امرأة في قافلة ضاع عقدها ثم وجده القوم محبة لزوجها.. كان يمكن لأحداث قصتنا أن تختصر في الجملة السابقة لولا أن تلك المرأة ليست أي امرأة، وزوجها ليس أي رجل.. إنها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وزوجها هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سيد الخلق أجمعين.
فما قصة ذلك العقد؟ ولماذا نفرده بالحديث؟ وما علاقتنا نحن بهذه القصة في القرن الحادي والعشرين؟ هذا ما سنعرفه بين دفتي هذه الرسالة الصغيرة التي تحتوي على العديد من الفوائد الجليلة في الزواج والحياة والعلاقة مع الله.
رفيقات السفر
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره”.. تبدأ حكايتنا عندما خرجت عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره كما تقول تلك الرواية، وقد اختلف شراح الحديث هل هذه السفرة هي غزوة بني المصطلق أم غزوة أخرى بعدها.
يقول صاحب عمدة القاري في شرح صحيح البخاري: عن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: “لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضًا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، وطلع الفجر”.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقدر القيمة المعنوية للعقد الذي تحبه عائشة رضي الله عنها، ويضرب لنا مثالاً رائعًا لزوج يتعامل مع حاجات زوجته باحترام وذوق فريد، ويقدم لزوجته عربون المحبة الدائم عبر تلك المواقف الصغيرة.
وأيًّا كانت هذه الرحلة في غزوة بني المصطلق أو غيرها من الغزوات، فالمتفق عليه بين شراح الحديث والرواة أنها كانت في غزوة من الغزوات.
نعم غزوة من الغزوات التي كان يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مقاتلاً محاربًا معرضًا للنصر أو للهزيمة من قبل أعدائه.
إذن، فقد كان مسموحًا للمرأة أن تخرج للغزوات، بل وتقاتل في الكثير من الأحيان، ولم يكن هناك أحد يعتبر ذلك شذوذًا أو خروجًا عن المألوف، أو طعنًا في نخوة ورجولة زوجها، خاصة مع مجتمع عربي شديد الغيرة على نسائه.. على عكس ما نراه الآن من غيرة مصطنعة تضيّق على الناس معيشتهم تحت ذريعة محاربة الاختلاط المحرم وحرمة العلاقة بين الجنسين أيًّا كانت هذه العلاقة.
المرأة في واقعنا المعاصر
إن البعض للأسف الشديد، يرى أن الصورة المثلى للمجتمع المنشود هو أن ينقسم ذلك المجتمع إلى قسمين: عالم الرجال، وعالم النساء، يعيشون على أرض واحدة، ولكن هذا في عالمه وذاك في عالمه.
فمحظور تعامل الجنسين أحدهما مع الآخر، إلا من خلال الزواج، مفسرين أصولاً عامة للشريعة وفق اختياراتهم النفسية، تحت مظلة سد الذريعة وحراسة الفضيلة، حتى ليخيل للناس أن المجتمع الإسلامي لا بد أن يحوي قسمين منعزلين تمامًا، قسم للرجال، وقسم للنساء، حتى ليبالغ بعضهم ويترحم على زمان كانت المرأة لا تخرج فيه إلى الشارع في عمرها إلا مرتين، مرة في يوم زفافها، ومرة يوم تشيع جنازتها.
وهذه الصورة يستحيل تطبيقها في الواقع المعاصر، فضلاً عن أنها لم تكن أبدًا في المجتمع الذي أنشأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لم يتم فيه التعامل مع المرأة بكل ذلك التشنج وتلك الحساسية.
فكانت المرأة تخرج حتى للجهاد في سبيل الله، وكان التعامل بين الرجال والنساء قائمًا للحاجة في حدود الضوابط الشرعية. إن من يتأمل مجتمع الصحابة رضي الله عنهم يجد أن المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تتعامل بالبيع والشراء، وكانت كذلك تخرج للجهاد تسقي وتداوي الجرحى، وكانت تستفتي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانت ترد على الخلفاء من بعده وتعقِّب.
ولكن المشاهد كذلك في المجتمع الأول، أن كل ما يدور من أحاديث بين الرجال والنساء لم يأخذ شكل المسامرة والمزاح والتسلية بسبب أو بدون سبب، وإنما كان كلامًا للحاجة، وأكرر “للحاجة وليس للضرورة”.
وختامًا لهذه النقطة، فلا يحق لأحد أن يحرم شيئًا أحله الله أو يحرم شيئًا حرمه الله، أو يضع قيودًا على تعاملات الناس بلا دليل أو مستند شرعي.. وهذا للأسف ما حدث في كثير من المجتمعات التي حاولت أن تفرض قيودًا على العلاقة بين الجنسين ما أنزل الله بها من سلطان، متعللين ببعض الحوادث الفردية التي لا يرضاها الشرع، ومعتبرين أن سد الذرائع سيقي المجتمع من أمثال هذه الحوادث.. ولكن ما حدث للأسف هو عكس المطلوب، مما يدل على أن الالتزام بشرع الله كما ورد عن رسوله صلى الله عليه وسلم، هو الأسلم والأحكم والأنفع للأمة والمجتمع.
عقد المحبة
“حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عِقْدٌ لي.. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماءٌ”.
وهنا تتصاعد أحداث قصتنا، وتفقد السيدة عائشة رضي الله عنه عقدها الذي قدّر بعض الرواة أن قيمته لا تتجاوز 12 درهما؛ فقد نقل ابن بطال: “روي أن ثمن العقد المذكور كان اثني عشر درهما” (فتح الباري لابن حجر)، وقد كان رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم أن أوقف القافلة بأكملها ليبحثوا عن عقد عائشة رضي الله عنها.
إن النبي صلى الله عليه وسلم هنا يقدّر القيمة المعنوية لهذا العقد الذي تحبه عائشة رضي الله عنها، ويضرب لنا مثالاً رائعًا لزوج يتعامل مع حاجات زوجته باحترام وذوق فريد، ويقدم لزوجته عربون المحبة الدائم عبر تلك المواقف الصغيرة. والرجل الفطن هو الذي يستغل كل فرصة ليقدم هذه الإشارات واللفتات.
وشتان بين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما يفعله بعض الأزواج الآن من إهمال متعمد للزوجة، وعدم تقدير لاحتياجاتها بحجج كثيرة واهية لعل أكثرها هي الانشغال.. ولن تكون أبدًا أكثر انشغالاً من النبي صلى الله عليه وسلم المكلف بتبليغ رسالة ربه للعالمين إنسًا وجانًّا، وتحقيق رسالة الاستخلاف والعمران في الأرض.
ولك أن تعلم أن بعض الرواة قد جزم أن العقد قد ضاع من السيدة عائشة مرتين وليس مرة واحدة، وأن هذه القصة كانت في المرة الثانية؛ فعن محمد بن حبيب الأنصاري رضي الله عنه قال: سقط عقد عائشة رضي الله عنها في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق. (عمدة القاري شرح صحيح البخاري). فأين بالك من بال النبي صلى الله عليه وسلم، وصبرك من صبر النبي صلى الله عليه وسلم؟
واقعية المجتمع
فأتى الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه واضع رأسه على فخِذِي قد نام فقال: حبَسْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسَ وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماءٌ، قالت: فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه وقال ما شاء الله أن يقول.
وماذا حدث بعد أن فقدت عائشة رضي الله عنها العقد وأمر النبي صلى الله عليه القافلة أن تقف لتبحث عنه؟
غضب الناس، نعم غضبوا لأنه ليس معهم ماء يشربون منه أو يتوضؤون، والمكان الذي وقفوا فيه خال من الآبار والعيون التي يمكن أن يتوافر فيها الماء، مما يعني مشقة متوقعة قد لا يطيقونها، وقد عبروا عن غضبهم بكل حرية لأبي بكر رضي الله عنه والد عائشة رضي الله عنها ، وقيل إنهم لم يذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان نائمًا في هذا الوقت.
إن البعض للأسف الشديد، يرى أن الصورة المثلى للمجتمع المنشود هو أن ينقسم ذلك المجتمع إلى قسمين: عالم الرجال، وعالم النساء، يعيشون على أرض واحدة، ولكن هذا في عالمه وذاك في عالمه.
لقد كان هذا المجتمع مجتمعًا حرًّا واقعيًّا يتعامل مع الأحداث والأشخاص بواقعية تامة، وكان هذا سره النافذ وحقيقته الكبرى التي كتبت له الخلود في سرديات التاريخ.. فغضب الصحابة رضي الله عنهم من تأخر القافلة منطقي أعقبه فعل إيجابي منهم أن اشتكوا لأبي بكر رضي الله عنه ما فعلته ابنته. وقد كان ردة فعل أبي بكر رضي الله عنه أيضًا بشرية منطقية إلى أبعد الحدود، فذهب إلى ابنته محملاً بغضبه الطبيعي كرجل يلومه الناس على إهمال ابنته، وخاصة لو علمنا أن تلك المرة كانت المرة الثانية التي تفقد فيها عائشة رضي الله عنها العقد، وفي بعض الروايات أن أبا بكر رضي الله عنه خاطب عائشة رضي الله عنها قائلاً: حَبستِ الناس في قلادة؟، وروي أنه قال لها أيضًا: في كل مرة تكونين عناء. (فتح الباري، ابن حجر).
وتأمل في قول عائشة رضي الله عنها وهي تروي ما حدث، فلم تقل فعاتبني أبي، وإنما قالت: فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه، إنها الفتاة الغاضبة من أبيها الذي جاء يعاتبها في حب زوجها، يقول ابن حجر رحمه الله: والنكتة في قول عائشة فعاتبني أبو بكر رضي الله عنه ولم تقل أبي، لأن قضية الأبوة الحنو، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل مغاير لذلك في الظاهر، فلذلك أنزلته منزلة الأجنبي فلم تقل أبي” (فتح الباري لابن حجر). أب غاضب يعاتب فتاته الصغيرة على فقدانها عقدها وتعطيل القافلة، فتغضب من معاتبته كما غضب هو من فعلتها.. إنها يوميات العلاقة الصحية بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات وبين أفراد المجتمع، تضع لنا تصورًا صحيحًا عن طبيعة البشر، وفطرتهم التي فطرهم الله عليها من مشاعر وأحاسيس تعلو وتهبط وتبقى القوة في القدرة على التحكم فيها وليس كبتها أو إزالتها والتنكر لها باعتبارها رجس من عمل الشيطان.
درس من مُحبة
“وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي”.
لقد تطور الأمر بأبي بكر رضي الله عنه في نقاشه مع عائشة رضي الله عنها فلم يكتف بتعنيفها بالكلمات والعبارات، وإنما لجأ إلى طعنها بيده طعنات خفيفة ولكنها مؤلمة، ولكن عائشة رضي الله عنها لم تصدر أنة ولا آهة واحدة وهي المتألمة المتوجعة ماديًّا ونفسيًّا، فوالدها يلومها على أمر ليس بيدها، ولكن حبيبها ينام على فخذها وهي لا تقدر على إيقاظه وإزعاجه مهما كان ألمها.. فهي المحبة المطيعة العارفة لحقوق زوجها، والمتفهمة لطبيعته كقائد عظيم لا ينام إلا وقد غلبه النعاس من شدة التعب والإرهاق.
إنه احترام المساحات الشخصية بين الزوجين، وتقدير الزوجة لتعب زوجها.. ولعل من المناسب هنا أن نتكلم على قضية هامة في العلاقة الزوجية أوحت لنا بها عائشة رضي الله عنها التي تحترم نومة زوجها، ألا وهي احترام صمت الزوج بصورة عامة.
فقد يحدث كثيرًا أن يتوقف الرجل فجأة عن الحديث ويصبح صامتًا، فتظن المرأة في البداية أن الرجل أخرس، أو تظن أنه ربما لا يسمع ما يقال ولهذا لا يستجيب.
وكما يقول الدكتور جون غراي في كتابه “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة: “إن الرجال والنساء يعالجون المعلومات بطريقة مختلفة جدًّا؛ فالنساء يفكرن بصوت مرتفع، فكثيرًا ما تكتشف المرأة ما تريد أن تقوله من خلال عملية التحدث فقط وعملية السماح للأفكار بالتدفق بحرية والتعبير عنها بصوت مسموع.
لكن الرجال يعالجون المعلومات بطريقة مختلفة جدًّا؛ إنهم قبل أن يتكلموا أو يجيبوا يقلبون الأمر بصمت أولاً، أو يفكرون فيما سمعوه، ويقومون داخليًّا وبصمت بتخمين الجواب الأصح أو الأكثر نفعًا، وهذه العملية قد تستغرق دقائق إلى ساعات.
ولجعل الأمور أكثر إرباكًا للنساء، فإنه إذا لم يكن لديه معلومات كافية لمعالجة الجواب فلربما لا يستجيب الرجل بتاتًا.
والنساء يحتجن إلى أن يفهمن أنه حينما يكون الرجل صامتًا فإنه يقول: لا أدري بعدُ ما أقول، لكني أفكر في الأمر، إن ما يسمعه بدلاً من هذا هو: أنا لا أجيبك لأنني لا أهتم بك وسأتجاهلك، إن ما قلته لي غير مهم ولهذا أنا لا أستجيب”.
وهكذا فإن المرأة الذكية هي التي تحترم صمت زوجها وتحترم خصوصيته، ولا ترهقه بالمشكلات والخلافات عند حضوره من العمل أو قدومه من السفر مرهقًا متعبًا، وإنما تؤخر الحديث والكلام إلى وقت آخر يستطيع فيه الزوج أن يتجاوب معها ويتقبل منها ما تقوله.
بركات آل أبي بكر
فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماءٍ فأنزل الله عزوجل آية التيمّمم فتيمّموا.. فقال أُسيْد بن الحضَير رضي الله عنه وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركاتكم يا آل أبي بكر.
فقالت عائشة رضي الله عنها: فبعثنا البعير الذي كنتُ عليه فوجدنا العقد تحته.
المرأة الذكية هي التي تحترم صمت زوجها وتحترم خصوصيته، ولا ترهقه بالمشكلات والخلافات عند حضوره من العمل أو قدومه من السفر مرهقًا متعبًا، وإنما تؤخر الحديث والكلام إلى وقت آخر يستطيع فيه الزوج أن يتجاوب معها ويتقبل منها ما تقوله.
وفي ختام القصة ينزل الفرج من الله عزوجل الرحيم بعباده، الذي أنزل دينًا سهلاً ميسرًا للعالمين فتنزل رخصة التيمم في حال فقدان الماء لتكون رخصة عامة للأمة الإسلامية جمعاء غير مختصة بزمان ولا مكان.
وتأمل في نفس أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو الذي كلفه النبي صلى الله عليه وسلم بالبحث عن قلادة عائشة رضي الله عنها كيف كانت نفسه زكية عفيفة لا ينسى فضل عائشة رضي الله عنها وأزمتها في إنزال تلك الرخصة العظيمة للمسلمين على الرغم من الغضب المكتوم في نفوس العديدين مما فعلته عائشة رضي الله عنها بالقافلة وتأخيرها، إلا أن نفسه العفيفة الأبية أبت إلا الاعتراف بالحق وإلحاق الفضل بأهله، فنسب الفضل إلى آل أبي بكر رضي الله عنهم، وفي بعض الروايات قال لها: فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه، إلا جعل للمسلمين خيرًا، وفي رواية أخرى: إلاَّ جعل لك منه مخرجًا، وجعل للمسلمين فيه بركة” (عمدة القاري شرح صحيح البخاري).
وفي النهاية وجدت عائشة رضي الله عنها عقدها، وعاد المسلمون إلى المدينة، ونزلت آية التيمم رخصة للمسلمين جميعًا، واقتطعنا نحن مقطوعة متميزة من السيرة النبوية استخلصنا منها دروسًا وعبرًا لمسلمي القرن الحادي والعشرين، لنكون حقًّا متأسين بحبينا صلى الله عليه وسلم ، متبعين لسنته، مقتفين لأثره، عاملين بهداه إلى يوم الدين.
(*) كاتب وباحث مصري.