بيت المقدس
وعن قلعة القدس يقول: “هي حصن عظيم البناء بظاهر بيت المقدس من جهة الغرب، وكان قديمًا يعرفبمحراب داود -عليه السلام- وكان سكنه بها. ويقال إن بناء القلعة كان متصاً إلى دير صهيون، وفي هذا الحصن برج عظيم البناء يسمى برج داود، وهو من البناء القديم السليماني. وقد جدد الروم والإفرنج عمارة بقية القلعة غير برج داود حين استيلائهم على بيت المقدس. وللقلعة نائب غير نائب القدس، وكانت تدق فيه الطبلخانة في كل ليلة بين المغرب والعشاء على عادة القاع بالباد. وقد تلاشت أحوالها في عصرنا وبطل منها دق الطبلخانة، وصار نائبها كآحاد الناس، لتلاشي الأحوال وعدم إقامة النظام، وقد تقدم أن الوالي بالقدس الشريف كان قديمًا ينزل بالقلعة المذكورة.