كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل الشريعة العملية والوحي التطبيقي والسيرة القرآنية بامتياز. وإن معنى “كان خلقه القرآن”، أو “كان قرآنًا يمشي على الأرض”؛ هو أن سيرته كانت تقرن القول مع العمل، لأن الإسلام جاء دينًا لإصلاح الدنيا وليس للروح وحسب.
وإذا كانت السنة هي التقمص الجذري لأفعاله -صلى الله عليه وسلم- ولكل ما صدر عنه -أمرًا ونهيًا- فإن الغاية من التسنن هي أن يكون المرء المسلم قرآنيًّا بالفعل كما كان نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قرآنيًّا بالقلب والقالب. وعلى نحو ما عاش -صلى الله عليه وسلم- ينجز ويقيم دعائم دين يبني الشخصية المنوطة بمهمة الإيمان والعمل الصالح، فالمسلمون هم من يجسّدون عن مصداقية صفة (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) التي ركزت عليها الآيات القرآنية، وجعلتها أبرز لازمة تنعت المسلمين الكُمَّلَ.
وإذا كان تاريخ الدعوة الإسلامية قد حفل بالوعاظ والدعاة ومحترفي القصص المنبري، فلقد كان افتقار تاريخنا للدعاة العاملين، جسيمًا، وإن مقابلة أسماء الصالحين ممن عاشوا العكوف الانقطاعي والعزوف عن الحياة، والعيش المتجه إلى السماء لاستمطار شآبيب المغفرة على النفس، مع أسماء مَنْ شقُّوا النهج العملي واحتذوا السنة في مسارها العملي، يكشف عن رجاحة قوائم الصنف الأول. فعدد العاملين الذين ظهروا في مراحل تاريخنا وسجَّل لهم الزمنُ صحائف ذهبية، يكاد يبدو ضئيلاً، وتعدادهم لا يكاد يتجاوز عد أصابع اليدين، الأمر الذي يبرز علة تخلف الأمة وانسلاخها عن الدين الصحيح، إذ التجرد من السمة التطبيقية، والاكتفاء بالأداء التعبدي الفرائضي، ينتهي بالمسلم إلا أن يصبح طقوسيًّا، لا ينفذ الدين الحنيف إلى صميم حياته في تفاصيلها كما ينبغي أن يكون النفاذ.
وإذا تحدثنا عن طوائف العلماء ومِنْ شتَّى الاتجاهاتِ والنزعات، فلا نكاد نجد من يماثل الجيلاني ومن سلك مسلكه في التجنيد الجماهيري، وتشكيل الأوساط التي لا تكتفي فقط بزرع مبادئ الطريقة وتلقين التعاليم الروحية، وإنما تقرن -إلى ذلك التلقين- واجبَ النهوض الميداني بتكاليف بذل المال والتضحية بالعمر والجهد الشخصي، في سبيل الانقطاع لأنواع الخدمة والأداء الاحتسابي.
وإن شخصية جبارة مثل الغزالي (على جهة المثال) وما كان له من تأثير فكري في تاريخنا الإسلامي، ظلت تعاليمه على جلال روحيتها تبث السلوى دون القدرة على فتح أفق العمل والتجنيد الفعال؛ إذ كان ينقصها -رغم غناها الروحي النظري- البعد النفعي/العملي، والمقصد التطبيقي الذي يجند الجماهير وراء أهداف حياتية ملموسة، تحيي العزة، وتبعث الهمة، وتجعل النفوس تستجيب لداعي (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)(مريم:12). هذا الداعي الذي يتجه إلى كل مؤمن موحد، ويندبه إلى التمرس بالحياة بعمق والتزام. فإحالة القوة هنا تعود إلى العزيمة “كن يا مؤمن مِن أولي العزم” وإلى الشخصية “كن حديدي العريكة في تعاطي مسؤوليتك الحياتية”.
فالمؤكد أن فصل العمل الروحي الاعتكافي عن بُعده الدنيوي الاحتسابي، لم يرجح كفة اليقين في حياة المسلمين، وإنما كرس استقالتهم من التاريخ. الأمر الذي انعكس على الروحية، إذ عرَّاها من لحاف الإيمان الحق، وجعلها تتكيف -بالتقادم- على التمرس بالكفاف والحرمان، وهو ما أرخى -بل وفصم- العرى في أحيان كثيرة بين الأمة وبين الدين الحق.
لقد سادتنا عقلية التزهيد طيلة عهود وقرون، وكان الحاصل وقوع الأمة في قبضة التخلف مما سهل الأمر على أعدائها كي يستعبدوها. وكان حتمًا أن تسفر ترديات النكبة عن بروز أعلام عملوا على تصحيح الرؤية الدينية إلى الحياة، وسعوا إلى إحياء الأواصر التي تعيد المسلمين إلى الجادة، وإلى ربط الدنيا بالآخرة، وإلى تعمير الروح والكون، تأسيسًا للتوزان الذي فُقِدَ في واقع المسلمين -ومن ثمة في أصقاع الأرض- طيلة قرون من السبات والحيدة عن المحجة.
دعاة العصر العاملين
لا ريب أن من أبرز دعاة العصر العاملين في هذا الاتجاه التعميري، ينتصب الإمام فتح الله كولن في الصدارة؛ إذ عاش -ويعيش- السيرة ميدانيًّا كما تقتضي ذلك تعاليم السيرة ذاتها. فتوجيهات السيرة تقرر أن “المؤمن القائم أفضل عند الله من المؤمن القاعد”، و”اليد العليا خير من اليد السفلى”، و”إذا غربت الساعة على أحدكم وفي يده فسيلة، فليغرسها”.
القرآن يزكي النفوس ويتزكَّى. وزكاة القرآن -كما قال بعض المفسرين- هي تفسيره. والتفسير مستويات أعلاها ما كان تفسيرًا عمليًّا، ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المفسر العملي الأسنى، إذ عمل طيلة حياته الدعوية على تفسير القرآن بتطبيق مقرراته في مطلقيتها ميدانيًّا، بحيث جاءت السنة ترجمانًا للقرآن وبيانًا لكوامنه واغتراسًا لمعانيه على الأرض، يراها المسلمون مشاريع قائمة، ومنجزات ماثلة، ومخططات نافذة وأخرى مستتبعة. وكانت أعمال الخلفاء الراشدين -حقًّا- تفسيرًا عمليًّا للقرآن، إذ استغرقهم التأسيس للمدنية الإسلامية، فكانت اجتهاداتهم ميدانية، قل أن تنفك عن تفعيل الواقع، وإن ما أُثِر عن عمر -مثلاً- من تفسير، هو في حقيقته توثيقات ميدانية، وفتاوى عملية، وتجْليات ترشيدية، نابعة من حراك شمولي كان الخليفة يخوضه مع الأمة في مرحلة شهدت أعظم أطوار دولة الخلافة من حيث التوسع والاستبحار.
ولقد انحسر ظل التفسير العملي عن دائرة التطبيق عبر المراحل المتصرمة من تاريخ المسلمين، ليغدو في عمومه مجرد احتراف لفظي، يشتغل على الدلالة بَدَلَ الواقع، ويشغف من مستوياتها بالبعد الافتراضي -لا الحياتي- بحيث ظل يراوح في الغيبيات التي جعل الله أمرها من شأن الخالق وحده. كما استغرقته التكرارية والسجالات الهامشية التي أحالت المنجز التفسيري -في صعيد عريض من متونه- إلى مدونات باردة، لا يخرج منها القارئ بفائدة تطور واقعه وتثور أوضاعه. لقد أَوْدت الاتباعية الحرفية والمذهبية -فضلاً عن أنواع الفذلكات الجوفاء المشتغلة على التقعيد المدرسي- أَوْدت بالتفسير إلى حال من العقم، بحيث حالت تخريجاته الجوفاء بين القرآن وبين الواقع، فبات القرآن بعيدًا عن الواقع وعن التأثير فيه بقدر بُعْدِ مدونات التفسير عن ملابسة القرآن وترجمة مقاصده.
فالذي “أنهك” المعاني القرآنية في حياتنا، وغيّبها تحت ركامات من التفسير الضحل، هو التواطؤ الاقترابي الهزيل، والمراوحة على تداولية معنوية لم تغص في أرضية القرآن، ولم تجدد رؤيتها بحيث تشمل آفاقه، وهو ما جعل المنجز التفسيري يظل خطابًا ظليًّا لتلك التداولية، لا يكاد يخرج عنها قطميرًا. الأمر الذي استبقى القرآن في وضع الانقطاع عن الواقع، إذ لم يفكر المفسر في أن يتمرس بالقرآن عمليًّا، ويخرج من شرنقة التجريد ومن سجالية عقيمة تنظر إلى الصدى لا إلى الصوت، إلى الوهم التمثُّلي لا إلى الحقيقة الموضوعية.
وربما عرف العصر الحديث حلحلة بسيطة في حقل التفسير على يد بعض رواد النهضة، من أمثال عبده وابن باديس؛ إذ سعوا إلى أن يفتحوا الأفق في وجه المعاني القرآنية، ويدمجوا مساحة من واقع المسلمين الانحطاطي في دائرة اهتمامهم، جاعلين القرآن -على ذلك النحو- مادة المقاومة والإيقاظ.
ولقد أمكن القول إن الدرس القرآني أضحى الأرضية التي بنى عليها فريق من أعلام الأمة فلسفتهم الإيقاظية، فمفكر مثل مالك بن نبي لم يخلّف تفسيرًا، ولكن أعماله في مجملها كانت ترجمة للقرآن وتفسيرًا لمعانيه، ومنطلقات نظرية لنواميسه في مضمار الأخلاق والجمال والحضارة وسواها من حقول المعرفة التي تطرق إليها في بحوثه ومقارباته.
الداعية كولن يفسر القرآن بجلائل الأعمال
وينهج اليوم قريبًا من هذا النهج التنفيذي، الداعيةُ فتح الله كولن، إذ أقام حياته في تفاصيلها وأحداثها وتطوراتها على مبدأ اللحمة والترابط مع القرآن والسنة.
لقد احتذى الأستاذ فتح الله خُطى نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في سيرته العملية هذه؛ إذ سلك سبيل التفسير العملي للقرآن، من خلال السعي بلا هوادة إلى إرساء فلسفة الخدمة التي تنبني على تحقيق الإنجازية الواقعية لتعاليم الإسلام. فجاءت من ثمة برامج الخدمة صعيدًا للتأسيس الخيري، وفضاء للتباري الإحساني والتشييد المشاريعي الذي ينهض بالأمة وتستعيد به روح دينها العملي على النحو الفعلي: “الدين ما وقر في القلب وصدّقه العمل”، “الدين المعاملة”. فمشروطية العمل والتنفيذ هي ركن العقيدة الإسلامية، ولا يكتمل أداء الفرض الشرعي إلا بالثمار، إلا بالبعد الواقعي والمعادل الموضوعي على أرض الواقع، وفي حياة الأفراد والجماعات.
زكاة القرآن تجسدها حركة فتح الله من خلال هذا الخروج المتزايد لأبناء تركيا ممن استقطبتهم -ولا تزال- أنوار الخدمة، وتُشَرِّعُ في وجوههم إمكانات العمل وتحقيق الذاتية المتفانية في ذات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتفعيل أوامره ونواهيه في مجال بناء النفس والإنسان، وإرساء الوقفيات ذات النفع الأصيل التي تهيئ لنهضة الأمة.
في عصر البطالة التي تجتاح الأمم اليوم، وتضغط -بالأخص- على واقع الشباب، وتربك مخططات أولي المال والثراء، وتضيّق في وجوههم مجالات الربح والفائدة، يَتَشَرَّع بابُ (وَقُلِ اعْمَلُوا)(التوبة:105) في وجه أهل الخدمة، وتتسع بوابات (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ)(التغابن:17)، فيزداد بذل المنخرطين من أهل السبق الذين كانوا في طليعة من انطلق يستجيب لداعي الله، ويتجاوب مع نداء الخدمة الذي أرسله فتح الله منذ مطلع التسعينيات(1)، أولئك الذين بادروا بما كان معهم من مال، وفي الحقيقة لم يكن مع الكثرة من أولئك القلة الطلائع، إلا نواياهم المتفجرة صدقًا وشوقًا لاحتضان أيّة سانحة تتأتَّى لهم، فيتقربون بها إلى الله، ويسهمون من خلالها في وضع حجر الأساس لمشروع الخدمة، الذي كان فتح الله يقترحه ويحدو الناس إليه.
اطَّرحتِ البركة في الجهد، وزكت القربات بالتدرج، وزادت النتائج والمحاصيل رغم ما صاحبها من مكابدات عركت أولي العزم، فما أثنتهم عن الاستشهادية، وكادت الإحصاءات أن تخلو جملة من أي حالة ارتداد أو نكوص.
الانجذاب كان عجيبًا، فكان النفر القليلون ينجزون بهممهم المباركة، وانطلاقًا من شبه خواء الوفاض من التجربة والرصيد والخبرة، ما ينبئ أن الأمر لم يكن أمر إرادات، بقدر ما كان أمر قدريات شاءها الحق أن تنبت على الأرض، لتكون منها الخميرة والزريعة والنقلة، ولتنتشر مفالح الخير والخدمة في الآفاق.
تروي سيرة الأولين من شباب الخدمة ورجالها، أنهم طالما دخلوا أوطانًا(2) تشتعل بنيران الحرب، وقد خربت الديار والحواضر، وفرغت من أهلها، وكان القصد من وراء ذلك الاستبسال، الوفاء بحق الموثق الذي واثقوا الله عليه، واستفراغ ما كانت تحبل به النفوس من شحنات تلقوها من روح الإمام “فتح الله”.
كان أهالي أولئك الأوطان المنكوبة يتقاطعون في الطريق مع الأنفار المنتدبين من تلاميذ فتح الله، فيرون فتية عزلاً، هزلاً، شبه حفاة من طول المدى الذي سلكوه على الأقدام، ففي أوقات الحرب، تنقطع المواصلات، وتشح الحياة، ويسود الجوع والمرض والموت.
كانوا يرون أولئك الفتيان على ما بهم من وعثاء ومكابدة، يَظهَرون مطمئنّين، ويبدون من الحرص على النفاذ إلى قلب الأرض المشتعلة، ما يضاهي حرص الأهالي المنكوبين على الإفلات ومغادرة الجحيم. كانوا يسألونهم بذهنية مذهولة، وروح هلعى: “إلى أين متجهكم، وماذا جئتم تفعلون، أم ترى أنتم مرتزقة تبغون الالتحاق بالفيالق، تزيدون من استعار جهنم؟”.
يتطلع الفتية إلى الآفاق، وراء دخان المدافع، ووهج القصف وحمم التفجيرات النازلة من السماء، ويتكلمون بصوت هزيل لكنه حار: “جئنا لنفتح مدارس الخدمة”.
يرتعب الأهالي ويقفزون خطوات إلى وراء، غير مصدّقين أنهم بإزاء بشر أسوياء، ثم لا يبرحون أن يغادروا المكان، لا يلوون على شيء، وحين يلتفتون وراءهم لا يجدون أثرًا للفتية… ترى أبَلعَتْهم الأرض أم رفعتهم السماء… يمضون وقد نهض في نفوسهم إِحساس بأن الطريق قد جمعهم مع مخلوقات من غير أهل الدنيا… كان أولئك الشباب طرازًا من خرّيجي مدرسة فتح الله.
كانت حلقات الوعظ التي يجتمعون فيها إلى الإِمام، اعتراكات لا يخرجون منها إلا منهزمين، طالما اختنق بعبراته وهو يلقنهم سبل الفوز… طالما أمسك بالكرباج وانهال عليهم داخل الصحن، يلهب ظهورهم ويدميها… ما أقسى تقريعاته لهم، وما أشد لذعات بيانه عليهم..! يدخلون المسجد على رخاء نفسي، واستعداد لمصافحة ملائكة المسجد، والتناجي القلبي مع البارئ – عز وجل-، يستغفرونه على هنات وأخطاء وخطايا اقترفوها، واثقين من أنه ربٌّ غفور، يمسح الآثام ويغض عن الزلات، لكن ما أن يصعد الإمام على الصهوة، حتى تدب البلبلة في الصفوف، فيتفشى الوهن، وتخطئ الجموعَ الرباطةُ، وتتزلزل الأرض من تحت الأقدام، كم يكون المنظر مهوّلاً لمرأى أهل الشأن والأسنان وهم يتعفرون تحت ضربات صاحب السيف البتّار، كم هو مخز مرأى الشباب يتدافعون مذعورين، يشقُّون الأثواب ويتناوحون بصوت الالتياع..! أين رجولة القوم، ما الذي دهاهم؟ وتمضي المعركة دائرة، وتتلاحق جولات الكر والفر، تكتنس الغافلين، وتبعثر غير المتحوطين، ومن كان الاعتقاد الخاطئ يملأ نفوسهم بأنهم الغالبون، وأن سحابة يومهم سوف لا تلبث أن تنجلي عن نصر وانبساط يعودون به إلى دورهم راضين مطمئنين بما أدّوا من فرض، وسمعوا من وعظ.
ألفوا الظفر بالسكينة وبما يشبه الوثوق من أنهم بعد غشيان الجوامع وحضور حصص الوعظ سيؤوبون إلى أهليهم مغتسلين من الآثام، على حال أشبه بخروجهم من الحمام وقد تطهّرت جنوبهم ولانت جلودُهم، لكنهم باتوا عند حضور مجلس “فتح الله” لا يجدون من ذلك قطميرًا… كانوا في تلك المجالس على موعد مع الدفع والهز والمعانفة، بل واللطم واللكز أحيانًا، بل ما أكثر ما كانوا يغادرون الجلسة بجروح نزفت، وندوب انبعثت، وكلوم نفطت. كانت خطب الإمام تستثير فيهم مكامن الأدواء، تذكرهم بأوجه العقوق التي ما عبَأوا بها من قبل، والاقترافات التي سدروا وما التفتوا إليها، وبالخطايا التي تداعت إليهم مع إرث الآباء والأجداد… فما استشعروا وطأتها، وما ذاقوا علقم الإحساس بكارثيتها حين نبذوا الموثق، وقعدوا عن تأدية ما سلف للأجداد من خدمة وبأس على نهج المحمدية. كم هي فجيعية تلك النداءات الاستغاثية بالقرآن، كم هي مروعة تلك الضراعات المتشفعة بحرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- والآل والصحب والأتباع.
لا زالت حدة ذلك الصوت الرعدي تنكأُ الأغوار، وتستحيي ما انطفأ من أوزار.
كان مرتادو المسجد يتبادلون النظرات، قلوبهم وجلة مما سيسمعون، كم من أحد بيّت في نفسه عدم معاودة المجلس، لكنه كان يجد نفسه في كل مرة، ينقاد إليه بباعث غامض، فيمضي ويجلس في الموضع ذاته الذي جلسه بالأمس… وما أسرع ما كانت تنقضُّ عليه نفس المخالب، ونفس الضراوة، وإذا هو مخذول يتهاوى بين براثن خطاب لا رحمة له، يعركه، ويُعيده إلى حال من السفور، كأنما جُرِّدَ من ثيابه، كأنما قوة خفية فضحته في القارعة وتحت الأنظار، فلا يملك إلا أن يتحامل مغادرًا الميدان، مدمىً، مكلوم الباطن والأعماق، لا يرتاب قط في أنها آخر معركة يخسرها، لكن القوة نفسها التي اقتادته أمس ستقتاده غدًا، وربما بأقوى ما يكون الجدب، وربما بأعجب ما يكون الباعث.
على ذلك النحو أدمنوا على ازدراد الغصص، على الارتواء من دمع الحسرة، على التقوي على رؤية ما سلف من غفلة بلَّدَت الحس، أو ذنوب اقترفتها النفس في رعونة، أو بدافع شيطاني، أو بتسفل وتهافت روحيين.
اكتسبوا من حلقات الإمام روح المكابرة والجلد ومطاولة النزال… تعلموا كيف يَنْقَضُّون على أنفسهم يهدمونها ويقيمون أرشتكتورًا جديدًا… تلقّوا الصفعات فتفطّنوا إلى النهج الذي يجنبهم الوصم بالنقائص والسفالات والترديات… باتوا يعشقون حشرجة الصدر المعبإ بالعشق، يتبردون بالدمع الحارق المذروف لأدنى ذكرى ولأبسط توق، ولأقل نسمة من حنين. طالما هيّجتهم نعوت الإمام التي تعقد المقابلة بينهم وبين أبي بكر وعمر وذي النورين وحيدرة… باتت أصداء الهزائم في الدنيا بواعث نهوض قوي، تتحطم له قيود الخنوع والصغار والقصور عن استبانة الأفق المليء بالوعود.
من الحلقة الصحنية إلى الائتلاف الجماعي الورشي
تخطى فقه الأستاذ كولن بالمسلم المُتَرَوِّحِ(3) سياجَ العزلة والمصادرة المكانية التي طالما تبرَّج(4) فيها أولو الشأن من المتعبدين، واستبدل جو الخلوة بجو الاجتماع، ووضْع التفرد بوضْع التكثُّر، وحال التوحد بحال التعدد.
تقوم فلسفة الخدمة على اعتماد الاستقطاب النوعي للعاملين، وتجهيزهم بالطاقة الروحية الكافية التي تجعل منهم رجال دعوة وتبليغ، ينتقلون برسالة الله في الأرض، يبشرون وينوّرون، يسيرون على هدي النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعلى موثقه… يحملون الكتاب إلى كافة أهل الأرض تنفيذًا لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ)(سبأ:28).
الخدمة رهان مبرأ من أحمال التعصب العرقي أو الثقافي أو الأيديولوجي، ومقاصده دعوية بحتة تتوخى توصيل الدين الحنيف إلى العالمين… فمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبي خاتم، والإنسانية جمعاء معنية برسالته، وأهل القرآن موكلين بحمل تعاليم تلك الرسالة إلى الآفاق، لتبرأ ذمتهم من حيث الائتمان والتكليف… فمسؤولية أمة محمد التبليغية قائمة إلى يوم الدين، ولا عذر لها في القعود عن تأدية واجب التبليغ مهما كانت الظروف التي تشرطها. وإن عهود الانتكاس التي سلخها المسلمون في غيبوبة تاريخية منكرة قد أزف انجلاؤها، إذ تهيأ اليوم للأمة من أسباب اليقظة ما يقتضي منها النهوض والمبادرة إلى تقمص دور الهداية الذي هو دورها.
منطلقات تكليفية لا تحد، نصّ عليها القرآنُ، ونوَّهت بها السنةُ، تدفع المسلم نحو التواصل الكوني… فمبدأ الوسطية (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(البقرة:143)، يقتضي بناء سبل التواصل مع العالمين، وشق الدروب نحو الأمم والشعوب من أجل استكمال المهمة التوصيلية التي أعطى إشارة الانطلاق فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لولا أن الأمة انكبحت وحادت عن وجهتها ولم تستكمل مهمّتها، حيث أقامت السياسة الدنيوية التي تَوَحَّلتْ الأمة في حمئها هوةً لم تزل منذ العصر الأول تتسع وتعمق من واقع القطيعة بين المسلمين وأمم الأرض.
لا مطعن قط في طرق باب الأمم اليوم، ووضع كتاب الله بين أيديها، حتى تلك الأمم التي تتوفر على عقيدة وتتجهز بدين تحتاج أن تطلع على رسالة الإسلام الحق؛ إذ إن الإنسانية بلغت اليوم حدًّا من التفتح، يتيح لأوساط متنورة منها أن تتقبل الحوار… وإن الاعتراكات الحياتية المؤلمة التي طفق العصر يفرزها وينال بها من المعنى الحياتي، ويشوه من روح التمدن، قد هيأت قطاعات لا تفتأ تتسع من الرأي العام الإنساني، لتقبل الرؤية المغايرة، والبحث عما يفيد ويجدي في التخفيف من وحشية المدنية المادية.
هناك ديانات توفرت على البعد الروحي والزهدي شبه المطلق، لكن طبيعة هذه الديانات تناسب حصرًا أوساط الترهب والفئات الجانحة إلى القعود والإشاحة عن الحياة… فطبيعة تلك الديانات طبيعة سكونية غير حراكية، إذ الانقطاع التعبدي يتنافى تمامًا مع شرط الاستمرار الحياتي والوجودي… والإسلام نصَّ بقوة على منحاه الدنيوي المرشد “أما أنا فأصوم وأُفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني” أو كما قال عليه الصلاة والسلام. لذلك يترشح دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون بديلاً مطلقًا عما سواه من العقائد والأيديولوجيات، لشمولية مبادئه، وواقعيتها، وسموها المتأهل لتصفية الزمان والمدنية من الشوائب الناتجة عن التطور المدني والترقي الحضاري. ذلك لأن امتياز الإسلام يكمن في قدرته على مصاحبة الفعل الإنساني عبر سيرورة الزمان والمكان من موقع الاحتواء التطهيري والتهذيبي، فهو لا يكبح جماح الرقي، لكنه يعطيه الصبغة الاتزانية والمسحة التوازنية، بحيث لا يسف التطور المادي بالإنسان، ولا يخرج به عن نطاق إنسانيته السوية.
ليست الدعوة الإسلامية اعتداء على أحد أو تدخلاً في شؤون أحد، لأنها ديانة لم تخص قومية بعينها أو بقعة بذاتها أو عصرًا بحصريته، كشأن أكثر الديانات المبنية على الاعتبار الخصوصي. ثم إن مبادءها تعلو بالبعد الإنساني من منظور وحدة الجنس البشري وتساويه في الآدمية وفي المقومات التي تعصم للآدمي الحق الأساسي في الوجود والكينونة والامتيازات؛ ذلك لأن الإسلام يجعل البشر وكافة المخلوقات يعودون في النسب الوجودي والكينوني إلى الله الواحد الأحد، وهذا الاشتراك في الربوبية الأحدية هو الذي يكفل التآخي والتراحم، وهو ما يعطي للحياة معنى التكافل والمسؤولية المشتركة.
لا ريب أن الحياة خلقت للتمحيص، وهي معرضة لاستشراء أدواء الأنانية والتغالب والتظالم، وقد قرر القرآن أن الظلم والعدوان والتدني والغيرة الشرسة غرائز مجبولة في النفس الإنسانية منذ البدء، وقصة هابيل وقابيل تلخص هذا المغزى وتشخصه، لذا كانت البشرية مهدَّدة بالتوحل في رماد التدافع والاقتتال والتمحيص الذي يعرض للإنسان كلما فرَّط في وصايا الله، وحاد عن كمال الفطرة.
إن الإسلام كتاب يقترح على البشرية تعاليم يغدو بها الترابط الإنساني حقيقة قابلة للتجسيد متى التفتت المجتمعات للمبادئ التي ينشدها الإسلام.
في هذا الاتجاه تندرج الدعوة الخدمية التي أعد الأستاذ الداعية كولن هياكلها، وأتم دستورها، ولا يفتأ ينشطها عبر شبكات متوسعة من المجاميع البشرية، والمؤسسات الإنشائية، والائتلافات التعميرية، والتعاليم التوجيهية، والتوسلات الدعائية للحراك الخدمي بالتوفيق والذهاب في النماء إلى الغاية التي يتاح فيها للعالمين تلقي الكتاب المبين.
وجّه كولن الأمة -من خلال الطلائع- إلى فقه صناعة المدنية المؤمنة على أسس من الدعوة إلى الله… لأول مرة في تاريخ المسلمين، تتداعى الفئات والكتائب، وتتزايد عددًا وعدة، وتتواثق على الذهاب بالدعوة والتبليغ إلى أبعد الآماد.
نهضت الحفنة من طلاب كولن بلا رصيد، إلا زادًا من الروح، وانضم إليهم رعيل من الميامين، أقبلوا بما ملكت أيديهم، وغالبوا النفس، وأجروا جراحة قاسية على مناطق الشح من أرواحهم، ثم التفتوا إلى الله يحمدونه أن جعلهم يلتحقون بمنزلة (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)(الانشراح:1-5). كم هو عجيب أمر أولئك الأفراد الذين استيقظوا صبحًا على نية بذل العُشر من رأسمالهم للخدمة، وتدرجوا عبر ساعات النهار يرفعون تلك النسبة من البذل، حتى إذا كان وقت العشاء، وجلسوا في مجلس الهمة، رأوا أنفسهم يفرغون الوفاض حتى القاع، ويخرجون وقد ارتدوا إلى حال الفقر، لكنهم ما يئسوا وما قنطوا وما أحسوا بفداحة ما صنعوا، لأن النفس كانت قد تلقنت تعاليم البذل من القرآن، ولأنها كانت أجرت عملية استئصال في منطقة الشح من النفس، فلذا استقبلت واقعها الجديد، حيث فرغت اليد وخلا الجيب بكل الطمأنينة التي ينتفي معها كل قلق وكل ضغط، وينعدم كل ندم ووجل من الخصاصة.
تجرّدوا من المادة دفعة واحدة، وآمنوا أن الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا(5)، فهم إذن بعد مجلس الهمة أضحوا طيرًا، يضمن الله لهم اللقمة على أي نحو، ولا يعنيهم بعدئذٍ اعتبار للثروة أو للتمول والسيولة.
انتقلت التجربة إلى البلاد الشقيقة، فللعرف سريان وإن كان مشؤومًا، فكيف وهو كله سعد وخيرية وبركات.
بعض تقربوا من الخدمة تيمُّنًا، وبعض استئناسًا وتواصلاً مع أربابها، واستلهامًا لأساليبها في الإخصاب والزكاوة؛ فالتوفيقات تلوح من كل ملمح في المشاريع، وتجتذب أهل الحمية والكسب والمتعطشين لملء ذات اليد.
بدأت خطوات الانخراط تَترى على بطء، لكنها لا تفتأ تَعِدُ بالإِدرار، فأول السيل قطر، والجلائل تبدأ دائمًا نُقطية، نادرة، يبدؤها أفراد تسكنهم اندفاعة الحرقة إلى الكمال، ورغبة التحرر من ضغط الكزازة، فيفرغون ما في الجعبة بذلاً وعطاء، مختارين طريق الكدح ومداومة العطاء والاحتساب بما يصيبهم من حظ، لا يسوؤهم أن تخلو أيديهم من المال المبارك، وأن يتحملوا أعباء الكد وتحمُّل العيش الكفيف، ثم يهش لهم الحظ، ويذللون الصعاب، ثم ترتد إليهم الحياة طائعة منقادة، وهنا يلتحق اللاحقون، وتتكاثر الأيدي للمبايعة على البذل، ويفشو الخير وتعم المحامد.
المدرسة الأرقمية
أول مدرسة أمها القرآنيون تأسست على يد النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول البعثة، واتسم نظام ارتيادها بالسرية والحذر، هي مدرسة الأرقم، “ولم تكن إلا دويرة ضيقة، جدرانها ملأى بالثقوب، وفي سقفها تُسَدِّي الرتيلاءُ أعشاشها”… فيها تكاملت أول جماعة اشتُحِنت على يد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بطاقة القرآن؛ كانوا يدخلون رحابها ولم تتمصمص أوعيتهم الباطنية من سُعْر الكفر، فإذا هم بعد جلسة أو جلستين في حضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يتشللون، ويغدون يلمعون كأنما هم قوارير سكب عليها ماء ثجاج، فجددها وأعاد لها طغرائيتها الأولى، أو كأنما هي تخرج من غلافها التَّوَّ.
وكانت الصُّفَّةُ مدرسةً أخرى ذات طابع عمومي، مفتوحة على التعليم المتواصل، لا تنقضي حلقاتها، تتوزع مرتاديها مجالس تحفيظ القرآن، وحلقات المذاكرة وفهْم وصايا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومضارب الخلوة والتوبة، أو معاكف التأمل والتدبر في معاني (اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الفاتحة:2) و(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(الإخلاص:1).
وجردت الهجرة أصحابه -صلى الله عليه وسلم- من كل ما يملكون، إذ خرجوا متسلّلين، لا يتوفرون حتى على الراكوبة، يقطعون المفاوز لحاقًا أو استباقًا إلى دار الهجرة حيث شاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبني نواة لمدنية فاضلة تكون كعبة أخرى تهوى إلى بركاتها وتعاليمها أفئدةُ العالمين.
شَلَّلَت الهجرةُ قلوبَ الصحابة وأعادت تطهيرهم، وستتوالى عليهم التمحيصات المُورِّثَةُ لليقين؛ بدر، وأحد، وفاجعة انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، ومثيلاتها، فتكون كل واقعة تمحيصًا للمؤمنين، وتزكية لهم، وتثبيتًا لأقدامهم على الموثق. ذلك لأن الله شاء لهذا الدين أن ينتهي إلى العالمين على يد أطهار عركتهم الامتحانات وعجمت عودهم وهم يشدون على الراية، فما زادتهم الابتلاءات إلا جذرية في الثبات، وصميمية في الصمود على الحق والقرآن. لقد جازوا أنواع الإنفاق الشاقة، فما وهنوا وما استكانوا، إلى أن انتهوا بالإسلام إلى الشاطئ حيث انتصب عقيدة الحق التي لا تبلى، والتي ستكون -حتمًا- ملاذًّا للعالمين، يأوي إليها البشر، بعد أن تترداهم طويلاً الضلالاتُ، وتحطمهم الجهالاتُ.
المال حاضن الدعوة وسندٌ لخطواتها
قيّض الله أنفارًا منذ البدء للدعوة أن يكونوا سندها الحسي، وداعمها العملي، من بين رجال المال والأعمال، أولئك الطليعة الموسرون الذين احتضنوا الدعوة ساعة المخاض، وتعهدوها وهي في القماط، ثم صاحبوها وهي تحبو، إلى أن وقفت ودبت على قدم.
كانت أمّنا خديجة -رضي الله عنها- أولى من طرح الثروة في حجر محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأطلقت له اليد في الإنفاق، وزادت على ذلك -حين يجب- الرأي والمشورة والتأييد في القرار… ماتت أمّنا خديجة وقد رأت مالها قد استنفد في الخدمة، وألفت نفسها في أخريات حياتها تعيش الإِعواز والشوق إلى اللقمة الجافة، هي التي قضت حياتها تضع يدها على مصادر المال، وتدير التوريد والاستيراد، تغدو قوافلها بالبضائع وتروح بين اليمن وعُمان والشام، تستجلب الثروة إلى سيدة مكة وعميدة تجارها خديجة بنْت خُوَيلد.
كان سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه- ثاني اثنين يَهُبُّ إلى التصديق، ويسارع إلى وهْب ثروته إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لم يخامره في كل أطوار الدعوة شك أو استرابة، ولم يشب عزيمته فتور أو وهن، كأنما وحي الرسالة كان يتنزل عليه هو، وكأنما وقائع الغيب التي كان النبي يخبر عنها، كانت تتجلى له (سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه-) عيانًا، وتتكشف له بيانًا؛ ذلك لأن الله ربط بين الرجلين بحميمية وصحبة توطدت على السمو الفذ، إذ لم ير سيدنا أبو بكر من صاحبه (المصطفى -صلى الله عليه وسلم-) طيلة ارتفاقهما قبل الدعوة إلا ما يبهر ويجعل الرفيق يوقن عميق اليقين بأنه إزاء مخلوق ليس على النَّجْر البشري الذي ألفه أو يتخيل وجوده… لذا كان أبو بكر -رضي الله عنه- نموذجًا للمثالية في سيرته الإيمانية سواء في عهد الصحبة والدعوة، أم بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وما أعقب ذلك الحدث الجلل من تمحيصات أجلت الألماس من النحاس.
إن من يتأمل الاستجابة التي كانت من أبي بكر وهو يتلقى خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- للصغيرة عائشة، يدرك أن الصلة بين النبي وصاحبه الأوفى كانت تجاوزت خطوط الاعتياد، لأن الصاحب كان قد خبر في صاحبه من الآيات البينات ما بات يضعه في عينه فوق كل استرابة أو تساؤل.
مات أبو بكر -رضي الله عنه- وهو يتسبب لرزقه في الأسواق، بعد أن أنفق ثروته دون حساب، وكان سهمه في كل اكتتاب هو الأجزل والأوفى.
ومثله كان سيدنا عثمان -رضي الله عنه-، إذ كانت ثروته في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي الرصيد المذخور لدفع التكاليف الكبرى، لا غرابة أن نرى الأستاذ كولن يؤكد أن ما شاع عن إنفاق سيدنا عثمان -رضي الله عنه- على قرابته وهو خليفة، إنما كان إنفاقًا من صميم ثروته التي لم يفرق يومًا بينها وبين ما في خزينة مال المسلمين، ولم تكن الخزينة تحوي شيئًا في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لأن ريع الفيء والزكاة كان يُصَبُّ لأصحابه في الحين، إنما أداء كلفة المصاريف الكبرى كلما طرأت، كان ينهض بها عثمان -رضي الله عنه- ونظراؤه من ذوي اليسار، سواء في تغطية حاجة الفقراء الدائمة، أم في تجهيز الحملات العسكرية وتغطية مقتضيات الدعوة حين الضرورة.
ولقد أمكن للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ينشئ السوق في دار الهجرة، ويضبط الأسوام (والعملات)، وأن يُحيِّدَ الحكرة اليهودية في المدينة، ويقلص منها على مستوى مراكز التجارة في الجزيرة العربية، وأن يحرر التجارة من نفوذهم، ويعطي للعملة السعر القار بتحريم الربا… الأمر الذي جعل “بُورْصة” ذلك الزمان تسير على التقييم الإسلامي، بعد أن ظلّت دهورًا في يد الربويين اليهود، ويترتب عنها توسع اقتصادي عم المجتمع الإسلامي، ومكَّن للحراك التجاري أن يدر الرخاء على الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ممهّدًا لفرْشَةِ ازدهار شملت القارات من خلال شمول النظام التداولي الإسلامي للأرجاء الحيوية من العالم القديم.
لقد تم للرسول -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك التوفيق، لأن الله أوجد في الأمة أثرياء ورجال أعمال موفّقين إلى الخير وحسن العاقبة، من أمثال سيدنا ابن عوف -رضي الله عنه- ومَن احتذاهم في لاحق الأعصار، يعرفون كيف يسوسون الأسعار، وكيف يروّجون للحلال، وكيف يديرون الثروة والمال في خدمة الدعوة، محقّقين بالفعل ما قرره القرآن في شأنهم من كونهم مستَخلفين في مال الله، إذ هم المعنيون بهذا النداء الذي خص الله به أهل الحظوة: (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)(الحديد:7).
إن منهج الأستاذ فتح الله كولن اليوم، وهو ينتدب أهل الثروة، إنما يريد أن يحتذي في مشروعه الإنهاضي خطى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولأنه واثِق من أن حب الخير والإحسان جبلة في الناس متى ما توفرت لهم أسباب الانتفاض على أنفسهم، والتمرد على شيطان النفس الذي يقيِّد الروح ويعيقها عن التجنيح في معارج الكمال.
ما ظفر أبو لهَب، الغنِيُّ القريب من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وامرأته الحسيبة النسيبة، إلا بالذكر السيئ، والصورة المسفة والرمزية الشائهة، عكس ما نال الصادقون الأبرار الذين أفرغوا الجيوب، وأخلَوْا الأيدي من الثروة، تقربوا بها إلى الله المانح الباذل المغني المفقر.
يُشَيِّدُ الرجلُ الدنيوي الصروحَ، ويُعلي البروجَ، ويؤثثها بكل زينة تَفنَّنَ في ابتكارها شياطينُ أهل الدنيا الغَرور، ثم يقف حيالها، فينتفخ ضحوةً زهْوًا وخُيَلاء، وسرعان ما يسري إليه فتورُ التعودِ على الوهج، ثم تتراكم السآمة في نفسه، فيزداد جموحه إلى تجديد الوهج، وإلى تجريب طبوع الرفث، وما أكثر القاتل من تلك الطبوع، ثم تتصرم السنون والعقود، وتحل الشيخوخة وقد حفيت الأضراس وصدئت المفاصل في غير ما يكرم ويشرف، وكم هي خسيسة شهوات الدنيا إذا لم نسْمُ بها، فجورٌ ومقاصف ورهاناتٌ قمارية أو تنافسية أو تنازعية تكاثرية، وكلها مفاتن تطحن العبد وتتعرَّقُه دونما طائل يخلده ويستبقي ذكره، وأي أغنياء الأرض من أهل (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)(التكاثر:1) جلس إلى طعامه يومًا خليَّ الذهن من الحساب والتوتر؟!
يجمع اليوم مشروع النهضة كما يقوده كولن أركان الخدمة بأطرافها المتكونة من خرّيجي المدارس، ومن المموّلين أهل الخير، ومن حولهما جموع المحبّين ممن يناصرون النهج، كل حسب دوره وأهليته، الواعظ يدلل عليهم ليجد الخيرون السبيل للسير معهم بالدعاء وبذل المحبة في الله، والكتاب أهل الإعلام يحلّلون الفلسفة، ويجلّون مقاصدها القرآنية، ويقربون المعاني الكامنة في أفكارها إلى الناس… والنيرون أهل الإيمان ينشرون محامدها أينما حلّوا، رابطين الجهد كما يتجسد على أرض الواقع اليوم، بما سلف من الجهاد المحمّدي الذي أرسته الدعوة في عهد سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعهد الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم-، وكما احتذتْه أعمالُ التابعين من الأسلاف عبر العصور.
لا حاجة للحركة الخِدمية في الدعاية الإشهارية إلا ما كان خالصًا لله، صادقًا في الإدلال على أبعادها البنائية والإحيائية؛ ذلك لأن الأمة -التي لم تستوف بَعْدُ ترابطَها، نتيجة قرون من التفكك المترتب عن عهود الانحطاط ثم عن عهود الاستعمار- ما زالت في حاجة إلى أن تتلاقى على المشاريع المشتركة، بحيث تصب الإحواض والجهود مجتمعة، فتخلق النهر الذي يشق الأرض ويعمر الصحراء.
ولأن الدعوة إلى الله تقتضي إعادة تشكيل الأمة الناهضة، فلذا تنشد دعوة الخدمة أسباب التوسع، فهي تتفتح لكافة أهل الخير ولجماعات أهل البركة واليُمْن أن تلتحق بالله والرسول، فتَحْيَا القرآن جهودًا فعالة، ومساعي بنّاءة، وبرامج خلاقة.
لا ريب أن الدعوة إلى الله دعوة عالمية، وأن تبليغ الرسالة إلى العالمين هو الشرط الوجودي للمسلم، لذا تَوَجَّبَ على المسلمين أن ينهجوا إلى الدعوة بفكر العصر وبيداغوجويته… ولمَّا كانت المهمة جسيمة ومحفوفة بالصعاب، كان التكاثر النوعي والطلائعية النيرة من وسائل الخدمة ومن عوامل التقوي والقدرة على الحراك.
يرى كولن أن المحركات الفاعلة عديدة لاستحداث البعثة، لكن الاحتياط من الطليعة المؤمنة، أهل الحرقة والعشق والدأب الذي لا ينقطع، يأتي في مقدمة العوامل التي تنهض بالخدمة؛ فأهل الدينامية والموثق يتموقعون في رأس المقدمة، لا ينحرف الخط بمسارهم، ولا يَميلُ نظرُهم عن الغاية العظمى، ولا بصيرتهم عن كتاب الله وتعاليم رسول الله، ولا يحيدون عن سيرة الإمام الملهم مجدد العصر، الذي ما اقتنى قرشًا ولا فرشًا، ولا ملك نشبًا ولا كسبًا… عاهدوا الله على خدمة الإيمان، واختاروا الأبقى والأدْوم، وصمّموا على أن تكون جماجمهم جسرًا تعبُره الأجيال المحمدية ومعها الإنسانية إلى غد إسلامي رقراق بالفضائل والخيرات.
إن طليعة الخدمة هي القاطرة التي تجر اليوم عربات الخدمة، وتوصل رسالة الإسلام، وتبث فكر النهضة والتجدد في أقاليم الأرض وأرجاء الكون.
إنهم أهل العشق الذين نموا في كنف الترشيد، وتخرجوا بيد الإمام فتح الله على منهج القرآن، الذين ينتشرون اليوم، يزرعون الخدمة في أقطار الأرض، ويُعرِّفون العالمين بحقيقة الإسلام دين الناس كافة.
كما أن من الطليعة فئاتُ البذل ممن استقطبتهم الدعوة إلى الله، فأصاخوا السمع، ثم تحركوا صوب الداعي، ثم افترشوا الرصيف يتابعون شهيقه، ثم حدث لهم الزلزال، فتخرب كيانهم من الداخل، وساروا ذاهلين عن نفسهم لا يدرون من حقيقتهم شيئًا، ثم أشرق من طيات الادلهمام بصيصُ نورٍ، سرى يعمر الخرابات الداخلية ويجددها على أسس من تقوى ودعائم من يقين. هنالك نفضوا الأيدي وشدوا الأحزمة، وأعلنوا تجنيديتهم، مقدمين ما بين أيديهم وما خلفهم من مكسب، قد استحالت نظرتهم إلى الكون وإلى النفائس، فلكأنهم خلقوا خلقًا جديدًا… باتوا ينظرون من نفس الكوة البهيجة التي نظر منها الأطهار، باتوا يسيحون حيثما ولوا الأبصار في ممالك الخلد، فكأن مَسَّةً من الفردوس نفذت إليهم، فأصارتهم جنسًا آخر مبرأ من كل مخازي الأنانية والشح والانغماس والتهافت.
للفئات والأوساط والجماهير دَورها في تبنّي الخدمة من خلال تفهم مقاصدها الإحسانية الخالصة لوجه الله، والانخراط -إن أمكن- في برامجها بروح لا يشوبها طمع في محظوظية دنيوية، ولا يمازجها مطمح في سمعة أو جاه أو رتبة؛ إذ من أساسيات المصداقية في الإيمان -كما يقول كولن- أن يحسب المسلم حساب فائدة الإسلام قبل نيل الرتبة… إن هذه القبْلية تعني الامّحاء، إذ لا تَقدّم للفرد على السلم العروجي إلا بالامّحاء والتجرد التام من الغرَضية، ولا نهوض للأمة ومجتمعاتها على نهج الحق واستعادة حرارة الإيمان إلا بالتنصل الكامل عن الأهواء والضلالات، والتحزب لله وحده.
يسري التأثر إلى الجماهير أينما حل فرسان الخدمة، فمدارسها لا تبرح أن تحقق التميز، وتضحى مطمح الأهالي في احتياز مقعد للأبناء بها، ولأن الدعوة تتم على أيدي رجال الخدمة ميدانيًّا من خلال التواصل المباشر، والقيام بزيارات إلى الديار التركية، حيث يتاح للزائرين من كل صوب أن يطلعوا على المنجزات والمفخرات التربوية والاجتماعية والصحية والثقافية والإعلامية والعلمية وسواها من أصناف الحقول البنائية… ترتدّ الوفود إلى أوطانها قد تهيأت إلى العطاء، وما أكثر ما تفتّحت النفوس أمام ما ترى من جليل أعمال المحسنين للعطاء، وما أكثر ما بادر أهل العزم إلى حبس الأراضي والتعهد بإقامة العمارة المناسبة عليها احتسابًا لله… كثيرون هم الذين واثقوا الله في السرّ أو العلَن على مشاطرة الخدمة محاصيلهم من الدخل والكسب، وهكذا يفلح مشروع الأستاذ كولن في جعل أهل البصائر يهتدون إلى طرق من الخير تعمر الأرض اليباب، وتمكن للنهضة أن تكسب من الأسباب المادية والروحية ما يعجّل بعَودتها إلى ديار الإسلام.
مساحة الخير تبدأ صغيرة ثم قد تتقلص وتتراجع؛ فالشيطان رصّاد لكل بادرة إحسان، لكن الوعي وتتابع العمل وتواصل التنبيهات والتحفيزات التي ينهض بها رجال الخدمة في كافة أقطار الأمة، يجعل تلك المساحة تتّسع بتدرج وريث، لتعرف التسارع متى ما تناهى العلم بالمشروع إلى أولي الألباب وأهل الجنة.
ليس كل ذي مال مؤهّلاً لأن يدخل صفّ الخدمة، فما أكثر ما رأينا رجال أعمال يُدعَوْن إلى مجالس تنوير، فما يكاد المتحدث يطرق باب الإحسان والتطوع إلى الخير حتى تلقاهم فرّوا من المجلس فرار الخزي.
لا يقبض أهل الخدمة العاملون خارج تركيا مال محسني الأوطان التي يطرقونها، ولا يتصرفون فيه إلا إذا أوكلوا به، فإنما دعوتهم لأهل كل بلد أن يبنوا المدارس والداخليات، وأن يقيموا المستشقيات والمصليات، وأن يفتتحوا الأسواق والمؤسسات الكسبية، ليكون الريع لصالح العباد، ولتتوسع المرافق الخدمية وتتوطد نِعَم الله أمام الفئات، ولتتجند الإرادات، وتتوجه إلى ترقية الإيمان وتبليغ رسالة الله لأهل الأرض في هذا الزمن الوبيء.
من جهتها هيئةُ الخدمةِ تتطلع إلى أن تؤسس مرافق التكوين العلمي والرعاية الاجتماعية والثقافية في بلاد الله كافة وبلاد المسلمين على وجه الخصوص… وإذا كان هناك من الدول ما فتح الباب في وجه الخدمة وأتاح لها أن تنشئ وتؤسس، فإن هناك بلادًا أخرى تواصل الإغضاء عن الدعوات المتكررة الموجهة إليها من أجل فتح باب العمل الخدمي والترخيص له ضمن شروط التقيد بقانون تلك الدول.
الأنظمة القاصرة ترى أن الانغلاق يطيل أعمارها، وهو اعتقاد بليد، والدليل ما نراه من أمر الصين وكوبا، فالصين نفسها التي كانت مثالاً في مجال التحجب والامتناع عن المؤثرات، ها هي اليوم تسير على طريق الانغماس التغربي رغم التحوطات الكبرى التي يتخذها أساطين نظامها القومي الشيوعي سنة الله في الأرض، ولن تنجو أمة أو زمرة أو نظام من طائلة التحلل، إلا تلك التي تتوفق إلى هضم الواردات وتأصيلها وإضفاء الروح المحلية عليها.
وكان الأولى بالبلاد المنغلقة أن توجد العقلية الفعالة التي تتلقى الأفكار والمناهج الواردة، فتكيفها وتدمجها في الوجهة الوطنية، فتكون تقوية ونفعًا لها.
الضغوط الخارجية في حقل الأفكار والقيم تطرق الحدود اليوم بكل قوة وعناد، وكل ما تسد الأنظمة الباب في وجهه، لا ينفذ من النافذة بل ينزل من السماء، تتلقاه الأسطح والأفنية والرحاب والأصعدة، وإن مشاريع الخدمة التي لا تفتأ تقيم لها أوطئة ومواطئ قدم في مختلف البلاد، ستشق الأنفاق، وتجسِّر الأجواء وتمد الأسلاك والقنوات مع كل أرض منغلقة، وستجد الأنظمة نفسها أمام ظاهرة خيرية لا سبيل إلى الاعتراض عليها.
لا ننس أن تأدية حق الله لا يتأتى إلا لأهل الله ممن يؤسسون كسبهم على الحلال، ولذا فإن الشيطان أقرب إلى نفس صاحب المال المنهوب، والجهد الزائف والثروة المربية. فالذين نراهم عزفوا عن الاستجابة إلى مجالس التزكية، وفزعوا منها وغادرواها كأنما سمعوا ما يسيء لهم ويؤذيهم إنما هم أشقياء، يستعبدهم الشيطان ويرغم أنوفهم في تراب المادة، فلا يزيدهم ذلك إلا شقاء وغفلة.
كثيرون في عهد العولمة والدعوة إلى الاستثمار سارعوا إلى الاقتراض من بنوك الربا، وانخرطوا ينمون ثروة بروح هوجاء، لا تراهن إلا على الكسب، تتحايل على الظروف، ولا تتردد على ارتكاب أنواع الإفك، فهي كما طابت نفسًا بنيل مال الربا، تعمل بذات الظمإ لتمريره في قنوات من التزوير والخيانة والتنصل من موثق استرداده، متواطئة في كثير من الأحيان مع الأجهزة البنكية الحكومية التي باتت تحترف مهام التزوير، وتحذق طرق المسح والعتق من الدين، لكون موظفيها مرتشين، يشاركون في تحصيل القروض ومحوها بمقابل.
هؤلاء الشريرون لا يحملون في ذواتهم ذرة من خير، فلذا تكون دعوتهم إلى مجالس الهمّة ضربًا من النفخ في الرماد الذي لا يجني فاعله إلا تغبير وجهه وتشويه طلعته.
عكسهم الأريحيون الذين يسكنهم حب الخير، فإنهم يجدون في التجند وراء مشاريع الاحتساب ما يبدل حياتهم، ويرتفع بهم إلى صعيد من الرضى عالٍ؛ إذ أنهم كلما أعطوا وبذلوا، يستشعرون الوجود الحق، ويحسون أن حياتهم باتت تمتلك المعنى الذي ظلت تبحث عنه من قبل أن تهتدي إلى طريق الخدمة.
وتسمع بمآثرهم، فتتوقع أن ترى رجالاً على طراز بدري، لكنك تلتقيهم فلا ترى إلا أناسًا في تمام البساطة، بل ترى أفرادًا يجللهم الامّحاء، فكأنهم ما أنفقوا وما بذلوا..! وتعلم أنهم يزاولون العمل الربحي، فلا ترى عليهم أثرًا لتوتر ولا انشغالاً بمواعيد… يتصرفون في إدارة حياتهم على إيقاع الصلاة… يجنحون للصمت فلكأنهم في قنوت دائم، تتفتح قلوبهم للأذكار وسماع المخشعات… يبدأون نهارهم بقراءة الرسائل الإيمانية أو حضور مجالسها، وحين يتصدون للمهام تراهم يباشرونها في وثبات لا تزيغ عن السكينة… فالبركة تشملهم حين الحركة وحين السكون.
إنهم يعمرون بواطنهم -نتيجة ما يداومون على وضعه في يد الله من بذل- بحبور ليس وليد اللحظة، ولا هو سريع الانطفاء… حبور يستوطنهم ويلازم أعماقهم في أحوال اليقظة والمنام، الحل والترحال… لا يساومون بضاعة أو عقارًا أو معطى كسبيًّا آخر إلا وسبق إلى أذهانهم حق الله فيه… فهم من ثمة يحوزون شرط البركة والجزاء سواء أتمت الصفقة أم لم تتم، بل سواء أو كسبوا منها أو لم يكسبوا؛ لأن الضمير انصرف في المنطلق إلى تحقيق مرضاة الله، فهم من ثمة جذلين الجذل الباطني الدائم الذي اكتسبوه ونمته فيهم روحية الإحسان والاحتساب.
من المحسن البياني إلى المحسن البنائي
القرآن غادر محطة التفعيل الدلالي التي طالما مارسها المفسرون عليه، إلى محطة الفقه التعميري الذي اقتضته بواعث الاستفاقة واستعادة الدور والابتعاد عن موقع الذيلية الذي بوأنا فيه سوء فهمنا لمقاصد ديننا، وخطؤنا في التعامل مع فحوى كتابنا وسنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا كان “عبده” -ومن قبله الأفغاني والأمير عبد القادر- يُعَدّون في طليعة من سعى إلى التحلحل بالدلالة القرآنية عن محطة الجمود، بحيث عملوا على استشراف شيء من أبعادها الدنيوية، بعد أن ظلت تكرارًا مولعًا بالغيبيات والقدريات التي أرشد القرآنُ نفسه المسلمين إلى تجاوز التركيز عليها في مواطن عدة، توجيهًا للعقل الإسلامي أن يأخذ بشرطي الإسلام الكامل وهما الإيمان المقرون بالعمل الصالح، أي بالتقوى وبالتعمير؛ فقد بيَّن المولى في كتابه من خلال قوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الإسراء:85)، كيف يصرف المسلم ذهنه عما هو خارج نطاق العقل، أو عما يدخل في إطار علم الله، إلى ما يندرج ضمن دائرة العقل فينشده، مسلّحًا بالعبادة والعبودية التي ترجع كل توفيقاتها إلى الله تعالى.
بل إن قصة التساؤل عن عدد أصحاب الكهف بقيت معلقة، ولم يبينها القرآن رغم أن الموقف كان سجاليًّا، وما ذلك إلا لأن الإسلام شاء أن يرسم ببيداغوجيته الأدائية/الترشيدية الوجه المثمرة الذي على العقل المسلم أن يشتغل به وعليه، فلا تستهلكه الافتراضات التي تخرج عن علم الأرض وعلم الإنسان إلى علم السماء وعلم الله.
لا ريب أن القرآن اليوم يتخطى المشاغل البيانية والبلاغية التي استغرقته دهورًا، إلى مشاغل البناء والتعمير ببُعديه الإنساني والمادي.
فصورة محسّناتية مثل التي قرأ بها فقيه إعجازي هو عبد القاهر الجرجاني، قوله تعالى: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)(مريم:4)، وهو أن الإعجاز حصل في هذه الآية جراء تعاقب حركة الشيب حين يدب في الرأس، مع حركة النار حين تسري في الهشيم، وإن السقفية التي احتلّتها هذه التخريجة البلاغية الجرجانية عند سائر أجيال البيانيين والمفسرين وعلماء الإعجاز، قد باتت ذهنية العصر الراهن تتجاوزها، لا لعدم كفايتها في التحليل التذوقي، ولكن لأن القصد التعميري الملح اليوم، يستوجب أن تتفتق المعاني القرآنية عن أبعاد أخرى تكمن فيها، ومرامي أجَدَّ تحتويها.
لقد رأينا الأستاذ كولن يمارس التفسير، لكنه تفسير نقطي، يحتلب من ضرع الآية ما يرمم به نفسية المسلم المأزوم المهزوم، ويعيد إليه التماسك والعزة.
وإن استلهام طريقة الأستاذ كولن في التفسير، يجعلك تتوجه بمعنى آية “اشتعال الرأس” السالفة، إلى مجالي أخرى قريبة من الذهن، وأكثر صلة بواقع المسلم الحياتي، فإن المسخ المدني لحضارة لائكية قد بات يكتنف المسلم ويلفه في شرنقة من الغفلة، بحيث بات يعيش مفتونًا، نهبًا لضغوط العيش والجري وراء المستهلكات، فلا يعبأ الفرد إلا وقد جلله الشيب وطواه الهرم، كل ذلك والسجل فارغ من الحسنات، طافح بالسيئات، فلا سانحة للعودة إلى الفتوة وتجديد القوة لشق طريق ملؤه الإيمان، بدل طريق الغفلة والجحود والإفلاس الذي سلخ فيه العمر.
بل إن اشتعال النار في الرأس هو إيحاء إلى الرماد، وإلى نفاد الذخيرة، وإلى انعدام ما يجعل النفس تأنس وتطمئن… ولعمري إن مفهوم “الوهن” و”الهرم” ومشارفة عتبة الهلاك، ليحيل إلى شيخوخة المدنية التي تعدم الروح، المدَنية العقيم، الغافلة عن الإيمان بالله، والعاملة على غير وفق نوامسيه وتعاليمه… كشأن مدَنيتنا اليوم، وإن تورّطنا في أوحالها، بوصفنا أمة تهيأت برسالتها لتكون الشاهد والرائد والمؤطر، قد أحالنا أمة واهنة، عقيمًا، لا وزن لها ولا حرمة، إلا باللواذ من جديد بالخالق، نسأله التوبة، ونستمد منه القدرة والتوفيق في النهوض بالدعوة من جديد، وعلى أسس من التواثق الخالص المكين.
فآية “اشتعال الرأس” هي آية المتاب الذي يتجدد به الميثاق مع الله، والذي به تغادر الأمة مضيق العقم الروحي إلى فسحة الرخاء الحضاري التي يكفلها لها الإيمان والعمل الصالح.
إن منهج كولن في التفسير يرتكز على خطة الغوص تحت السطح، ومجاوزة الإطار الشكلي الحرفي، إلى استنطاق روح الدلالة، واستخراج إيعازاتها التي تفيد في محاصرة الحطة، والدفع بالروح إلى آفاق التجدد والعبودية والاقتدار التاريخي والاعتداد الحضاري.
ويمكننا أن نتحسس الرؤية الكولنية إلى الدلالة من خلال تمثله لـ”اللفظ القرآني”، فهو يرى أن كل كلمة في القرآن هي نافذة إلى الجنة، وإن هذا التمثل يبتعد -حقًّا- بالمفردة القرآنية من حقل التفعيل الافتراضي الغيبي والمحسناتي الذي حاصرها فيه التفسير طيلة القرون، ليتحول بها إلى فضاء التحقق والتجسيد الواقعي، من خلال استكناه معاني تبني الروح وتقوي النفسية المؤمنة، واستشفاف مدلولات تحفز على البناء والتعمير وامتلاك القوة التي يتعزز بها الإيمان الحق.
“الخدمة” تفسير للقرآن
ومما لا ريب فيه أن القرآن الذي لم يستغن عن المفسر حتى في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحياة الخلفاء من بعده، أي خلال العهد الذي كانت فيه العربية لغة المسلمين الأوائل، لن يستغني في كل عصر عن المفسر، لأنه دين مفتوح على العالمين، يدخلونه أفواجًا وأعدادًا، ويقتضي ذلك منهم المرشد والموضح والموجه، أي المفسر (العملي والنصوصي)… فهو من هذا الجانب يُعتبر كتاب الأمّيين بالفعل، إذ كل طارئ عليه يحتاج إلى تعلم أولياته ومبادئه قولاً وفعلاً، عبادة وأخلاقًا… فكما فسّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن للأميين، ظل السلف يواصلون مهمة التفسير، غير أنهم ضيّقوا مجالها، إذ ظلت الحرفية والافتراضية الغيبية والأسطورية الكتابية تطغى على التخريجات القرآنية… الأمر الذي انعزل به القرآن عن الواقع، فلم يعد الموجه المرشد، ثم لبث يتراجع مع الزمن إلى سطحية شكلية وتخويفية نفّرت أكثر مما حبّبت، أبعدت أكثر مما قرّبت.
ينتحي اليوم مشروع الخدمة تفسيرًا عمليًّا للقرآن، فالخدمة نهج يفسر القرآن ميدانيًّا من خلال إحلال الدلالة محلاًّ إنجازيًّا، فكما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عاش وجعل الصحابة يعيشون القرآن على أرض الواقع، يحدو اليوم كُولَن الطلابَ وأهلَ الهمّة إلى أن يكونوا قرآنيين قولاً وفعلاً؛ فإذا تحدثوا عن التقوى كانوا تقاة بالقوة والفعل، وإذا تحدّثوا عن الفلاح كانوا مفلحين بالقلب والقالب، وإذا تحدثوا عن الموت كانوا أمواتًا بالاحتساب والامحاء والرقابة ونكران الذات وهم أحياء، وإذا اعتكفوا اعتكفوا في قلوبهم، فهم يعيشون في قلاع الروح حتى وهم يسيحون في الأوطان، شاغلهم العمل لله من حيث يحسب الجاهل أنهم يشتغلون لأنفسهم.
إن الخدمة تقرأ التفسير اليوم على أنه النهوض للدعوة والتبليغ بالوسائل المتجاوبة مع العصر، إذ توفير المدرسة كان المشروع الأول للرسول -صلى الله عليه وسلم- في رهان تشكيل الصفوف الأولى للجماعة والأمة، وكذا بناء المصلى والمرفق الاجتماعي والخدماتي، إذ هي وسائل يوفرها الإسلام من خلال جهد المسلمين، يفيد منها ذوو الحاجة، ويطمئن بها الطارئ على الدين، إذ لا يكفي أن نردد أن الإسلام هو دين العالمين ولا ننهض بما يقتضيه منا واجب التهييء لاستقبال واستقطاب الأفواج التي لن تتردد في الإقبال على الدين الحق متى ما تلقت التحسيس الصحيح.
إن الإسلام منوط بمهمة التبليغ مدى الدهر، فهو الدين المطلق الأحكام، تعاليمه لم تلبّ حاجات مرحلية فحسب، ودلالته فوقية عابرة للعهود، وتخصيصاته تعميمات… ولعل مفتتحات كثير من سوره دالة على هذه اللازمنية والفوقية المعنوية التي تميز الفحوى القرآني، من حيث صلاحيته لكل زمان ومكان، إن قوله تعالى: (الم)، (المر)، (المص)، (حم)، (حم * عسق)، (طسم)، إلى آخر ما هنالك من البنى اللامعنوية، أو التي معانيها فوق عقلية، يرمز إلى هذا البعد اللازمني الذي يميز القرآن، فما صلح به أول الأمة يصلح به آخرها، وأجَل هذه الآخرية مفتوح لا يعلمه إلا الله.
كما أن تنصيص القرآن على المحورية الكونية من خلال قوله تعالى (أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الأنعام:92)، هو إشعار بالموقع الوسطي الذي شاء الله أن يكون للأمة الوسط، فمن هذه الوسطية تنتشر الأنوار، ويتعدى الإسلام والقرآن الشرط المحلي إلى العالمية، وهو ما تنطلق منه الخدمة، إذ توجهت وجهة عالمية إنسانية كونية.
إن القرآن هو النص الأم، الاستيعابي، الاحتوائي، الذي يعلو ولا يُعلى عليه مهما اطَّرَدَ التطورُ بالإنسان، وامتدت به الأشواط الحضارية وتعرجت مسالكها.
يقرأ كولن النص القرآني بروح النهضة والتعمير، ويستمد من روحية تعاليمه الربانية ما يبني الإنسان العامل، ويحشد الجماعة المجندة، ويبرز الطائفة المنتخبة الظاهرة على الحق، التي ترتد إليها أنظار العالمين فترى الفتوح تترى على يديها، وتتلقى الترشيدات منها، فتقبل على ما تحمل من رسالة، تحضنها وتعتنقها، وتضحى جزءًا مليًّا فيها.
طالما قرئ القرآن بغرض ترسيخ التزهيد في الحياة، والتنصل من مسؤولية العبودية التي لا يترجمها إلا العمل الصالح الذي يتهيأ به الإنسان لأن يكون من السائرين على (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)(الفاتحة:6-7).
مع الخدمة بدأ خيار روحي، توجه فيه المسلم خريج الخدمة إلى العمل بالقرآن عملاً تطبيقيًّا، متجاوزًا الذهنية التي طالما اعتقدت أن القرآن كتاب تهميشي، يحول بين المسلم والحياة.
مع مشروع الخدمة بدأ الأخذ بالقرآن الذي يعمل لأجل الآخرة، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ)(التوبة:105)، وتراجعت الرؤية التي طالما جعلت من القرآن العظيم كتاب التعطل وانتظار الموت (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ)(الفرقان:77)، والدعاء عمل وأخذ بالأسباب.
نهج كولن في تفاعله مع القرآن، الطريق الذي كفل له أن يستخلص العدة المفاهيمية والاصطلاحية، فضلاً عن استقراء قوانين الحضارة حياة ومواتًا… واستنبط من سيرة قصص القرآن وشخوصه كما عرضتهم السردية الإعجازية، مدونات لضبط السيرة والسلوك، ومضابط لفقه المقاومة والصبر… ففتْية أهل الكهف مثلاً، رسموا بصمودهم -كما صوره القرآن- الإطار الأمثل للإيمان الثابت، والهجرة إلى الله، واحتضان الموثق، والانبعاث بالعقيدة، من أجل إعادة غرسها وإنماء شجرتها الباسقة تُظل العالمين.
إن القصص القرآني لا يروي وقائع سلفت، وإنما إلى ذلك يلهم الإنسان كيفيات ومناهج لضبط الحياة، وبناء الخطط، واستمداد ما يعين على مغالبة الضغوط، والخروج من العراك بما تحمد به العاقبة، ويكفل سعادة المصير. بل إن القرآن لبث يقدم لنا من المنبهات والموضحات ما لو تعمّقنا معانيه لسعدت حياتنا… وإن حفول القرآن بالعبر ليشمل قصار السور على نحو ما يشمل طوالها؛ فسورة مثل “اللهب”، لم تأت فحسب لتسجل السخط والنقمة الإلهيين على أبي لهب وامرأته الشرّيرة، وإنما جاءت تعرض أيضًا النموذج الأُسري الشقي، وتؤكد مسؤولة المرأة في بناء سعادة الرجل والأسرة أو تدميرها.
وإن سورة مثل “النصر”، لم تأت فحسب للإيعاز للرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- بدنوّ أجَله، وإنما إلى ذلك أبانت الكيفية المتّزنة التي ينبغي للمسلم أن يتلقى بها البشائر والنجاحات (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)(النصر:3)… إن مغزى هذه السورة يعيد فضل الإنجازات إلى الخالق، وبذلك يظل الاحتساب هو مبتغى المسلم، دونما طمع أو تطلع إلى انتحال اعتبار يتجاوز نطاق العبدية… إن الآدمي كما يبرزه القرآن كائن عابد، فبالعبادة تَمَّحي العبدية بمعنى الشيئية (البعد عن الله)، وتترسخ العابدية بمعنى المعراجية (القرب من الله).
وإن سورة مثل “الكافرون” لتمثل التوجيه الإلهي الذي يؤكد مبدأ التمايز في عالم معولم، عالم ستزداد اختلاطية أممه، الأمر الذي يقتضي الإبقاء على الفارق الروحي ضمن إطار الاعتراف بالغيرية (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(الكافرون:6).
تنفتح الآفاق في وجه رجل الخدمة، فيجوب الأصقاع، ويتعرف على العالمين، مجسدًا في سياحته الخدمية تلك، مستوى من الإيمان ساميًا، بل إنه في تطوافه بين البلاد عاملاً ومؤسسًا ومبلغًا، لينهض بدور تمثيل نبيه ورسوله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- المبعوث للناس كافة.
ولا تفتأ البيوت تستقبل أصناف الطلاب من رجال الغد ونسائه، فهي مشاتل تخرّج دفعات العمل الخدمي الدعوي والتعميري المراهن على المستقبل. وينتظر أن تتوسع الاهتمامات الخدمية، فتشمل قطاعات حياتية مهمشة لكنها تعتبر من صميم الفعل الثقافي والتأصيلي العضوي، إن بيوت الخدمة ستضع في اهتمامها مستقبلاً تلبية حاجات لا تزال الأمة مرتهنة فيها لروحية الآخر، المختلف في توجهاته الحضارية والوجودية عن روحية الإسلام… إن تعمير بيوت الطلاب بالعنصر النسوي والرجولي الذي يهتم بالموضة الأصيلة وبالتفصيل اللباسي المنسجم مع أخلاق الإسلام -مثلاً- هو أفق لابد وأن تقتحمه الخدمة، ولابد أن تتشكل المصانع التي تُعوِّم بلاد الإسلام بالتفصيلات المستمدة من أرضيتنا الغنية بالأنماط، والخصيبة من حيث تنوع الأزياء، حتى لا نبقى نعيش العري الذي تمضي في فرضه علينا عقلية التهتك والخنا الغربي، وأخلاقياته السفورية المتهمجة.
ويقال الأمر نفسه عن مجالات الصيدلة وصناعة العلاج، واستغلال الإمكانات التي تتوفر عليها بلاد الإسلام من حيث غنى الطبيعة النباتية، وحفول الأرض بأصيل الأعشاب والبواقل.
لا ننسى حقول التكنولوجيا، فخريجو الجامعات المتزايدو الأعداد، يمكن أن تختلق لهم الخدمة فرص إنشاء المؤسسات والمخابر، حيث يتاح لهم تحقيق عبقرياتهم… إن التعليم الذي ينشده الأستاذ الإمام، هو تعليم يحفز على الإبداع والابتكار، ويستجيب للحاجي والكمالي، ترسيخًا للتمايز الذي يعمق نموذجيتنا القرآنية المتّزنة والمتوازنة.
إن الخدمة مهيأة لأن تغدو نشاطًا تأهيليًّا نوعيًّا، فالعلوم التي تتلقاها الأجيال الراهنة ستعرف التوسع إلى “ما لا تعلمون”، وستعرف التنوع والشمول، بحيث يتحتم على رجال الخدمة أن يصنعوا النماذج الحياتية في كافة شعب الحياة، بدءًا من دور التمثيل والفنون والأذواق، إلى إقامة مؤسسات صناعة السيارة المستقبلية، والطائرة السيارة، ووسائل الاتصال والأدْوية واستغلال ما لدينا من قدرات وموارد لا تحصى. وهو ما لبثت كتابات(6) الداعية كولن تلح عليه.
(*) جامعة وهران / الجزائر.
الهوامش
(1) الحقيقة أن حركة فتح بيوت الطلبة وتوفير التأطير لهم بدأ في ستينات القرن الماضي، حين اكترى الأستاذ فتح الله وأفراد من المحسنين أول بيت طلابي بمدينة إِزْمِير، استقر فيه عدد من الطلبة المحتاجين إلى الإيواء. فكانت تلك المبادرة فاتحة خير وانطلاقة ميمونة في مجال إرساء مشاريع الخدمة.
(2) البوسنة، أفغانستان، الصومال، الشيشان وغيرها.
(3) أي المشتغل بثقافة الروح وبالرياضة السلوكية.
(4) أي اتخذها بُرْجَه العاجي الذي ينزله فرارا من ضغوط الحياة.
(5) روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا”.
(6) انظر: كتاب “ونحن نقيم صرح الروح”، وكتاب “ونحن نبْني حضارتنا” للأستاذ فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.