مرحبًا عزيزي الإنسان.. أنا الجرادة.. أخبرني أصدقائي أن دوري جاء للتحدث معك عن نفسي وللكشف لك عن عجائب خلقي.
لقد أوجد ربي الكون على نظام بديع لا نظير له ولا مثيل؛ وحمّل كل كائن من مخلوقاته وظيفة يؤديها أحسن الأداء. إذا ما ألقيتَ -عزيزي الإنسان- نظرة شاملة إلى عالم الحيوانات، ستلحظ أمرًا عجيبًا؛ وهو أن الله ذا الجلال الإكرام، وضع بين عدد أنواع الحيوانات وأحجامها تناسبًا تتحير له العقول. فمثلاً، عدد أنواع الحيوانات الصغيرة التي يكون حجمها 0.25 يبلغ 20 ألف نوع، والتي يتراوح حجمها من 0.25 ميكرون إلى 2.5 ملليمتر فعدد أنواعها 220 ألف نوع، وأما الحيوانات التي يتراوح حجمها من 2.5 ملليمتر إلى 25 ملليمتر -وهي الحشرات التي تشكل أكبر مجموعة بين عالم الحيوان- فيصل عدد أنواعها إلى 600 ألف حشرة. وبعد ذلك يبدأ عدد الأنواع يقل وفقًا للأحجام؛ فمثلاً، عدد أنواع الحيوانات التي يتراوح حجمها من 2.5 سنتيمترًا إلى 25 سنتيمترًا يصل إلى نحو 20 ألف نوع، والتي يتراوح حجمها من 25 سنتيمترًا إلى 250 سنتيمترًا فيبلغ عدد أنواعها 1.500 نوعًا، أما الحيونات التي يتجاوز حجمها 250 سنتيمترًا فيكون عدد أنواعها 10 أنواع فقط. كما هو ملحوظ، فإن أكبر مجموعة بين هذه الأنواع، هي نحن الحشرات. والحكمة في ذلك أننا نُعتَبَر مصدر غذاء مهم لكثير من الحيوانات الأخرى.
إن جسمي مكسو بغلاف من الجلد المصنوع من مادة الكيتين، وهو غلاف صلب وخفيف أحمله بكل سهولة. وبالتالي يغنيني هذا الغلاف الصلب عن الحاجة إلى هيكل عظمي، أي لم يضع الخالق سبحانه في الحشرات هيكلاً عظميًّا مثل المخلوقات الأخرى، لأن غلاف الكيتين الصلب يقوم بدور الهيكل العظمي، ولكنه مرن للغاية.
أملك موهبة التحرك السريع، وذلك بفضل التقلّصات الناتجة عن عضلاتي الملتصقة بهذا الغلاف الصلب من الداخل. وبالتالي إني قادرة على حمل 50 ضعف وزني. كما أن الغلاف المصنوع من مادة الكتين الصلبة والمرنة معًا، يساعد على تقليل شدة الصدمات التي أتعرض لها إلى أدنى حد. ويمتاز هذا الغطاء بمقاومته للمياء أيضًا؛ حيث يقوم مقام العازل الذي يمنع دخول الماء من الخارج إلى الداخل تارة، ويمنع فقدان الماء لجسمي تارة أخرى. كما لا يتأثر هذا الغلاف من حرارة الشمس العالية وكذلك من كل أنواع الإشعاعات بسهولة.
ومن المواهب التي أنعمها الله عليّ، هي موهبة التمويه؛ حيث أقوم بتغيير لوني حسب المحيط الذي أتواجد فيه، وأحمي بذلك نفسي من المخاطر. أصارحكم القول بأنكم -يا بني آدم- إذا تمكّنتم من صناعة مادة تشبه مادة الكيتين التي تغطي جسمي، فلا جرم حينها من أن تحققوا نقلة نوعية في تكنولوجيا الطائرات والمركبات الفضائية.
يتكون جسمي من ثلاث أجزاء أساسية؛ الرأس، والصدر، والبطن. ويتحلّى كل جزء من هذه الأجزاء بأعضاء خاصة وتركيبة فنية بديعة. بالإضافة إلى وجود عينين واسعتين في رأسي تشبه خلايا العسل، فهناك أيضًا ثلاثة عيون صغيرة بسيطة التركيب؛ اثنتان منها تتموضع في جانبي الرأس وعين واحدة في وسطه. وبفضل هذه العيون الخمسة، أستطيع مشاهدة أمامي وخلفي في آن واحد. أما اللاقطات الموجودة أمام عينيّ الواسعتين، فلم تُخلَق من أجل النظر، بل إنها لاقطات خاصة لمعرفة الطعام الذي سأتناوله، وللإحساس بما يجري حولي من التحركات.
إن أجزاء فمي تتكون من آلات خاصة تعمل كالمطحنة. فهذه الأجزاء التي صمِّمتْ كالمنشار، والمقشرة، والمِبْرد، تقوم بتحطيم الغذاء من عشب وأوراق بالأحجام المطلوبة، بالإضافة إلى أن شفتي زُوِّدت بنظامٍ لكمْش أجزاء النبات الصالح للأكل.
أما صدري يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء، يتصل بأسفل كل جزء رجلان، فيصبح المجموع ستة أرجل. وكذلك أملك أجنحة على اليمين وعلى الشمال تتصل بصدري. تبقى هذه الأجنحة مطوية أثناء الوقوف على الأرض، ولكن عندما أريد الطيران أفتحها وأحلق بها في السماء إلى مسافات شاسعة.
وأريد أن ألفت انتباهكم هنا إلى موضوع طيراني قليلاً؛ أكوّن مع المليارات من أشقائي الجرادات أسرابًا عملاقة تتألف من 10 مليارات جرادة، وبذلك نبدو وكأننا سُحُب سوداء تغطي بقعة واسعة من السماء. نهاجر بالأمر الإلهي، وعندما نحطّ في أرض، نأتي على الأخضر واليابس فيها ونحولها إلى منطقة جرداء يابسة.
طبعًا هذا الأمر يعدّ مصيبة بالنسبة لكم. لكن كل شيء يتم بمشيئة الله عز وجل. إننا نجتاز -بوحي إلهي- مسافة 5 آلاف كيلومتر من شرق إفريقيا إلى غربها في أقل من شهرين. إن أحد أنواعنا المسمى بـ”الجراد الصحراوي” (Schistocerca Gregaria) نزل في كينيا -عام 1954- على أرض تمتد مساحة 200 كيلومترًا مربعًا، والتَهَم الأخضر واليابس فيها حتى تحوّلت إلى منطقة جرداء لا زرع فيها ولا نبات. كما استولى نوعنا “جراد الجبل” (Malenoplus Spretus) في إحدى المرات، على أرض تمتد 330 ألف كيلومترًا مربعًا من المساحة وجففها أيضًا.
يصل عددنا إلى أرقام قياسية في قزخستان، وروسيا، ودول أسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وإفريقيا، لأن المناخ في هذه المناطق مثالي لنا بحرارته ورطوبته، فضلاً عن أن هذه المناطق مناسبة أيضًا لوضع بيوضنا وفراخنا. حيث أُدخل بطني في التربة (تمامًا مثلما تنثرون البذور)، وأضع بيوضي الشبيهة بحبة الأرز واحدة تلو الأخرى. عندما أضع البيضة تكون مغلفة بمادة مخاطية لزجة، مما يجعلها تغوص بسهولة نحو أعماق التربة، ثم تتصلب هذه المادة اللزجة لتتخذ شكل كيس قابل لحماية البيض. يضع بعض أنواعنا في الكيس الواحد 14-56 بيضة، أما الجراد الحصراوي، والجراد الأحمر، التي تهاجر على شكل أسراب ضخمة، فيتراوح عدد بيوضها في الكيس الواحد من 80 إلى 100 بيضة. ولكي لا تجف البيوض المحفوظة في الكيس وتتلف، وضع ذو الرحمة الواسعة لفوهة هذا الكيس نظامًا شبيهًا بسدّادة القنينة تمنع الجفاف، وكذلك تمنع دخول الرمل إلى داخل الكيس. وبعد مضي 10 أو 14 يومًا من الحضانة، تخرج الفراخ من بيوضها.
أما في المناطق الباردة، يستغرق خروج الفراخ من البيوض 70 يومًا. والملفت للنظر أن الفراخ عندما تخرج من البيضة لا تشبه أمهاتها أبدًا، بل عند الكبر يتغير جلدها وتبدأ الشبه بالكبار. وأثناء تغيير آخر طبقتين من الجلد يكتمل نمو أجنحتها، وبعد تغيير الجلد تمامًا تكتمل الفراخ وتصبح أجنحتها قابلة للطيران.
تتألف حياتنا من مرحلتين؛ أما في المرحلة الأولى فأفضّل الهدوء والمعيشة المنفردة، أما في المرحلة الثانية فيقوم الجميع من الجراد بالبحث عن زوج له. وخلال هذه المرحلة، تتغير حركاتنا ويتغير لوننا وشكلنا، ثم ندخل مرحلة الإنجاب والتكاثر. إذ تضع الأنثى الواحدة منّا حوالي 80 أو 100 بيضة على شكل كومتين أو ثلاث كومات، وبعد بضعة أسابيع يخرج من البيوض مجموعات هائلة من الفراخ، ولكن اجتماع هذا الكمّ الهائل يكون مرتبطًا بدرجة حرارة الجو في أغلب الأحيان.
هذا وإن لون صغارنا يتغير من الوردي إلى الأصفر، ثم تظهر خطوط سوداء على أجسمامها قبل أن يكتمل نمو أجنحتها. والعجيب في الأمر، أن هذه الخطوط السوداء هي علامة مهمة لمعرفة جراد المجموعات بعضها بعضًا.
أتناول في اليوم الواحد ثمانية أضعاف وزني من النبات الأخضر. ولكن بعض أنواعنا تفضّل نباتًا معيّنًا لها للغذاء والقوت.
لقد تحدث القرآن الكريم عني مرّتين؛ فقال في سورة الأعراف: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ﴾، ولو أني لم أر ما نزل على بني إسرائيل من هذه المصائب، ولكني متأكدة أن أجدادي التهم الأخضر واليابس من محاصيلهم وتركهم في مجاعة فادحة. ثم في سورة القمر قال تعالى: ﴿خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ﴾؛ فعلاً هكذا؛ فنحن الجراد عندما نخرج من التراب أفراخًا، نتخبط خبط عشواء، ولا نعرف أين نذهب، وإلى أين نتجه، وكيف نتحرك.
الأبحاث العلمية التي قمتم بها حول حواسّنا، ما زالت ناقصة وغير كافية. إن حواسي حساسة للغاية؛ حيث أدرك حتى تيار الهواء الذي تقلّ سرعته عن 180 مترًا في الساعة، لذلك لا تستطيعون -أنتم البشر- الإمساك بي بسهولة.
لدينا نوع اسمه “جراد الشيطان” (Deinacrida) يملك قدرة فائقة في معرفة حالة الجو بحواسه من تحت التراب، ويقرر الخروج من جحره أو البقاء فيه وفق أحوال الجو. والأغرب من ذلك، أن هذا النوع من الجراد، رغم عدم وجود مادة مقاومة للتجمّد في دمه، يستطيع البقاء داخل الجليد مدة طويلة للغاية، بينما يوجد في معظم دم المخلوقات التي تعيش في المناطق الجليدية مادة مضادة للتجمّد. إلا أن خالقنا الذي أحسن كل شيء خلَقه، وضع فينا نظامًا مختلفًا عجيبًا لا نعرف كيف يمنع التجمد.
إن الأجنحة التي زيّنني بها ربي تحفة فنية بحق؛ فهي خُلقت بتناسق عجيب فيما بينها، حيث أرفرف بسرعة 12-15 مرة في الثانية. وأتمتع أيضًا بموهبة القفز، إذ أستطيع في القفزة الواحدة أن أتجاوز طولي مدى 20 ضعفًا. وموهبتي هذه في القفز، تنتج بفضل ضخامة الفخذ لرجليّ الخلفيتين من جانب، ومن جانب آخر بفضل بروتين الريزيلين الموجود في مفاصلي. أجل، إن ربي الذي خلق بروتين الريزيلين، وضع فيه مادة مرنة للغاية تفوق مرونة المطاط العادي بكثير؛ إذ عندما يُضغط على بروتين الريزيلين بواسطة انطواء وامتطاط الرجلين، يتم تخزين 96% من الطاقة، وعندما تُفرَّغ القوة الضاغطة على بروتين الريزيلين، تندفع الطاقة المخزَّنة بقوة هائلة وأقفز إلى الأعالي بسرعة منقطعة النظير.
حاولت في هذه السطور القصيرة أن أشرح لك -أيها الإنسان- بعض الخصائص التي خُلِقتُ عليها، ولو سمحتْ لي هذه الصفحات بالتعمّق في التفاصيل عن أعضائي الأخرى لفعلتُ ذلك، ولكن إلى وقت آخر إن شاء الله. المهم هو أن تعرف -عزيز الإنسان- أنني مثل الحيوانات الأخرى التي تجلّتْ قدرة الله في أجسامها. وإذا كنتُ قد وُفِّقتُ إلى نقل بعض هذه التجليات، سأعتبر نفسي من المحظوظين. وأطلب منك السماح -عزيز الإنسان- أن لا تؤاخذني إن قصّرتُ في الكلام. اعتنِ بنفسك جيدًا، وأنصحك أن تحبّ كل مخلوق في الكون من أجل الخالق لكي تفوز بحبه ورضاه سبحانه وتعالى.
(*) جامعة 9 أيلول / تركيا. الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.