إن مفهوم الهجرة إلى الله ورسوله، الذي أراه في هذه الدارسة، يتمثل في كل رحلة يقوم بها الإنسان المسلم في خدمة الإسلام والمسلمين، وفي القيام بواجب شرعي من عبادة ونحوها، وفي القيام بإنقاذ أية فئة محرومة من الفئات التي أوجب الله على المسلم إنقاذها.
فمن خرج يطلب العلم من أجل أن يرفع مستوى المعرفة عند الناس، من خلال ما يقربهم من الله ويبعدهم عن الشيطان، وينمي لديهم القدرات العلمية التي تفتح آفاقهم على العزة والحرية والكرامة التي يحبها الله لعباده المؤمنين؛ فقد خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله، ومن خرج ليقضي حاجة مؤمن، أو يغيث ملهوفًا، أو ليهدي ضالاً، أو ليقوم بعملية إصلاح بين الناس، أو ليدخل السرور على الناس، أو ليقوم بأي عمل من الأعمال التي يحبها الله ورسوله، فهو من المهاجرين إلى الله ورسوله.
كانت هجرة الأصحاب هجرة من دائرة المسخ الثقافي والتربوي التي يعيش فيها الإنسان تحت تأثير أفكار المفسدين والمنحرفين، الذين ينشرون الفساد الثقافي، والانحراف التربوي، والانحلال الأخلاقي، بما لا يستطيع معه الإنسان المسلم الثبات على دينه.
وهكذا تكون حياة الإنسان المسلم في سبيل كل الأهداف الرسالية الكبيرة هجرة إلى الله ورسوله؛ لأن قضية الهجرة مرتبطة بالمضمون والهدف لا بالشكل والموقع.
أولاً: أنواع الهجرة
بناءً على ما ذكرناه، ينبغي على المسلم الهجرة عن ترك مأمورات الله وفعل منهياته، وبذلك يدخل في الهجرة مهاجرة دار الكفر إلى دار الإسلام ومهاجرة شعار الكفر إلى شعار الإسلام، بشرط أن يكون وقوع الهجرة لأجل أمر الله، وفي سبيل الله؛ فلقد سأل أعرابي رسول الله بقوله: يا رسول الله أخبرنا عن الهجرة؛ إليك أينما كنت، أم لقوم خاصة، أم إلى أرض معلومة، أم إذا مت انقطعت؟
فسكت عنه يسيرًا ثم قال: أين السائل؟
قال: ها هو ذا يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: الهجرة أن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر وإن مت بالحضر.
وفي موقف آخر سأله رجل فقال: يا رسول الله أي الهجرة أفضل؟ قال: “أن تهجر ما كره ربك، وهي هجرتان: هجرة البادي، وهجرة الحاضر، فهي أشدها وأعظمها بلية”.
ومن هذه الأحاديث وغيرها نرى أن الهجرة نوعان:
أ- الهجرة المعنوية: ويقصد بها الانتقال من ثقافة مجتمعات غير المؤمنين؛ بنظمها وعقائدها وقيمها وعاداتها وتقاليدها وتطبيقاتها المختلفة، إلى ثقافة الإيمان بمظاهره وتطبيقاته. وتتجلى هذه الهجرة في صور عديدة منها:
– الهجرة المعنوية القلبية: هذه الهجرة أشارت إليها السنة النبوية المطهرة في مواضع كثيرة منها: “المهاجر من هجر السوء فاجتنبه” و “المهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، لهذا فإننا نجد في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن هجرتهم بالأبدان قد سبقتها هجرة القلوب عما كان عليه القوم من عقائد فاسدة، وشرائع باطلة، وعادات وتقاليد كان لها في هدم الإنسانية ما ليس للمعاول القوية في تقويض البناء الشامخ.
نعم! هاجروا بقلوبهم قبل أن يهاجروا بأبدانهم، هاجروا إلى التوحيد البريء، والإخلاص النقي، والإنابة الحقة، والتوكل الصحيح ومحبة الخير للخير، هاجروا إلى هذه القيم القلبية السامية التي نهضت بالإنسانية –في عصر السعادة– من كبوتها، وارتقت بها رقيًّا وجدانيًّا، ذكّرها بأنها ما خُلقت عبثًا ولا باطلاً ولا لتفسد في الأرض أو تسفك الدماء، ولا ليستعبد قويها ضعيفها.
إن الهجرة في سيرة نبينا محمد لم تكن مجرد واقعة من وقائع هذه السيرة، بل هي أساس اجتماعي، وركيزة عقائدية، ومنطلق فكري وتربوي، وإشعاع روحي، وانبعاث حضاري.
– الهجرة المعنوية النفسية: فلم تكن هجرة النبي وأصحابه فرارًا من الأذى، ولا هربًا من التنكيل، ولا التماسًا للرزق، ولا خورًا في العزيمة، ولا خوفًا من الموت في سبيل الله؛ إنما هو الإيمان الذي يملأ النفوس عزة وكرامة، ويأبى عليها أن تخلد إلى السكون، أو ترضى بالخنوع، أو تذل لسلطان القهر الذي يمنعها الحرية في تصرفها وإقامة دينها، والاتصال بإخوانها الذين تتساند معهم، ليكونوا جميعًا وحدة قوية تحمي دينهم، وتحفظ عزتهم، وفي ظلها يبثون دعوتهم وينشرون العدل، ويحققون السلم والمساواة ويدعون إلى الخير والسعادة.
– الهجرة المعنوية الفكرية: فلقد كانت هجرة الأصحاب هجرة من دائرة المسخ الثقافي والتربوي التي يعيش فيها الإنسان تحت تأثير أفكار المفسدين والمنحرفين، الذين ينشرون الفساد الثقافي، والانحراف التربوي، والانحلال الأخلاقي، بما لا يستطيع معه الإنسان المسلم الثبات على دينه.
ب- الهجرة البدنية: ويقصد بها الانتقال الحسي البدني من مجتمعات الكفر والشرك والضلال، إلى مجتمع الإيمان والهداية والإرشاد، وهي على ستة أقسام:
– الهجرة بالخروج من دار الحرب إلى دار السلام، وهذه الهجرة باقية إلى يوم القيامة، والتي انقطعت بفتح مكة هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان.
– الخروج من أرض البدعة والمنكرات؛ لأنه لا يحل لمسلم أن يقيم بأرض فيها منكر، والمنكر إذا لم تقدر على تغيره فزُل عنه.
– الخروج من أرض غلب عليها الحرام إلى أرض يسودها الحلال الطيب؛ لأن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
– الهجرة بالفرار من الأذية في البدن، وذلك رخصة إلهية، وأول من فعلها “إبراهيم عليه السلام”.
إن الهجرة النفسية والفكرية والقلبية ضرورة من ضرورات وحدة الجبهة الداخلية في المجتمع المسلم.
– الخروج من البلاد الموبوءة مخافة المرض، والذهاب إلى الأرض المعافاة، وهو ما أذن به الرسول للرعاة حين استوخموا المدينة، أن يخرجوا إلى السرح فيكونوا فيه حتى يصحوا.
– الفرار خوف الأذية في المال أو الأهل، لأن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله وأوكد.
ثانيًا: آفاق الهجرة في واقعنا المعاصر
إن الهجرة في سيرة نبينا محمد لم تكن مجرد واقعة من وقائع هذه السيرة، بل هي أساس اجتماعي، وركيزة عقائدية، ومنطلق فكري وتربوي، وإشعاع روحي، وانبعاث حضاري. لذلك؛ فإنه يَحسُن بنا أن نتعامل مع الهجرة من خلال الآفاق التالية:
– الهجرة في واقعها نوع من التعاون والتساند والتلاحم، الذي به تنجح الأمة وتقوى حتى تصير كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضًا، فتُزلزل حصون الشرك، وتُقوض عروش الوثنية، وتحقق نصرة الحق؛ حتى يتحول اتجاه الناس من مجاليّ الشر والشقاء إلى سبيل الخير والسعادة.
– إن الهجرة بمعناها العام مستمرة إلى يوم القيامة؛ ذلك لأن الهجرة توأم الجهاد في سبيل الله، ولدا معًا ويعيشان معًا؛ فقد أكّد نبينا على كون الجهاد ماضيًا وباقيًا إلى يوم القيامة، وأنه لا تنقطع الهجرة حتى تطلع الشمس من مغربها.
– إن الهجرة النفسية والفكرية والقلبية ضرورة من ضرورات وحدة الجبهة الداخلية في المجتمع المسلم؛ إذ يقوم جوهر هذه الهجرة على هجرة المؤمنين للمعتقدات المتناقضة المُفرّقة، لتحل محلها عقيدة واحدة وثقافة واحدة، يكون من ثمارها تجانس السلوك، واتفاق الكلمة، وترابط القلوب وتآلف الأرواح، وامتداد العمل الإيجابيّ البنّاء.
إن الهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمرة، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ لأنها تجتذب العناصر الصالحة المتفوقة من كل جيل من أجيال البشرية كلها، لتلتقي حول أسمى الغايات، وتتعاون لإنجاز أرقى الحضارات.
ترتبط الهجرة بالتوبة ارتباطًا وثيقًا لا انفصام له؛ فإنه كما أخبر الحبيب المصطفى: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها”.
وعلى هذا؛ فالهجرة توبة، والتوبة هجرة، وكلاهما انتقال من الخطأ والجمود والتخلف، إلى الصواب والوعي المتجدد والارتقاء، وانتقال من الرزيلة والهوى إلى الفضيلة والهدى، ومن الباطل الزائف إلى الحق الثابت الراسخ، كما أنها إيمان بالفكرة، وصدق في الدعوة، وجهاد حق تُبذل فيه الأرواح.
– إن الهجرة بمعناها الشامل حركة تجديد مستمرة، وعامل من عوامل قوة الأمة الفكرية والمادية؛ لأنها تجتذب العناصر الصالحة المتفوقة من كل جيل من أجيال البشرية كلها، لتلتقي حول أسمى الغايات، وتتعاون لإنجاز أرقى الحضارات.
– تُظهر لنا الهجرة أن مسألة القوة والضعف في حياة الإنسان المسلم الواعي، لا تخضع للحدود الجغرافية التي تحيط بالإنسان وتضغط على حركته؛ فإنه يستطيع أن يمتد إلى أماكن أخرى من الأرض، ليجد فيها السعة التي لا تضيق بنشاطه، والفرص المتنوعة التي من خلالها يستطيع أن يمتد برسالته إلى أبعد مدى وبرهان ذلك؛ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، إذ تمثل الحد الفاصل بين عهدين للإسلام، عاش في الأول: الاضطهاد والضغط والتنكيل والاختناق، وفي الثاني: تحرك منطلقًا حتى انتشر في الآفاق الواسعة من العالم.
– إن الظروف التي فرضت الهجرة في صدر الإسلام، تفرض الهجرة في المدى الزمني في حياة المسلمين. كما أن القضايا التي أريد تأكيدها وتأصيلها هي نفسها القضايا التي يُراد تركيزها في الواقع.