محمد السقا عيد
تختلف الرؤية في الماء عن الرؤية في الهواء، لأن الماء أقل شفافية من الهواء، وكلما زاد عمق الماء نقصت شفافيته تدريجيًّا حتى يصبح معتمًا. لذلك تستطيع عين البشر أن ترى في النور على بعد كيلومترات، أما عيون الأسماك فليس بمقدورها أن ترى أبعد من 15 مترًا، هذا إذا كان الماء صافيًا والأشياء المنظورة في نفس مستواها. وإذا كان الماء عكرًا فلا تزيد رؤيتها على مترين. ولكن عيون الأسماك تفوق عيون البشر في حدة الرؤية في الماء، لأنها خُلقت في غاية من الكمال لتناسب الرؤية في الوسط الذي تسكنه.
ومع هذه القدرة الفذة على الرؤية في الماء، لا تزيد عيون الأسماك في تركيبها عما في عيون سائر الفقاريات من ثدييات وزواحف وطيور. لكن الخالق ببالغ حكمته وعظيم قدرته، خلقها لتستطيع الرؤية في الماء؛ فلم يجعل بلورة عينها مثل حبة العدس كما عند الإنسان، بل جعلها على شكل كرة، ولم يجعلها خلف الحدقة كما عند الإنسان، بل جعلها تدخل إلى الحدقة وتبرز من خلالها فوق سطح الرأس، وتلك طرق يشهد علماء المرئيات بحسن ملاءمتها للرؤية الواضحة في الماء وجعل العين كلها بارزة على سطح الرأس كهيئة فص الخاتم ليتمكن السمك من سبر مجال للرؤية أوسع لأنه عديم الرقبة. ومما يميز عين السمك، أن تكيف الإبصار مع المسافات (ويسمى التبئير) يتم لديها بإبعاد أو تقريب البلورة من الشبكية، بينما يكون في سائر العيون بزيادة أو إنقاص تحدب البلورة.
فالإبقاء على الشكل الكروي للبلورة ضروري للرؤية الواضحة في الماء، سواء أكانت العين تنظر إلى شيء قريب أم بعيد. ولو قامت البلورة بتغيير تحدبها كما يتم ذلك في عيون سائر الحيوانات، لفقدت شكلها الكروي ولتشوشت الرؤية في الماء. ولذا فإن الخالق جعل بلورة عين السمك مشدودة بعضلات تتحكم في تحريكها، بحيث يكون التبئير لديها بزيادة أو إنقاص المسافة بين البلورة والشبكية من غير أن يتبدل شكل البلورة الكروي. ومما يسترعي النظر أن عيون الأسماك خالية من الأجفان، وما ذلك إلا من حسن التدبير، لأن الخالق لما أسكنها الماء، أغناها عن عملية ترطيب العين، فتظل مفتوحة العين حتى وهي نائمة.
هناك أسماك ترى في اتجاهين في وقت واحد، وهناك الكثير من الأسماك في البحار المظلمة، مزودة أعينها بمصابيح كالمرآة تضيء لها ما تريد، وذلك لتوهج السطح الداخلي المبطن لتلك الأعين بطبقة لامعة تشبه المرآة وتسمى بـ”الطراز المتألق”. وهذه الطبقة لديها القدرة على عكس الضوء الذي يسقط عليها، بل ولديها القدرة الفائقة أيضًا على تركيز وتجميع ضوء النجوم الخافت أو القمر أو حتى النيران البعيدة.
تلجأ أسماك الأعماق إلى كشافات ضوئية تضعها فوق رأسها. ووسيلتها في هذا السبيل أن تحمل بعض الطفيليات المضيئة من نباتات أو حيوانات، كما أن بعضها مزود بقوة كهربائية غريبة لم يكشف عن سرها بعد.
السمكة ذات العيون الأربع
إنها سمكة توجد في بعض المناطق في أمريكا الوسطى والشمالية والجنوبية. وهي تتغذى على الحشرات غالبًا، لذلك تقضي معظم وقتها على سطح الماء لأجل صيد الحشرات. إنها لا تملك أربعة عيون كما يوحي اسمها، وإنما عينين اثنتين فقط، ولكن تنقسم كل عين منهما لقسمين اثنين، ولكل نصف منهما مقلة خاصة به، وهذا يسمح لهذه السمكة العجيبة بالنظر إلى أعلى بحثًا عن فريسة، وفي نفس الوقت النظر إلى أسفل -تحت الماء- تحسبًا من أعدائها من الأسماك الأخرى.
وقد وهب الله تعالى لكل قسم من عيني هذه السمكة ما يناسبه من تجهيزات؛ حيث يتحمل النصف العلوي من العينين الرؤيةَ في الهواء، في حين يتحمل النصف السفلي الرؤيةَ في الماء. وعلى الرغم من أن نصفي مقلة العين الواحدة يستخدمان العدسة نفسها، إلا أن هناك اختلافًا دقيقًا في سماكة ومنحنى العدسة بين الأعلى والأسفل.
عيون الحيتان
نلاحظ أن وضع العين في جسم الحيوان يوسع نطاق الرؤية أو يحده. فأنت ترى الأمام والجانبين، ولكن موقع عين الحوت يسمح له برؤية ما يجري خلفه أيضًا بعينٍ، كما يرى ما هو أمامه بالعين الأخرى، ولكن ما تراه عين لا تراه الأخرى، فكل منهما ثابتة في موضعها واتجاهها. فإذا أراد الحوت مهاجمة فريسة له اتجه إليها من الأمام مباشرة، وإذا أراد استطلاع ما حوله وقف في الماء ودار بكل جسمه.
عيون الأنبلابس
ولعل أشد العيون غرابة هي عيون سمك “الأنبلابس” الذي يعيش في أنهار أمريكا الوسطى والجنوبية. فإن هذا السمك يرى على السواء ما يجري في الماء والهواء في نفس الوقت، بعينين تنقسم كل واحدة منهما إلى جزئين؛ جزء سفلي فيه عدسة سميكة تجعل السمك يرى في الماء كسائر الحيتان، وجزء علوي رقيق يجعله يرى في الهواء لاختلاف الكثافة الضوئية للماء عن كثافة الهواء. وهذا من بديع الصنع؛ لأن الضوء ينكسر مساره عند انتقاله من الماء إلى الهواء لاختلاف الكثافة الضوئية للماء عن كثافة الهواء الضوئية، فيتطلب الإبصار في الماء عدسةً ذات بعد بؤري طويل، بينما يتطلب الإبصار في الهواء عدسةً ذات بعد بؤري قصير، ولذلك فإنه لما يطفو هذا السمك على سطح الماء، يستعمل الحدقة العليا لرصد ما يجري فوق الماء لاقتناص ما يقتات به من الحشرات ولاجتناب آكلات الأسماك من الطيور، ويستعمل الحدقة السفلى لمراقبة أعدائه من الأسماك.وبهذه العطية الغريبة، يضاعف سمك “الأنبلابس” من حظه في العثور على قوته، وفي الهروب من أعدائه، وليس بإمكان أي عين بشرية، أو أي عين حيوان آخر، أن تفعل مثل ذلك.
عيون سمك النبال
وبوسع سمك “النبال” أن يصيب هدفه على بعدٍ يقارب المترين، ولا أحد يدري كيف اهتدى هذا السمك إلى معرفة قانون انكسار الضوء، ولا كيف استطاع أن يصوّب رميته تصويبًا يعجز الإنسان عنه. إنما هي قدرة الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
عيون سمك القاع
من حكمة الخالق أن أسماك القاع -كسمك موسى والشفنين- لها عيون يختلف موقعها من الرأس عن عيون الأسماك الأخرى، فإنه سبحانه لما جعلها لا تجيد السباحة، خلقها على صورة فريدة، فجعل لها جسمًا مفلطحًا بحيث تستطيع ملازمة قعر البحر والانبطاح فيه، وجعل عينيها في ظهرها حفظًا لبصرها، وجعلهما بارزتين لتستطيع الرؤية وهي مختبئة في الرمل.
ومن الغريب أن هذه الأسماك المسطحة الجسم، تبدو كأترابها عند خروجها من البيضة. فلها جانبان متناظران لا يختلف أحدهما عن الآخر، وعين في كل جانب، لكن سرعان ما يتغير شكلها فيتفلطح جسمها تدريجيًّا، وتقترب العين اليسرى من اليمنى في بعض الأنواع، واليمنى من اليسرى في البعض الآخر حتى تصبح العينان في الجانب الأعلى من الرأس.
ويتجلى حسن الصنعة في عيون سمك القرش ذات المطرقة، فهذا السمك الغريب الشكل له رأس عريض ممتد من الجانبين وكأنه مطرقة، وتوجد كل عين على جانب من هذه المطرقة، فلولا هذا الموقع لم يتمكن من رؤية ما أمامه أو ما وراءه.
الحبّار العملاق
الحبّار العملاق هو أضخم لا فقاري بالمملكة الحيوانية، ولديه أيضًا ثاني أكبر عينين بالمملكة الحيوانية، يمكن أن يصل قطر كل عين إلى 30 سم، وهذه العيون الضخمة تمكّن الحيوان من الصيد تحت عمق 2000 متر حيث يقل الضوء بشكل كبير. والحبار الضخم ينمو ليصل إلى أكثر من 15 متر، وكلما كبر حجمه كبر حجم عينيه. كما أن لديه ما يشبه التلسكوب، مما يعطيه قدرة هائلة على تحديد المسافة بينه وبين كائن آخر في حلكة الظلام.
عيون السرطان “أبو جلمبو“
ومن عجيب ما يلاحظ في الأحياء البحرية بالنسبة للعيون، عين السرطان “أبو جلمبو”؛ فقد رفعها الخالق فوق قرن دقيق في مقدمة رأسه. والحكمة في ذلك أنه حيوان رخو أعزل ليس له صدفة تحميه، فأُعين على مراقبة كل ما يدب حوله بعينين كشافتين، فإذا أحس بالخطر توارى بنفسه في الرمل ثم نصب عينيه فوق الرمل مثل منظار الغواصة لاستكشاف ما حوله، وله من حدة الرؤية ما يمكّنه من رؤية جسم طوله 1.80 مترًا من مسافة 18 مترًا.
السرعوف الروبيان
وهو من ذوي أغرب وأعجب العيون، ويعد السرعوف الروبيان أحد القشريات الذي يملك أسلحة قوية وعدوانية غير طبيعية.
ويملك هذا المخلوق عيونًا مركبة، مكونة من الوحدات البصرية التي تدعى أوميتيديا، ولكنها أقل مما في السرعوف العادي، حيث إن عينه مكونة من 10,000 أوميتيديا. ويرى السرعوف الروبيان الألوان بشكل أفضل بكثير من البشر، حيث إنه يملك 12 مستقبِلاً للألوان، بينما إناث البشر تملك 3 والذكور يملكون 2 فقط. ذلك فضلاً عن رؤية عينيه للأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء معًا، بل وللضوء المستقطب أيضًا. وبالتالي فإن رؤية السرعوف الروبيان، أفضل وأكثر تعقيدًا من باقي المخلوقات. وما زال العلماء يكتشفون الغريب والعجيب في عينيه مع تطور الأبحاث.
سمكة السبوك
سمكة السبوك سمكة مياه عميقة، ويبدو منظرها كالأشباح. تملك هذه السمكة هياكل عظمية للعيون هي الأغرب بين المخلوقات، حيث إن كل عين لديها طرف يسمى رتجًا، والرتج يتكون من مرآة من عدة طبقات من جوانين الكريستال، وهذه المرآة ممتازة في جمع الضوء وعكسه على شبكية العين، وهذا يجعل السمكة ترى ما في الأعلى والأسفل بنفس الوقت. وكذلك مفيدة في الظلمة، حيث تجمع النور وتسلطه على الشبكية لتضيء عيناها كـالسِنوْريات. وكل ذلك يمكّنها من الرؤية في أعماق البحر حوالي 1000-2000 متر.
تعيش سمكة الـسبوك في جميع بحار العالم، ولكنها نادرة الرؤية بسبب العمق الذي تعيش فيه. وتتغذى على القشريات الصغيرة والعوالق، كما أن رصدها صعب للغاية لعمق وجودها في البحار.
ومن الغريب أن هناك سمكًا فريدًا مي نوعه يعيش في المستنقعات الاستوائية المالحة في غرب إفريقيا وفي أقصى الشرق، ويقضي نصف حياته في الماء، والنصف الآخر على اليابسة؛ له عينان جاحظتان جحوظًا كبيرًا، وهما خاليتان من الأجفان، لكنهما رطبتان على الدوام وإن لم يكن السمك في الماء، فقد جعل الله فيه خاصية عجيبة، إذ تغور عيناه داخل رأسه في تجاويف ندية تحفظهما من الجفاف.
ومما يبعث على العجَب أن نوعًا آخر من السمك يتغذى على الحشرات الجوية، له قدرة مدهشة على تسديد نظره إلى ما يراه في الهواء عبر الماء. ذلك أن الضوء ينحرف عند انتقاله من وسط شفاف إلى وسط آخر شفاف مختلف عنه؛ فعندما ينظر المرء إلى ملعقة في كأس ماء، يخيل إليه أنها انكسرت، وإذا نظر إلى شيء ما تحت الماء بدا له مرتفعًا عن موضعه الحقيقي.لذلك إذا أراد الإنسان أن يصيب هدفًا تحت الماء فإن عليه القيام بحساب معقد لتصويب نظره. وسمك “النبال” تعترضه نفس المشكلة لكن في اتجاه مضاد؛ فحين يرى حشرة على غصن متدل، يقترب من سطح الماء ويرمي الحشرة بقذفة مائية دقيقة قلما تخطئ.
وما دمنا نتجول في عالم البحار، وجب علينا أن نتعرف على أكبر الأعين على الإطلاق. وهي أعين رخويات المياه العميقة التي يصل قطرها إلى 40 سم. وهذه واحدة من عجائب الله تعالى في كائنات المياه العميقة. فكثير منها تمتلك أعينًا تلسكوبية الشكل وحدقة كبيرة جدًّا. وجميع هذه التحورات موجهة لتجميع أكبر كمية من الأشعة الضوئية داخل العين، وتركيزها على الخلايا المستقبلة للضوء التي تتميز بالحساسية الشديدة له.
وهكذا فقد اقتضت حكمة الخلاق العليم إعطاء الأحياء -على اختلاف أصنافها وأجناسها- كل ما تحتاج إليه من أعضاء، وما يناسبها ويلائم بيئتها من المؤهلات اللازمة للحياة. فأنشأ لها ما لا يحصى من الأعضاء، وأبدع من العضو الواحد ضروبًا مختلفة، تبعًا لظروف حياة كل موجود.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون، وعضو الجمعية الرمدية المصرية.