“لقد قال عالم العصر (ألبرت أنشتاين) للماديين القصيري النظر، الذين حاولوا تأليه العلم في بداية عصرنا الحالي: “العلم دون دين أعمى، والدين دون علم أعرج”. وهكذا انتقد هذا العالم الهذيان المرعب الذي ساد عصرًا كاملاً، انتقادًا لطيفًا. ولا أدري ماذا كان سيقول لو شاهد من هو أعمى وأعرج في الوقت نفسه من بعض معاصرينا الحاليين”(1).
إن العلم والدين شيئان متلازمان، لكن ما يجب أن يتيقن منه كل طالب علم، أن ما يكتنزه القرآن من أسرار لا يمكن لعلم بشري أن يرفع عنه الستار. فالعلم بما يكشف عنه من حقائق يمكن له أن يسهم بشكل فعال في فهم القرآن، وذلك بتوسيعه لمفاهيم آياته المتجددة معانيها مع تجدد علم الإنسان. ففي الآيات الكونية التي تشكل أهم مواضيع البحث والتفكر، نجد القرآن يخاطبنا فيها بأسلوب تأمّلي عن طريق ضرب الأمثال، والهدف من وراء ذلك الدفع بالقارئ إلى نهج طريق البحث النظري المفضي من خلال التفكر العقلي إلى الاطمئنان القلبي الذي به يحصل اليقين.
وهذا يُظهر حاجة الباحث العلمي إلى الاستئناس دومًا بالقرآن، لكن ما يسجل في كثير من مواضيع البحوث يعكس غير ذلك، حيث نجد الباحثين يحتجون في قضايا كثيرة بالعلم على القرآن، فيهيمون في متاهات تبعدهم تكاليفها كل البعد عن الحقيقة التي يرمي إليها الخطاب القرآني. فنجد الباحث من أجل إثبات تصورات بشرية، يحمّل النص القرآني فوق ما يتحمل ليطابقه مع التفاسير التي جاء بها العلم لظاهرة كونية معينة. وهذا من شأنه أن يوقع الباحث في مأزق الإساءة للقرآن، لأنه بفعله هذا، إنما يكون أقحم القرآن في سباق خاسر وراء العلم واهمًا أنه بليّ أعناق الآيات وإخضاعها للتصورات البشرية يكون أظهر السبق العلمي للقرآن، بينما هو في الحقيقة إنما يكون دافع عن تفاسير اجتهادية غالبًا ما تجدها متغيرة.
فهذا المسار الذي عليه مآخذُ كثيرٍ من الناقدين يجب أن يصحَّح بالضوابط العلمية والشرعية، لأن الهرولة وراء توظيف كل ما أظهره العلم من حقائق في تفسير القرآن مثلاً، أو استعمال النصوص القرآنية الاستعمال المجاني لتبرير سبقها العلمي، هو خوض غير مجدٍ في التأويل. فالعلم البشري وُضعت مصطلحاته بتصورات عقلية محددة المعنى، على خلاف النصوص القرآنية التي تحتمل كلماتها أكثر من معنى. الشيء الذي يمنع أيَّ تفسير بشري لأي ظاهرة علمية من أن يرقى إلى مستوى التفسير الحقيقي للآية القرآنية، بل كل ما يمكن أن يصل إليه إنما هو ملامسته لجوانب بعض معانيها الخفية.
وعليه فقراءة النصوص القرآنية خارجًا عن سياقها “المثالي” الذي به يخاطب الله تعالى الإنسان في الكونيات، لا يعرّض الباحث فقط للتقليل من شأنها الدلالي، بل يجعله من خلال انسلاخه عن أبعادها الشمولية مجانبًا لحقائقها اليقينية. كما أن ظن آخرين بأن تفسير الظواهر الكونية لا يمكن أن يُستنبط إلا من تعاليم القرآن خطأ ووهم كبير، لأنه ليس فقط يسُد أمامهم باب البحث النظري والمخبري الذي فتحه لهم القرآن، بل ودعاهم إلى ولوجه، بل يعرّضهم أيضًا إلى النهل من مزاعمَ وتآويلَ ليس لهم عليها أي دليل.
فكلمات القرآن لا يمكن تحديد معانيها بالتعريف المرجعي كما هو معمول به في العلوم الطبيعية التي حُددت كلماتها في قواميس العلوم بإجماع العلماء، لأن من معالم كلمات القرآن، التنزه عن التحديد في المكان والزمان. والظن بأن المعنى الحقيقي لكلمة من كلمات الآيات الكونية التي وردت في القرآن هو ما فهمناه فقط وهمٌ كبيرٌ وتطاول على هذه الكلمات التي مصدرها من الله الذي ليس كمثله شيء. فكيف بكلامه الذي لا تنقطع عجائبه ولا تنقضي غاياته أن تنحصر معانيه في تصوراتنا المحدودة؟ هذا عن الآيات المشاهدة أو المعقولة، فما بالك بالآيات الغيبية التي ليس للباحث عليها أي تصور حسي أو عقلي وهو يخوض فيها بمعطياته العلمية؟!
ومن هنا، إذا كنا وضعنا نصب أعيننا إظهار آفاق اليقينيات العلمية عن طريق إبراز مظاهر الإعجاز في القرآن بتجلي معانيه مع تجدد علم الإنسان، فليس من أجل التباهي بمفاخر الكتاب والتطريب، ولكن من أجل استنهاض الهمم للبحث والتنقيب. لأن استظهارنا لما جاء به القرآن من إعجاز، القصدُ منه أن يترجم على مائدة الإنجاز عملاً تتكامل فيه شمولية القرآن تكاملاً يعيد ذلك الماضي المشرق الذي كان فيه الفقيه عالمًا والعالم فقيهًا.
ففي هذا الماضي المشرق لأمتنا، ما كان العالَمَ الإسلامي ليسبق إلى تأسيس الجامعات في القرن الثامن الميلادي في قرطبة وفاس وتونس وبغداد لولا وجود تلك النظرة الشمولية لأبعاد الحياة المبنية على تحرير الفكر من قيود الاستهلاك، وإقحامه عالم البحث والاجتهاد في مضامين كل إنجاز وعواقب كل إبداع. بذلك تضاعف البحث العلمي وظهرت الفرق والتيارات المتنافسة التي ساهمت في بلورة العلوم، وعملت على اكتشاف آيات الله التي هي جزء من عبادته. فاقتحم الإسلام ساحة العلوم الفسيحة من مختلف أبوابها، واضطر العلماء -لضرورة فهم القرآن وتفسيره- إلى البحث في علوم الرياضيات، والفلك، والطب، والطبيعيات والهندسة وغيرها، كما تطورت مناهج الاستقراء والاستنباط والتوثيق لما في ذلك من ضرورة لضبط العلوم وتدقيقها. واستُعمل المنهج التجريبي للاستدلال على صحة الأشياء بالملاحظة والفرضية والتجربة والبرهان عملاً بقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(النمل:64).
وهذا هو الأصل الذي يجب أن ترتبط به الفروع، كمثل الشجرة؛ الثمار في الأغصان تنمو وتنضج من الجذور الثابتة في السيقان. فنحن اليوم وأمام هذه القطيعة المأساوية مع أمجاد ماضينا المشرق من جهة، ثم أمام هذا الزخم الهائل من المعلومات والإنجازات الوافدة علينا من كل جهة وصوب، لا يمكننا أن نواكب السير إلا بإعادة ربط الأواصر مع ماضينا انطلاقًا من وعي واقعي بمفهوم ذلك التحدي الذي لا بد هو آت. فنهيئ أنفسنا بالخروج من نفق الاستهلاك المعرفي إلى فضاء البحث العلمي، لطرح البديل داخل هذه المتغيرات العالمية قصد إيجاد الحلول المناسبة لما يعيشه العالم من إفلاس في المقاصد نتيجة الفراغ الروحي، وإعادة الاعتبار لمكانة العلوم حتى تتحقق نظرة الإسلام العالمية ويتوضّح نهجه المتميز في تعليم أسس العلم ومقاصده.
(*) كلية العلوم، جامعة ابن طفيل / المغرب.
الهوامش
(1) الموازين أو أضواء على الطريق، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2011، ص:99.