شهدت البشرية في تاريخها الطويل انفصالاً بين المُثُل والواقع، بين المقال والفعال، بين الدعوى والحقيقة.. وكان دائمًا المثال والمقال والدعوى، أبرزَ من الواقع والفعال والحقيقة.
وهذا شيء يعرفه من له أدنى معرفة بالتاريخ والحياة. غير أن هذه الظاهرة مفقودة في واقع الرسل وأتباعهم، فهم وحدهم الذين دعوا الإنسانية إلى أعظم قمم السمو، ومثلوا بسلوكهم العملي، هذه الذروة بشكل رائع مدهش(1).
وظهور هذا التوازن في حياة رسول الله العملية، كان على أعلى ما يخطر بقلب بشر؛ فهو العابد والزاهد والمجاهد والزوج، والذي ما كان يأمر بخير إلا كان أوّل آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أوّل تارك له.
فعن عبادته تقول السيدةُ عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: “أفلا أكون عبدًا شكورًا”. (رواه البخاري)
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يُفطر من الشهر حتى نظن ألاّ يصوم منه شيئًا، ويصوم حتى نظن ألاّ يُفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصلّيًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته. (رواه البخاري)
وعن زهده يروي الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش النبي عباءةً مثنيةً، فرجعت إلى منزلها فبعثت بفراش حشوُه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله فقال: “ما هذا؟” فقلت: فلانة من الأنصار دخلت عليَّ فرأت فراشك، فبعثت إليّ بهذا. فقال: “رُدِّيه”. فقلت: فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي؟ حتى قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: “يا عائشة رُدّيه، فوالله لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة”. قالت: فرددته. (رواه مسلم)
وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على خوان قط، وما رأى شاة سميطًا قط، وما رأى منخلاً منذ أن بعثه الله إلى يوم قُبض. ما أخذ من الدنيا شيئًا، ولا أخذت منه شيئًا، وصدق إذ يقول: “ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها” (رواه الترمذي).
وأما عن شجاعته وجهاده فيروي أنس رضي الله عنها يقول: كان النبي أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَل الصوت، فاستقبلهم النبي، قد سبق الناسَ إلى الصوت وهو يقول: “لَمْ تُراعوا، لَمْ تُراعوا”، وهو على فرس لأبي طلحة عريّ ما عليها سِرْج، في عنقه سيف، فقال” “لقد وجدته بحرًا” (رواه البخاري).
وفي صحيح مسلم: جاء رجل إلى البراء فقال: أكُنتم ولَّيتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولَّى… دعا واستنفر وهو يقول: “أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزِّل نصرك”.
قال البراء: كنَّا والله إذا احمر البأس نتَّقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم”.
وعن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا احمرَّ البأس ولقيَ القومُ القومَ، اتقينا برسول الله، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه.
ولولا خوف الإطالة لسردنا شمائله صلى الله عليه وسلم التي نادى بها، وعلّمها أمته، وكان أول الممارسين العاملين بها.
الصدق صفة أساسية لا بد أن يتمتع بها صاحب الرسالة. هذا الصدق لا بد أن يكون مطلقًا لا ينقض في أي حال، بحيث لو امتحن صاحب الرسالة في كل قول له، لكان مطابقًا للواقع إذا وعد أو عاهد أو جد أو داعب أو أخبر أو تنبأ.
وإذا انتقضت هذه الصفة أيَّ نقضٍ، فإن دعوى الرسالة تنتقض من أساسها؛ لأن الناس لا يثقون برسولٍ غير صادق، والرسول الصادق لا تجد في ثنايا كلامه شيئًا من الباطل في أيّ حال من الأحوال.
ولقد كان الصدق من أوضح السمات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى دلالة على هذا الصدق أن قومه لقّبوه بـ”الصادق الأمين”، بل إن أول انطباع يرسخ في نفس من يراه للمرة الأولى، أنه من الصدّيقين.
فعن عبد الله بن سلام قال: لمّا قدم النبيُّ المدينة انجفل الناس عليه، فكنت فيمن انجفل، قال: فلما تبيّنتُ وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول شيء سمعته يقول: “افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام” (رواه أحمد).
فهو الصادق في وعده وعهده؛ فعن عبد الله بن أبي الخنساء قال: بايعت النبيَّ قبل أن يبعث وبقيتْ له بقية، فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، فنسيت يومي والغد، فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال: “يا فتى، لقد شققت عليّ، أنا ها هنا منذ ثلاثٍ انتظرك” (رواه أبو داود).
وبعد غزوة حنين، جلس رسول الله يقسم غنائم هوازن، فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعدًا يا رسول الله، قال: “صدقت، فاحتكم ما شئت”، قال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. قال: “هي لك، واحتكمتَ يسيرًا”(2).
وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد العزى في قصة إسلامه، أنه عندما كان مشركًا، تولى مطالبة الرسول عن مكة في عمرة القضاء بعد انقضاء الثلاثة أيام المتفق عليها، يقول حويطب: ولما قدم رسول الله لعمرة القضاء وخرجت قريش من مكة، كنتُ فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو، لكي نُخرج رسول الله إذا مضى الوقت، فلما انقضت الثلاثة أقبلت أنا وسهيل بن عمرو فقلنا: قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا، فصاح: “يا بلال، لا تغب الشمس وواحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا” (روام الحاكم).
وما حدث أن وعد رسول الله أو عاهد فأخلف أو غدر، ولقد روى البخاري: أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن محمد: هل يغدر؟ أجاب: لا، فقال هرقل بعد ذلك: وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر. بل إنه لا يحيد عن الصدق ولا حتى مجاملة لأحد.
فعن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ، حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله، أنا خير أم أبو بكر؟ فقال: “أبو بكر”، فقلت: يا رسول الله، أنا خيرٌ أم عمر؟ فقال: “عمر”، فقلت أنا خير أم عثمان؟ فقال: “عثمان”. فلما سألت رسول الله فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته.
وحتى في أوقات الدعابة والمرح، حيث يتخفف الكثيرون من قواعد الانصباط، كان رسول الله الصادق في مزاحه؛ فعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا! قال: “إني لا أقول إلا حقًّا” (رواه الترمذي).
ومن أبلغ وأجمع الكلمات التي وصفت أخلاق رسول الله، ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان خلُقه القرآن”. ولقد كانت هذه الأخلاق من السموِّ والتوازن ما جعل تواضعه لا يغلب حلمُه، ولا يغلب حلُمُه برّه وكرمه، ولا يغلب برُّه وكرمه صبره.. وهكذا في كل شمائله صلوات الله وسلامه عليه، هذا مع انعدام التصرفات غير الأخلاقية في حياته.
فعن تواضعه يروي أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله من أشد الناس لطفًا، والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا أمة ولا صبيّ، أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه، فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إيّاها، فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.
وعن حلمه يقول حجة الإسلام الغزالي: كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، وأرغبهم في العفو مع المقدرة. يروي البخاري يوم حنين، ورسول الله يقسم الغنائم، فقال رجلٌ: إن هذه لقسمة ما عُدل فيها وما أريد بها وجه الله. فقلت (أي عبد الله راوي الحديث): والله لأخبرنَّ رسول الله. فأتيته فأخبرته، فقال: “من يعدلُ إذا لم يعدلِ الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”.
وعن كرمه يروي الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ما سُئل رسول الله شيئًا قط فقال لا. وأخرج أحمد عن أنس أن رسول الله لم يسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فأمر له بشاه كثير بين جبلين من شاه الصدقة، فرجع الرجل إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة” (رواه مسلم).
وأخرج مسلم أنه في غزوة حنين: وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة.. وأن صفوان قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ” (رواه مسلم).
يقول حجة الإسلام الغزالي: وكان أسخى الناس، لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولا يُسأل شيئًا إلا أعطاه.
وفي صحيح البخاري: عن أنس، كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بُرد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عانق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفتُّ إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
وفي سنن النسائي وأبي داوود: عن رجل من بني أسد قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقالت لي أهلي: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئًا نأكله، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا أجد ما أعطيك”، فولَّى الرجل عنه وهو مغضب وهو يقول: لعمري إنك لتعطي من شئت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه ليغضب عليّ أن لا أجد ما أعطيه، من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا”. قال الأسدي: فقلت: للقحة خير لنا من أوقية، والأوقية أربعون درهمًا، فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير وزبيب، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله عز وجل.
فرغم ما حباه الله به من الحلم والرأفة، إلا أنه الحلم والرأفة التي لا تجاوز حدها، فكان يغضب للحق إذا انتهكت حرمات الله، فإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل وينتهي، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس، عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب، أو مسيء للأدب، أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن.
ولما نكث بنو قريظة العهد وتحالفوا مع الأحزاب على حرب المسلمين ثم رد الله كيدهم في نحورهم وأمكن الله رسوله منهم، رضوا بحكم سعد بن معاذ، كما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحكم سعد أن تقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، فتهلل وجه الرسول وقال: “لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات” (رواه مسلم)، فقتل رسول الله منهم في يوم واحد أربعمائة رجل.
وروى ابن إسحاق في قصة أسرى غزوة بدر، قال: ومنهم أبو عزة الشاعر، كان محتاجًا ذا بنات، فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدًا. فقال أبو عزة في ذلك شعرًا، يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن أبا عزَّة هذا، نقض ما كان عاهد عليه الرسول، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم، فلمَّا كان يوم أحد أُسر، فسأل النبي أن يمنّ عليه أيضًا، فقال النبي: “لا أدعك تمسح عارضيك وتقول خدعت محمدًا مرتين”، ثم أمر به فضربت عنقه.
وعن المِسْوَر بن مخرمة، أن عليّ بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا عليّ ناكح ابنة أبي جهل.
قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهّد ثم قال: “أما بعد، فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بنت محمد مضغة منى، وإنما أكره أن يفتنوها، وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا”. قال، فترك عليٌّ الخطبة. (رواه مسلم)
إنه الليِّن في غير ضعف، والشدة في غير عنف، فصلوات الله وسلامه عليه. لقد سجل لنا التاريخ سير آلاف المصلحين والزعماء الذين عاشوا مناضلين من أجل فكرة أو مبدإ أفاد شعوبهم أو الإنسانية بعامة، ولكن لم تجتمع كل المبادئ الطيبة إلا في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، في البيت والقيادة والأخلاق والعبادة وسائر أوجه الحياة التي استنارت بمبعثه، فصلوات الله وسلامه عليه في الأولين والآخرين.
(*) الأمين العام للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة / المملكة العربية السعودية.
الهوامش
(2) الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوّى، ص:55.
(2) الرسول صلى الله عليه وسلم، سعيد حوّى، ص:37.