أكرم الله – سبحانه وتعالى- الأمة الإسلامية في القرن المنصرم بجملة من الرواد، جددوا إيمان الأمة وأعادوا إليها مطلوبات القوة والحيوية في مجالات العلم والتربية والقيادة والدعوة والسياسة والاقتصاد.. وازدهرت نوى التجديد التي غرسوها فأينعت وأثمرت، مما وضع الأمة على أعتاب مرحلة جديدة بعد عصور الانحطاط والاستعمار.
“إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا، فطوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس”، فطوبي للرواد الذين برزوا في مجالات الدعوة والعمل الاجتماعي؛ كالإمام حسن البنّا باذر بذرة كبرى الحركات الإسلامية في المجال الدعوي والاجتماعي والسياسي، وكالمفكر الإسلامي مالك بن نبي الذي أسهم قلمه في بعث الغشاوة عن القلوب والعقول، وكالأستاذ سعيد النورسي الذي مثلت وجهوده وخطبه وسعيه بين الناس معالم مدرسة من مدارس التجديد والإحياء -نضّر الله جهوده- كما قال الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- “نَضَّر اللهُ امرَأً سمع مقالتي فَوَعاها وحفِظها وبلَّغَها” (رواه الترمذي).
برزت حركة الخدمة بجمعياتها ومدارسها وحركتها الفكرية وسعيها الدؤوب، لإعادة فتح العقل الإسلامي والعالمي بـ”اقرأ” والقلم. وكما بهرتني مساجد العثمانيين الضخمة بجمالها وهيبتها، فإن حركة الخدمة تبهرك بإخلاص رجالها وتضحياتهم وفدائيتهم..
وفي الهند برز سماحة الأستاذ أبو الأعلى المودودي، والأستاذ أبو الحسن علي الندوي وآخرون.. أسهموا في تجديد الإيمان في قلوب أهل الهند خاصة والأمة الإسلامية عامة. كأنما عناهم الحديث المروي عن الإمام أحمد “إن الإيمان يَخلَق [أي يبلى] في القلب كما يَخلَق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدّد الإيمان في قلوبكم”.
عانت الشعوب الإسلامية أشد المعاناة في التمسك بدينها في فترة ما قبل الحربين العالمتين وما بعدهما، وتعمق صدع العقل المسلم الذي ظل مأزومًا بالفتنة الكبرى والصراعات الطائفية وسقوط الأندلس، إلى أن تجدد الصدع بتحرير شهادة وفاة الخلافة العثمانية وبروز الدولة القومية القطرية العلمانية بديلاً لمشاريع الوحدة والتجديد الإسلامي.
ووسط نيران هذه المأزومية برز رواد التجديد الإسلامي في شكل جماعات وأفراد وطوائف، وفي الحديث المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود)، وقد يكون المجدد فردًا أو طائفة أو جماعة، والله أعلم حيث يجعل رسالته. وصاحب هذا القلم ظل -كغيره- يسعى لتفيء ظلال التجديد ما بين عبد الحميد بن باديس -وصحبته الجزائر مسلمة وإلى العروبة تنسب- وفي ظلال القرآن لسيد قطب، وجهود الشيخ حسن الترابي في السودان في تجديد الفكر السياسي الإسلامي وارتفاع وعي العقل المسلم، والذي أثمر مؤسسات دعوية واقتصادية واجتماعية وشبكات تواصل يقول لسان حالها “دعوة الحق نادت بَنيها فاستجابوا لصوت النداء”.
ومن تركيا برزت حركة الخدمة بجمعياتها ومدارسها وحركتها الفكرية وسعيها الدؤوب، لإعادة فتح العقل الإسلامي والعالمي بـ”اقرأ” والقلم. وكما بهرتني مساجد العثمانيين الضخمة بجمالها وهيبتها، فإن حركة الخدمة تبهرك بإخلاص رجالها وتضحياتهم وفدائيتهم.. فهم في دارفور؛ بقُراهم ومدارسهم وتساؤلهم “هل ثمة أحد”؟ وهم في ربوع إفريقيا ومتاهاتها، وهم في آسيا الوسطي يرفعون الأنقاض حتى يطلّ العقل الإسلامي من تحت الأنقاض.
مَن هم هؤلاء الرجال الذين يفتحون القلوب والعقول، ويبنون المدارس، ولا يتكلمون إلا باسم الأمة وباسم التجديد وباسم إحياء القلوب وباسم كل التراث الإسلامي والتاريخ الإسلامي؟! تجد فيهم رائحة المهندس “سنان” في إبداعه، وعبق الإمام الغزالي في إحيائه، والنورسي في سعيه المبارك، وجلال الدين الرومي في ترانيمه وابتهالاته، والإمام البنّا في تخطيطه وتدبيره.
ولعل مفتاح حركة الخدمة في “اقرأ”، حيث تنزل خطاب “اقرأ” إلى آلاف من المدارس ليس فقط لفكّ الخط ومحو الأمّية، ولكن لإعداد جيل من الموهوبين من فُرسان العلوم الحديثة، في الربانيات والفيزياء والكيمياء واللغات وغيرها من أدوات الصعود والوثبة الحضارية، في إطار مشروع الأستاذ العابر للحدود الجغرافية والحواجز السياسية.
ويعجبك رجال الخدمة بتواضعهم، فتظنّهم لأوّل وهلة، مجرّد دراويش في منظومة صوفية وغير واعين بالمسارات الكبرى التي تشكّل العقل وتحرّك التاريخ. ولكنك تفاجَأ حينما تجد بينهم رجل الأعمال الذي وجه طاقاته وماله للمشروع، وتجد بينهم المهندس والطبيب والعالم والمربي الذي يتابع ترقّياته المهنية والروحية في إطار تخصصه، وتجد بينهم الصحفي والكاتب والواعظ والمدرّس، وكل في ثغرته ولسان حاله: “إياك إياك أن تؤت حركة الخدمة من قِبلك!” وحينما تراهم، يعمر قلبك بالإيمان والحب، وتتذكر قول الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(الأنفال:24).
فتسأل “مَن وراء هذا المشروع، ومَن وراء هذا العمل”؟ فيقال لك بصوت خافت “إنه الأستاذ فتح الله كُولن”.
ولكن مَن هو؟ إنه ممن نسي حظوظ نفسه من أجل خدمة غيره، ومنهجه الفناء في خدمة الآخر كسبيل للفناء في عبادة الله، والفناء في حب الآخر طالما قاد ذلك لمحبة الله.
وتسأل “أين هو”؟ فيقال لك لقد فرّ بدينه متأسيًا بموسى ويوسف عليهما السلام حيث مُكِّن لكل منهما في منزل الغربة.
وتسأل “ما هو خطابه السياسي وبرنامجه الاجتماعي”؟ وتعجب أنه لا يستعجل الأمور، لأنه مشغول ببناء ما هو أهمّ وأجلّ من السياسي، فهو في شغل عن السياسي بعكوفه على بناء المسلم الذاكر، ببناء بيت الرب في قلب العبد. ومشغول بتنزيل خطاب القرآن المكّي الذي ربط بين التوحيد والتجريد والخدمة، خطاب التوحيد الذي ربط بين أفراد الله بالوحدانية والعبودية وفكّ الرقبة وإطعام ذي مسغبة واِقرأ.
ولعل مفتاح حركة الخدمة في “اقرأ”، حيث تنزل خطاب “اقرأ” إلى آلاف من المدارس ليس فقط لفكّ الخط ومحو الأمّية، ولكن لإعداد جيل من الموهوبين من فُرسان العلوم الحديثة، في الربانيات والفيزياء والكيمياء واللغات وغيرها من أدوات الصعود والوثبة الحضارية، في إطار مشروع الأستاذ العابر للحدود الجغرافية والحواجز السياسية.
وحينما تدخل على مشروع الأستاذ بعقلية الحصر والعد يتيه، كما ينبّه المتبتّل والمتفكر في محراب التأمل والتدبر والنظر والجمال، حيث يدهشك جمال اللامركزية في المشروع، وأناقة الندّية بين أبناء المشروع.. ويبهرك تعدد الأوقاف؛ وقف الكتاب والفنانين، وقف رجال الأعمال، وقف الباحثين، وقف أساتذة الجامعات، وقف الجمعيات الطوعية والخيرية، وقف التواصل والتداخل عبر شبكات التواصل الاجتماعي، المستوصفات، المدارس، دور النشر… وكلها في حالة تناغم داخلي وخطاب عالمي. وتسأل “كيف التشبيك؟”، ولا إجابة، ولكن قد تردد من باطنك: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(الأنفال:63).
وتسأل عن قصة المشروع وصاحب المشروع، فلا تجد إلا بعض إجابات؛ إنه من زمرة الفارّين إلى الله، والفرار إلى الله على كونه انتصارًا، إلا أنه من أصعب الاختبارات، لا يغامر في السير فيه إلا المصطفَون. ونحسبه من الطائفة، وإلا فالبدايات مكابدات حتى تسميته مع صرخة الميلاد، إذ نازعت السلطات الكمالية في تسميته، رافضة اسم “فتح الله”، والذي كسبه في النهاية عن استحقاق وجدارة وإن حرم منه في شهادة الميلاد. وتسأل عن الطفولة والدراسة والوظيفة، فإذا هي سلسلة من المجاهدات؛ الاكتفاء بالنوم على نافذة المسجد، والخشن من الثياب، والتقشّف والقليل من الإيدام، ثم الملاحقة الأمنية والعمل السري والسجن، ثم الفرار إلى الله.
هذا فتح الله كولن الذي في خاطري، والله أعلم.
(*) رئيس جامعة إفريقيا العالمية الأسبق / السودان.