لا شك أن التدبر في سورة يوسف والتأمل في الدور الذي لعبه يعقوب عليه السلام في قصة ابنه الصدّيق يمكّن من الوقوف على أهم سمات المنهج التربوي اليعقوبي وأهم المبادئ التي شُيّد عليها، مما يمكن أن نتخذه لبنات أساسية نرمَّم بها جدران تربيتنا المنهكة، داخل بيوتنا التي غدت متصدعة لنحصل في الأخير على بيوت رصينة عنوانها المحبة وسماتها التفاهم والألفة بين مختلف أطرافها آباءً وأبناءً .
إن المنهج اليعقوبي في التربية وكما هو ظاهر بالعين المجردة لكل ناظر فاحص لسورة يوسف عليه السلام يجده قائما على مجموعة من المبادئ منه:
– النصح: ذلك أن يعقوب عليه السلام اتخذ النصح منهجًا في حياته وركيزة أساسية في تشييد علاقته بأبنائه فحرص عليه كلما دعت الضرورة وفي مناسبات عدة، منها نصحه لفلذة كبده يوسف عليه السلام بعد أن قص عليه رؤياه، والتي استشعر من خلالها فضل يوسف على إخوته الآخرين فحذره قائلاً: (يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)(يوسف-5)، ونفس الشيء بالنسبة للأبناء الآخرين فقد حرص على نصحهم مرارا وتكرارا من ذلك قوله لهم لما أرادوا دخول مصر: (يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(يوسف -67).
– الحرص على مصالح أبنائه وحمايتهم: فيعقوب عليه السلام إنما نصح ابنه يوسف حماية له من مكر إخوته به أو من إلحاق أي أذى به نظرا لما تحمله رؤياه من دلالات على فضله: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)(يوسف-4)، فقد تتحرك فيهم دوافع الغيرة وتدفعهم لما لا يحمد عقباه، ونفس الشيء عندما نصح أبناءه بعدم الدخول من باب واحد فقد قال بعض المفسرين إنه خشي عليهم من العين خاصة أن العين حق كما هو معلوم فأمرهم بالتفرق وعدم الدخول من باب واحد أخدا بأسباب النجاة وتفاديا لما يمكن أن يلحقهم من الآفات (يُنظر تفسير ابن كثير).
– التودد: ذلك أن المتأمل في طريقة تعامل يعقوب مع أبنائه يلمس تعاملاً فريدًا ملؤه الحب والتودد، وهذا واضح حتى في طريقة الكلام والعبارات التي كان يوظفها عليه السلام في مخاطبتهم من ذلك مثل قوله ليوسف(يا بُنَيَّ) بدل قول (يا ابني) وقوله للأبناء الآخرين (يا بَنِيّ) بدل قوله (يا أبنائي)، ففرق كبير بين العبارتين ذلك أن (يا بُني ويا بَني) تُشعر وكأن يعقوب عليه السلام يضم أبناءه إليه متوددا إليهم وهو ما دلت عليه ياء الإضافة بخلاف عبارات أخرى قد تكون جافة ولا تؤدي نفس الوظيفة ولا تُشعر المخاطب والسامع بشيء من الضم أو التودد.
إن يعقوب عليه السلام اتخذ النصح منهجًا في حياته وركيزة أساسية في تشييد علاقته بأبنائه، فحرص عليه كلما دعت الضرورة وفي مناسبات عدة.
– اللطف واللين في الرد: فإذا كان يعقوب عليه السلام يتودد إلى أبنائه بعبارة (يا بُني ويا بَني) ويوسف عليه السلام يبادله نفس الشعور ويخاطبه بنفس الطريقة (قال يا أبت إني رأيت) ولم يقل (يا أبي) فإن الأبناء الآخرين -سامحهم الله- كانوا جُفاة غلاظا حتى في طريقة خطابهم لأبيهم والتي كانت تُشعر بوقاحة وقلة أدب لا مثيل لها(إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)(يوسف-8)(قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيم) ورغم ذلك لم يكن عليه السلام يعنفهم أو يوبخهم أو يرد عليهم بقسوة وإنما كان يُعرض عنهم ولسان حاله(إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)(يوسف-86).
– الاستغفار والدعاء بالهداية: ذلك أن نبي الله يعقوب عليه السلام رغم المحن التي مرت عليه والآلام التي تجرعها بفقد حبيبيه (يوسف وأخيه) لدرجة أوصلته إلى فقد حبيبتيه (بصره)، والتي كان أبناؤه المشاكسون سببا رئيسًا فيها، فهو لم يدع عليهم بالسوء وإنما كان يدعو لهم بالهداية والتوبة ويستغفر لهم الله تعالى: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))يوسف-98).
-العدل: ذلك أن يعقوب عليه السلام كان عادلاً بين جميع أبناءه في كل أفعاله وأقواله ولا يميز بينهم حتى في انتقاء الكلمات التي يخاطبهم بها يا بُني ليوسف يا بَني للآخرين، وكذلك في النصح فقد كان عليه السلام ناصحًا لهم جميعًا دون تمييز (كما سبقت الإشارة)، رغم وجود فوارق خُلقية بين أبنائه الذين تميز بعضهم بالغلظة والجفاء وبعضهم بالوداعة والصفاء، اللهم في شيء واحد وهو المحبة التي لا يمكن التحكم فيها باعتبارها شعورًا قلبيًّا غير مُتحكم فيه، ولذلك وجدناه عليه السلام يحب يوسف عليه السلام بجرعة زائدة عن إخوته الباقي، وذلك نظرًا لحداثة سنه ولحاجته للرعاية أكثر بخلاف الأبناء الآخرين اليافعين الذين لا شك استوفوا حقهم من الحب والرعاية في طفولتهم قبل ميلاد أخيهم يوسف عليه السلام.
هذه بعض المبادئ والأسس التي قام عليها منهج سيدنا يعقوب عليه السلام في تعامله مع أبنائه، والتي استطاع من خلالها أن ينجح في أداء مهمته ساعيًّا لحفظ استقرار أسرته رغم كل المحن والابتلاءات التي عصفت به وبأعز أبنائه، وهي المبادئ التي لابد من التمسك بها والعمل على نهجها خاصة في هذا الزمان حيث صرنا نفتقدها في أسرنا، إذ قل ما نجد أبًا عطوفًا حنونًا لينا عدلًا نصوحًا لأبنائه متفهمًا لأوضاعهم متجاوزًا عن هفواتهم صابرًا على حماقاتهم عاملاً على إصلاحهم وإرجاعهم إلى الطريق المستقيم.