عُمرُها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرنًا ونيفًا، وهي تَشُقُّ طريقها بين أمم الأرض حاملةً على كاهلها “القول الثقيل” الذي اعتذرت عن حمله الأرض والسماوات والجبال وأشفقن منه. غير أنها -وبين زمن وآخر- تنوء بحملها، فتتعثَّر في خطاها، وتتخبّط في سيرها، وربَّما سقطت أرضًا وابتلعها سحيق ظلام، وغيبتها هوة نسيان، فَيُظَنُّ أنه لا يُرجى لها بعد ذلك من قيام، ولا يُؤَمَّلُ لها من نهوض.
ولكن سرعان ما يَنْشَقُّ عنها إمامٌ عظيم ومُنْقِذٌ فَذٌّ على دراية وإدراك بالمآتي التي أتت منها الأخطار، وتوالت منها عليها الضربات، فيأخذ بيدها، وينتشلها من هوتها، وينهضها من سقطتها، ويصلح من شأنها، ويعدل معوجها، ويقوّم صلبها، ويشدُّ من أصرها، ثم يوقفها مرةً أخرى على المحجَّة البيضاء، ويدلّها على الطريق المستقيم، فتعاود المسير، وتباشر الطريق بخُطًى ثابتة بلا تردّد ولا تعثُّر، وهذا هو المصلح المجدّد الذي يجيء تصديقًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدّد لها دينها” (وراه أبو داود).
إن “الخدمة” بمؤسساتها المختلفة إنما هي قوة اندفاعية لحياة المجتمع، إنها روح سام وعقل اقتحامي وَثَّاب… وهي ليست ابنة حقبة زمنية معيّنة، بل هي الحقبة الزمانية المعنية نفسها، وهي إحدى التجارب الحية التي تغري الباحثين للمزيد من الدراسة والبحث والتقويم..
وتأتي قوة تأثير هذا المجدِّد في فكر الأمة وروحها من استقرائه لتاريخها، ومن إدراكه لأعماقيات ذاتها، وتكوينات ضميرها، كما أنه على دراية جيدة وإحاطة شاملة بالمجهودات التراكمية لمجدّدي ثلاثة عشر قرنًا من قبله، والإفادة من تجاربهم ومعاناتهم، وبتجنّب إخفاقاتهم، ومدارسة نجاحاتهم؛ فتأتي أفكاره وآراؤه مغربلة بغربال العقل، ومصفّاة بمصفاة الكتاب والسنّة، فيمضي مع أمّته في قفزات نوعية ووثبات مفصلية لمسابقة الزمن واستدراك ما فات من عوامل النهوض والتقدّم.
فالاستبصار الذي هو من خصائص الإمام المجدّد، يمنحه قوة نفاذ إلى خفايا النفس البشرية ويبصره بعوامل تحريكها في الاتجاه التجديدي الذي يسعى إليه، كما أنه سيحظى بأفضل الوسائل التي تساعده في مهمته التجديدية لهذا القرن المليء بالتحدّيات والإشكالات. وهو القرن الذي يتوقع المجددون والإصلاحيون أنْ تتلاشى فيه وتذوب كل الأزمنة السابقة وتتوحد معه وتعطيه زخمًا يدفعه إلى انعتاق من سجن زمانه، والخلاص من وزر خطاياه وآثامه.
والإمام المجدد يبعث في الأمة إحساسًا بالانبعاث الداخلي، وهو يجتاح عقلها ووجدانها كالعاصفة المطيرة المدوية تدمر العتاقة والعفونة من جهة، وتبعث الحياة والنَّماء من جهة أخرى، وتعمل على الارتفاع بالروح صعودًا إلى الأعلى حيث تعيش في أجواء عقلية مَوَّارة وخصبة، فتتنفس فيها التجديد والابتكار والإبداع، فيزيد نشاطها الإشعاعي العالي إلى كل جهة من جهات الحياة الإنسانية في ترابط كياني داخلي ينتج عنه إحساس بالقوة والتحكم والتحرر، فلا تذهب حياته هدرًا لا تأتي بشيء ذي أهمية، وهذه هي الاستنارة العقلية التي يعوّل عليها الإصلاحيّون في مشروعهم الإصلاحي مع الأمم.
كما أنَّ الإمام المجدد ملزم أن يلاحق المسافات البعيدة من الروح والفكر ولا يكتفي بالمديات القصيرة والبطيئة منهما، فالمديات البعيدة من الروح والفكر مفعمة بالطاقات الانفجارية التي تسهّل مهمّة المصلح أو المجدد في إنشاء الإطار الاحتوائي لكل نشاطاته التي يمارس من خلالها عمله الإصلاحي، فهو يتعشق الحياة ويعمل من أجل إخصابها وزيادة حيويتها، ومن جانب آخر يكافح ليمنع الأمة من اجترار آلامها وإحباطاتها، والحيلولة دون وقوعها فريسة تحت سطوة ميلها إلى الانتحار الروحي في دوامة يأسها وقنوطها وشعورها بالقصور والدّونية إزاء الأمم الأخرى.
فهندسة بناء الفكر الروحي والإيماني لهذه الأمة، موجودة في تخطيطها الأولي منذ الأزل وإلى الأبد في سور القرآن الكريم وآياته وكلماته، ومحفوظة صورتها في مخيلة الكون الغيبي والحسي وفي عقليهما على حَدٍّ سواء، وهي في انتظار -في كل وقت وفي كل عصر- لرجل العمق والنفاذ للاطّلاع عليها والاستفادة منها في بناء صروح الإصلاح والتجديد في هذه الأمة. فكل عمل إصلاحي أو تجديدي يعجز عن بناء الروح الإبداعية، وفتح أبواب طلاقة التفكير في نفس المسلم عمل محكوم عليه مسبقًا بالفشل كما يرى الإمام الإصلاحي والمجدد “فتح الله كولن”، لأنه بدلَ أن يكون عامل انفتاح على عالمي الغيب والشهادة، يتحول إلى هبوط وتقهقر في سياقه الوجودي الأصيل، وهذه هي الإشكالية الصعبة التي يعكف “الإمام” على حل عقدتها، وتفكيك تشابك خيوطها.
إن هذه الخدمة تعني في كثير مما تعنيه أنّ هناك طريقة أخرى للعيش، طريقة مجدية وذلك بواسطة تعاون العقل والتجربة، وتناغم العقل والوجدان، والروح والمادة.
ولئن كان عالم الإسلام قد عانى الكثير من الاضطرابات والنزاعات -وحتى الحروب وغزارة الدماء- بسبب الخلاف الجدلي والصراعي بين مفهومي “الإمارة” و”الخلافة” في قرون الإسلام الأولى، فإن هذا الخلاف لا زال صداه يدوي في أروقة أصحاب الدعوات، ولا زال يسبب للأمة الكثير من المآسي والأحزان والتفرّق والافتراق… ومنذ سادت مفاهيم “الإمارة” و”الملك العضوض” وغابت مفاهيم الخلافة الراشدة، وجلس الأمير على كرسي “الإمارة” والحاكم على كرسي الحكم، منذ ذلك الوقت أصبح “الحاكم” يتوجس خيفة، ويعيش مرعوبًا من أي تجمع حتى إنْ كان هذا التجمّع لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، وحتى لو كان هذا التجمع من أجل دعوة إلى معروف ونهي عن منكر… فكبرى مشاكل هؤلاء الحكّام، شعورهم بالذنب لتغييبهم معنى كبير من معاني الخلافة، وبالانهزام النفسي من نهاياتهم الحزينة، وعدم الاطمئنان إلى أولئك الذين يشكّلون حزامًا بشريًّا يحتمون به. إنها الشكوكية القاتلة التي تتحول مع الزمن إلى فكرة أصيلة في ذهنية الحاكم، فمن دَيدَن هؤلاء الحكّام التظاهر بالقوة بكيل اللعنات والأكاذيب والاتهامات لكل مَنْ يرفض أن يسبّح بحمدهم أو يؤمن بأنهم مناط الأمل والخلاص من عذابات شعوبهم.
فبعض أصحاب الصَولجان والهيلمان في تركيا اليوم، مِمَّن قلبوا لنا ظهر المِجَنّ، يعيشون أحلامًا كابوسية مرعبةً تُلازمهم في نومهم ويقظتهم، وليلهم ونهارهم؛ رجل واحد أَقَضَّ مضجعهم، وأطار النوم من أعينهم، رجل اسمه “فتح الله كولن”.. لا لشيء -أستغفر الله- بل لشيء واحد هو أنه استطاع من خلال كتبه ومحاضراته وخطبه ومقالاته، أنْ يضع في رؤوس طلبته فكرةً، وفي قلوبهم لوعةً، وفي عيونهم دمعةً، وعلى شفاههم ذكرًا، وعلى ألسنتهم حمدًا وشكرًا، وفي أفئدتهم رجفةً وخشيةً، وفي ليلهم قيامًا، وفي نهارهم صيامًا… يصلحون ولا يفسدون، يعمرون ولا يهدمون، ويحلمون ولا يجهلون، ويعطون ولا يأخذون، ويضحون ولا يغنمون… هؤلاء هم طلبة “فتح الله كولن”.
إن “الخدمة” بمؤسساتها المختلفة إنما هي قوة اندفاعية لحياة المجتمع، إنها روح سام وعقل اقتحامي وَثَّاب… وهي ليست ابنة حقبة زمنية معيّنة، بل هي الحقبة الزمانية المعنية نفسها، وهي إحدى التجارب الحية التي تغري الباحثين للمزيد من الدراسة والبحث والتقويم، فهذه الخدمة تعني في كثير مما تعنيه أنّ هناك طريقة أخرى للعيش، طريقة مجدية وذلك بواسطة تعاون العقل والتجربة، وتناغم العقل والوجدان، والروح والمادة.
كما أنها تعمل من الناحية السيكلوجية على جعل العامل فيها يعود إلى نفسه، ويصالح ذاته، ويلتقي وجوده، ويستخرج من هذا الوجود قواه الفاعلة غير المنظورة، ويسخّرها للتجديد والإبداع والابتكار، وبذلك يتخلص من جحيم وجوده الداخلي الذي تؤججه فيه السكونية والبطالة واجترار الزمن الميت، بينما تظل غريزة الحياة الملتهبة في داخله تستحثه لكي يلقي بنفسه في دوامة العمل ويكرّس وجوده للفعل والانفعال.
فرجل الخدمة يأسف شديد الأسف ويرثي لأولئك الناس الذين يضطرون لسببٍ ما إلى قضاء هذه الحياة بهذا الشكل الفاتر والتافه والمدمر… فرجل الخدمة لا يعرف الراحة، ولا يستنيم لها، ولا يقبل أنْ تغلبه، وكلما جنح إلى شيء من الراحة أحسَّ بألم في روحه يفزعه ويقضّ مضجعه… إنه كالطائر الذي انطلق من قفصه يموت ولا يعود إليه مرة أخرى.
(*) كاتب وأديب عراقي.